في الفعالية رقم (90) من فعاليات منتدى الأطروحة (11)، التي يقدمها الأستاذ محمد عبدالحليم، يتناول بقراءة نقدية للمنظور الاقتصادي فيما يخص تعامله مع أزمات البنوك أو المصارف، كما تجلت – مؤخراً – في انهيار بنك وادي السيليكون( Silicon Valley Bank SVB) وما تبعه من ارتدادات سواء على مستوى أميركا أو القارة الأوروبية. وهنا نسأل، هل أزمة البنوك فعلياً هي أزمة تخص البنوك، منفصلة عن المنظومة الرئيسية التي تعمل من خلالها البنوك؟ وتعمل بحسب آلياتها وقوانينها المعلنة، بل وقوانين حركة المجتمع الرأسمالي؟ بنفس المنطق ممكن أن نسأل، هل أزمة المناخ – مثلاً – تخص البيئة بعيدة عن النشاط الإنساني الذي تتَشكل وتتحدد معالمه بحسب نمط الإنتاج السائد أو نمط الإنتاج الرأسمالي؟ أيضاً بنفس المنطق ممكن أن نسأل هذا السؤال، هل خطر حرب نووية – مثلا ً-، مرتبط برغبة جنرال عسكري أو قيادات سياسية، منفصلة عن منظومات التسليح وآلة الحرب ورغبات التوسع والتمدد بلا حد، للحفاظ على فكرة النمو لأجل النمو؟ بحيث يجري كل ذلك وفق آليات محددة يفرضها نمط إنتاج معين؟
هذه أسئلة مشروعة، هل الأمر هو كذلك؟ أم كما يقول كارل ماركس: “إن رأس المال لا تتأثر حركته من الناحية العملية -قليلاً أو كثيراً- بمشهد انحطاط الجنس البشري في المستقبل، ولا بالانقراض النهائي لهذا الجنس أكثر ممَّا تتأثر باحتمال سقوط الكرة الأرضية على الشمس، يعرف الجميع في كل عملية من عمليات السمسرة والمضاربة بالأسهم أن الصاعقة ستنقض إنْ عاجلاً أم آجلاً، إلَّا أن كل واحد منهم يُمَّني النفس بسقوطها على رأس جاره، بعد أن يكون هو قد جمع المطر الذهبي واختزنه في حرز أمين، وليكن من بعدي الطوفان، هذا هو شعار كل رأسمالي وكل أمة رأسمالية”. هذا ما يقوله ماركس في الجزء الأول من كتاب “رأس المال”، وهذا ما سنحاول فهمه مع المحاضرة للأستاذ/ محمد عبدالحليم، الحاصل على درجة الماجستير في الاقتصاد الدولي عن موضوع “علاقة الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالتبعية الاقتصادية”، ويعمل كمحلل ائتمان في الجهاز المصرفي المصري، وعمل في عدة مؤسسات مالية، كما يشغل أيضاً موقع أمين مساعد أمانة التثقيف المركزية بحزب التحالف الشعبي الاشتراكي، هو أيضاً مهتم بالاشتباك مع الرأي العام من خلال كتابات عديدة على شكل مقالات في عدد من المواقع والمنصات، وله أيضاً اهتمامات أدبية، فقد أصدر عدة مطبوعات في هذا الصدد، منها رواية صدرت عام 2022 تدور حول أحداث الثورة العرابية، وهي رواية تاريخية بعنوان “الفلاتية”، وأيضاً صدر له مجموعة قصصية بعنوان “عالقون في مشفى حكومي”، وهذه المجموعة تنتمي للمدرسة الواقعية في الأدب.
المحور الأول
بداية، أود أن أضع خريطة لسير الندوة، سنقوم، أولاً، بعرض سريع للأزمة المصرفية الحالية، وتحديداً للأزمة التي شهدها بنك وادي السيليكون، وثاني محور هو سؤال: لماذا تحدث هذه الأزمة؟، والمحور الأخير هو كيف تعالج الرأسمالية أزمتها العالمية؟
سريعاً، بالنسبة للأزمة التي يشهدها القطاع المصرفي في أميركا والتي ابتدأت مع بنك وادي السيليكون، فإذا وضعناها في سياقها نجد أنها تأتي في محاولة أميركا الخروج أو التعافي من الأزمة المالية التي حصلت والانهيار الكبير الذي شهدته أسواق المال والمصارف في عام 2008، فإنها اعتمدت سياسات تُسمى بسياسات التسيير الكمّي، وحقبة الـ (زيرو فائدة). ونقصد بسياسات التسيير الكمي هو ببساطة أن القروض يجري تقديمها بأسعار فائدة تقارب الصفر، والهدف منها هو تشجيع المؤسسات والشركات على الاقتراض رخيص الثمن أو منخفض التكلفة، وبالتالي يساعدها على التوسع والنمو وتحقيق معدلات تشغيل في الاقتصاد، ومن ثم تحتفظ أميركا أو الغرب على التفوق الاقتصادي في مجمل المنظومة الرأسمالية.
بنك وادي السيليكون، SVB، نستطيع أن نقول عنه بإنه من البنوك النوعية، بمعنى إنه مع تطور الجهاز المصرفي، بدأنا نشهد -كبنوك- إن هناك بنكاً -أو مجموعة من البنوك- يكون مجال اهتمامهم “بيزنس – عمل” محدد في قطاع معين، فعلى سبيل المثال البنك الزراعي يكون معنياً بالدرجة الأولى بتمويل العاملين في قطاع الزراعة في بلد ما، وهكذا … بنك الـ SVB من البنوك النوعية وتعاملاتها هي مع الشركات العاملة بمجال التكنولوجيا (High Technology) المعنية بالتطبيقات الالكترونية وتطوير أنظمة التشغيل. مثل هذه الشركات شهدت حقبة من الانتعاش بسبب من سياسات التسعير الكمي أو الـ ( زيرو فائدة ) لأنها تمكنت من توفير تمويل رخيص لها، وبالتالي استطاعت تمويل أنشطة البحث والتطوير، وهو الذي ساعد على تحقيق طفرة في مجال التكنولوجيا على مدار السنوات الماضية – كما هو مُلاحظ- ففي كل يوم هناك تطبيق إلكتروني جديد، وتحديث في وسائل الاتصالات، ويومياً كان هناك اختراعات حديثة تسهل الحياة أكثر، وهذا بفضل التوسع غير المسبوق في عمليات البحث والتطوير التي تقوم بها الشركات والمؤسسات التي تكون تحت رعاية بنوك مثل بنك SVB.
كيف حدثت أزمة هذا البنك؟ هنا يتوجب تقديم شرح مختصر لكيفية عمل البنوك ليساعدنا في الفهم: بخلاف رأس مالها، البنوك تعتمد على (التزامات) مثل الشهادات الاستثمارية والودائع والحسابات الدائنة كحسابات التوفير، وتستخدم تلك الموارد وتوظفها في أصول تدر عليها الأرباح كالقروض والاستثمار (شراء وبيع) الأوراق المالية وأذون الخزانة والسندات الحكومية. ويمكن القول إن عمل البنك، عموماً، ينقسم بين “الموارد” من جهة، و”الاستخدامات” من الجهة الأخرى، المقصود بالموارد هي إيرادات البنوك وتمويلها، عن طريق الودائع والشهادات والحسابات المصرفية للشركات في البنك والقروض التي يتم تقديمها للشركات أو للمقترضين، أما “الاستخدامات” فالمقصود بها الاستثمار في الأوراق المالية لشركات أخرى أو أدوات الدين الداخلي التي نسميها “أذون الخزانة” أو “سندات الحكومة”. بخصوص أزمة SVB، فإن البنك كان يتلقى ودائع ويدفع عليها فوائد 0.25 % أي حوالي ربع في المئة أو نصف في المئة، ثم يشتري بواسطتها سندات حكومية بفوائد 1.8 %، أي بربح قرابة 4 أضعاف، وهذا ينطبق على القطاع المصرفي في أميركا بصفة عامة، يأخذ ودائع بأسعار صغيرة ثم يشتري بها أذون خزانة أو سندات حكومية بفائدة أعلى ويحقق مكاسب عالية قد تصل إلى 3 أو 4 أضعاف على هذه العمليات.
بقي الأمر كذلك تقترض الشركات من البنوك بأسعار فائدة منخفضة لتمويل أعمالها وتوسعاتها، حيث يحقق البنك أرباحا عن طريق الاستثمار بأدوات الدين الحكومية الأميركية. وكما يعرف الكثير منا، فإن أميركا هي أكبر دولة مدينة في العالم لأنها طوال الوقت لديها عجز في ميزانها التجاري حيث تستورد أكثر مما تُصدِّر، وفي نفس الوقت لديها عجز كبير جداً في المصروفات، أي يوجد في موازنتها العامة مصروفات ميزانية ضخمة بحيث لا تغطيها الإيرادات، وهو ما يعني أنها طوال الوقت تقوم بتمويل العجز عن طريق إصدار أذون خزانة وسندات حكومية. بإيجاز، يكمن الفرق بين أذون الخزانة والسندات الحكومية في الفرق في الآجال، أي أنهما سوياً يمثلان أدوات لتمويل العجز، أي أدوات للاستدانة، إلَّا أن أذون الخزانة يكون أجلها من ثلاثة أو ستة أو تسعة شهور أو سنة، بينما السندات الحكومية غالباً ما يكون أجلها أكثر من سنة، وتصل في أحيان كثيرة لعشر سنوات. إذن يوجد في المعادلة أمامنا شركات تقترض وتتوسع، وتحقق أرباح عملياتها، وحكومة قادرة على تمويل العجز لديها. كيف وقعت الأزمة إذن؟
الأزمة بدأت حين وقعت حرب روسيا وأوكرانيا، وحدثت أزمة في أسعار السلع الأساسية وأسعار الطاقة بالأساس نتيجة الحظر الذي أوقعه الغرب على روسيا والتي قامت بالرد عليه بشأن إمدادات الغاز لأوروبا بما أثر على أسعار الطاقة بشكل كبير، والتي أدى ارتفاعها إلى التأثير بشكل كبير على أسعار السلع والخدمات، لنشهد بذلك معدل تضخم مرتفع وتحديداً في الغرب. البنك الفيدرالي الأميركي– شأنه شأن أي بنك مركزي في أي دولة بالعالم- معني في المقام الأول بمكافحة التضخم.
الأداة التقليدية لمكافحة التضخم كبنك مركزي – وهي أداة مهمة جداً من أدوات السياسة النقدية للبنوك المركزية وفي حال أميركا لدى البنك الفيدرالي– هي اللعب على سعر الفائدة، بحيث أنه توجد علاقة كلاسيكية عكسية ما بين سعر الفائدة والتضخم: كلما ازداد سعر الفائدة ازدادت تكلفة الاقتراض بما يجعل الشركات تُحجم عن الاعتماد على القروض وتسحب السيولة من السوق، وبالتالي يقل المعروض النقدي للتداول في الاقتصاد بشكل أو بآخر وهو ما يؤثر على معدل التضخم بالانخفاض نتيجة انخفاض حجم النقد المتداول في الاقتصاد. هذا ما أقصده بالعلاقة العكسية ما بين سعر الفائدة وبين التضخم.
ما تأثير ذلك على البنوك، مثلاً بنك SVB؟ ذكرنا أنه كانت توجد سياسة الزيرو فائدة حين لم يكن هناك تضخم، ولكن بعد حدوث التضخم ولضرورات مكافحة معدلات التضخم الكبيرة، رفع البنك الفيدرالي والبنوك المركزية العالمية معدلات الفائدة في اقتصاداتها وأجهزتها المصرفية. نتيجة ذلك كانت حدوث ارتفاع مواز في أسعار الفائدة على السندات وأذون الخزانة والودائع والقروض مما نتج عنه أمرين: أولاً، بدأت الشركات تسحب ودائعها من البنوك لارتفاع تكلفة القروض عليها، فمن جهة تستخدم الودائع المسحوبة لتمويل التوسع في الأعمال، ومن جهة أخرى لخفض التكاليف – هنا حدث ضغط على البنك في بداية الأزمة لأن الودائع التي يجرى سحبها تمثل الموارد لديه. ثانياً: يوجد تأثير لسعر الفائدة السلبي السابق على البنوك بسبب من أن سندات الحكومة الأميركية الأقدم، التي هي لأكثر من سنة، كانت مطروحة بفوائد 1.5 % أو 1.8%، بما يعني انخفاض سعرها لأن أذون الخزانة وسندات الحكومة الجديدة طُرحت بفوائد أعلى قرابة الـ 4% . هذا يعني أن الحكومة الأميركية كانت تستدين بفائدة قليلة حين كان سعر الفائدة منخفضا، ولكنها اليوم أضحت تستدين بأكثر من ضعفي الفائدة بما ينخفض معه سعر السندات المقوّمَة بمعدلات فائدة أصغر ويدفع الناس للتخلص منها مقابل شراء السندات الحكومية الجديدة التي هي بمعدلات أعلى.
هنا نجد أن البنوك التي شهدت، مؤخرا تعثراً، مثل بنك SVB، كانت مستثمرة بشكل كبير جداً في أذون الخزانة وسندات الحكومة الأميركية لآجال عشر سنوات أو أكثر، والتي شهدت انخفاضا كبيرا في سعرها، ليصبح البنك أمام أزمة من جهتين: أولاً، أزمة في الودائع والموارد بسبب من سحب الشركات لودائعها لديه بغرض تمويل التكلفة المتزايدة بفعل التضخم، مع إحجامها عن الاقتراض بسبب ارتفاع كلفته؛ ثانياً، وفي نفس الوقت، البنك لديه أزمة في الأصول لاستثماره مسبقاً باستخدامه أموال الودائع في شراء أصول. الموضوع أشبه بحال من يشتري بيتا أو شقة بمبلغ مليون دولار ثم يفاجأ صبيحة اليوم التالي بأن الحكومة قامت ببناء منازل مجاورة بنصف الثمن فينخفض سعر أو قيمة المنزل الذي اشتراه لنصف أو ثلث الثمن: هنا البنك وقع بين شقي الرحى، فمن جهة توجد أزمة في الأصول بسبب من انكماشها، مع أزمة في الودائع من جهة أخرى.
زادت الطين بلة حين حاول البنك معالجة أزمة السيولة عنده ليتمكن من سداد أموال الودائع للشركات التي طالبت بها بينما البنك مستثمرها في أصول، وهي الأصول التي أصبحت قيمتها تنخفض. توجه البنك لسوق المال أو للبورصة ليتخلص من الأوراق المالية، التي هي بالأساس سندات حكومية ذات السعر المتدني ليقوم ببيعها بخسارة أكبر بغرض التخلص منها بسرعة ليسدد الطلب على الودائع فقام ببيعها بخسارة، أي أقل من قيمتها – التي انخفضت بسبب الأزمة – بحوالي 1.5 مليار دولار. وبما أن المبلغ لم يكن يكفي لأزمة السيولة بسبب الطلب على الودائع، فقام البنك أيضاً بالإعلان عن خطة للتوسع بطرح أسهم له في سوق المال بمبلغ 2.25 مليار دولار للأسهم الجديدة، لمواجهة الأزمة، وأعلن أيضاً أنه سيقوم بتصفية محفظة الأصول المالية بالخسارة. تسبب هذا الإعلان عن أزمة السيولة بشعور عملاء البنك بالخوف، فحدث ما يُعرف باسم ظاهرة الـ Bank Run بتوجه المودعين في نفس الوقت لسحب ودائعهم. هذا الأمر زاد من حدة أزمة السيولة في البنك، كما أن من كان مُستثمرا في شراء أسهم للبنك بدأ في التخلص منها، ليجري طرح أسهم البنك بشكل كبير فتنخفض قيمة سهم البنك 60 % من في يوم واحد، بسبب من تشكك الناس في المركز المالي للبنك.
جميع هذه التطورات حدثت يوم الأربعاء، الخامس من مارس 2023، ولم نصل ليوم الجمعة، السابع من مارس، حتى تم إيقاف التداول على أسهم البنك، وغلق البنك ووضعه تحت الحراسة القضائية تحت إشراف المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع لأغراض تصفية أصول البنك لسداد الودائع والدائنين. أي أنه في أقل من ثلاثة أيام تمت تصفية البنك وإفلاسه. هنا ملاحظة سريعة فيما يخص هذه الأزمة، أن المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع سبق لها أن وجدت مخالفات على طريقة عمل البنك حيث أنه فقط 3% من الودائع لديه مؤمن عليها، بما يكشف عن فساد الجهة الرقابية فضلاً عن القائمين على إدارة البنك. أيضاً وجدوا أن حسابات المدراء التنفيذيين للبنك والأسهم التي تخصهم قد تم التخلص منها قبل انهيار البنك بأقل من 48 ساعة، أي أنهم قفزوا من المركب فور استشعارهم بأنه يغرق. لكي لا تتوسع الأزمة بشكل سريع وتفاقم على غرار أزمة عام 2008، اضطرت الحكومة الأميركية أو البنك الفيدرالي ووزارة المالية للتدخل، لكن قبل ذلك حدث – ما يحدث عادة في النظام الرأسمالي على مدار أزماته مثل سيناريو واحد متكرر- أنه فور وقوع مؤسسة مالية كبيرة يستشعر الناس الخوف، وبالتالي يتوجهون للمؤسسات والبنوك الأخرى التي لم تكن تعاني من مشاكل لسحب ودائعهم، إذ فور الشعور بأن أزمة مصرفية ما تلوح في الأفق يقوم أصحاب الأسهم في هذه البنوك، وبشكل شبه جماعي، للتخلص من الأسهم المستثمرة في البنوك. نتيجة ذلك، إضافة إلى زيادة الطلب على الودائع، أزمة كبيرة أصبحت تهدد جميع البنوك بشكل غير مباشر بما يشبه خلق الأزمة بالعدوى. لذلك كان على الحكومة الأميركية أن تتدخل، وتدخلت لتعلن أنها ضامنة لحقوق جميع المودعين في بنك SVB لتعطي رسالة لطمأنة بقية المتعاملين بالجهاز المصرفي، وكي لا يتفاقم الوضع.
السؤال هنا، هل أزمة بنك SVB ممكن تكرارها مع بنوك ثانية لنشهد سلسلة من إفلاس البنوك والمؤسسات المالية الكبيرة على غرار ما حصل في 2008 أي مثل تساقط قطع الدومينو؟
الإجابة، مبدئياً، نعم من الوارد جداً حدوث ذلك، لأن الظروف التي أدت إلى انهيار بنك SVB هي الظروف التي يعيشها القطاع المصرفي الغربي كله، وبالأخص في أميركا، بمعنى أن ما حدث ليس استثناء، لكن الذي عجل من سقوط هذا البنك هو تركيزه بالاستثمار في شركات التكنولوجيا، والذي كان أكبر قطاع متأثر من ارتفاع تكلفة الاقتراض، بسبب أن القطاع التكنولوجي معتمد طول الوقت على فكرة التوسع في الأبحاث والتوسع في التطوير، وبالتالي هو شره جداً في مسألة القروض والاقتراض، فلما ارتفع سعر الفائدة، تأثر هذا القطاع بشدة. وفي نفس الوقت، البنك كان مستثمرا بطريقة كبيرة، بسبب سعيه للربح، في فكرة شراء وتمويل الدين الداخلي لأميركا.
لكن فيما يخص سؤال هل سيحدث ذلك الانهيار بشكل كبير وفي وقت قليل مثلما حصل في 2008؟ لا أعتقد ذلك، لأن الرأسمالية أو المصارف تعلمت درسا من 2008 إذ بدأت تعمل ما يسمّى مَصَدَّات، أو تُكوِّن مخصصات لمواجهة الأزمات، إلَّا أن هذا لا يعني أن الأزمة لن تحدث، إذ هي ممكن تحدث لو تفاقمت الأوضاع، وهذا ما ينقلنا لفكرة التشابكات التي يقوم بها النظام الرأسمالي طوال الوقت. أقصد أنه لدينا تشابكات بين البنوك أي بين الجهاز المصرفي في أميركا بالجهاز المصرفي في إنجلترا بالجهاز المصرفي في أوروبا بالجهاز المصرفي في بقية العالم. كما أننا نلاحظ أن سياسات البنك الفيدرالي فيما يخص رفع سعر الفائدة كان يتبعها دائماً رفع أسعار الفائدة في بقية دول العالم، أو دول المنظومة الرأسمالية. ولدينا مثال واضح على تداخل أنشطة الجهاز المصرفي على مستوى العالم فيما يخص هذه الأزمة: أعني التشابك المصرفي بين إنجلترا وأميركا في هذه الأزمة حيث أن فرع بنك الـ . SVB في إنجلترا كان سيشهد حالة من الإفلاس بسبب أنه ليس سوى فرع للمركز الرئيسي الذي أفلس، وبالتالي هو واجه خطر الإفلاس إلى حين تدخل بنك HSBC كي يحمي حسابات المودعين لديه فقام بالاستحواذ على فرع بنك SVB في إنجلترا. حجم التشابك المالي والتأثير المتبادل في عمليات البنوك على مستوى العالم يتضح في عملية الاستحواذ هذه حيث قام بنك HSBC بحماية ودائع بما قيمته 85 مليار جنيه إسترليني، أي ما يقارب 100 مليار دولار، لشركات انجليزية عاملة في مجال التكنولوجيا، بالإضافة إلى أن هذا البنك كان لديه حسابات مشتركة ومضمّنة من بنك SVB بقيمة 200 مليار دولار، أي أنه لولا تدخل بنك HSBC، كانت الخسائر لفرع البنك المُفلس في إنجلترا وحدها تقترب من مبلغ 300 مليار دولار.
هذا عرض سريع للأزمة المصرفية الموجودة حالياً في أميركا ممثله في أزمة مصرف SVB ويتبعها المحور الثاني في اللقاء عن طبيعة أزمات الرأسمالية وهل هي مجرد أزمات مصرفية، أو أزمات دورية، أم أنها أزمة هيكلية.
ملاحظة: هذا تفريغ للمحاضرة المقدمة في 7 أبريل 2023 بتصرف محدود لضرورات تنسيبها لنص مكتوب.
-
الأطروحة (11) هي منصة فكرية تبادر بالاسهام في الجهود الرامية إلى نشر الوعي بالفكر النقدي على قاعدة من أطروحات كارل ماركس بأبعادها الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
View all posts