نظرية الثورة العلمية: عرض ونقد 2/1

تنشر مجلة “تقدُّم” الفعالية (23) من فعاليات منتدى الأطروحة (11) على منصة “كلوب هاوس”، وهي محاضرة للدكتور هشام غصيب قدمها ضمن سلسلة (الماركسية والعلم)، التي طرح فيها رؤيته النقدية لبنية الثورات العلمية. 

د. هشام غصيب: نعم، المحاضرة السابقة هي نقد فلسفة العلم بصورة عامة، واليوم سأتابع هذا النقد العام بنقد خاص، تحديداً نقد نظرية الثورات العلمية لدى كلٍ من توماس كون ولوي ألتوسير، مع أنهما فيلسوفان مختلفان تماماً عن بعضهما بعضاً، ولكن هناك شيئاً مشتركاً بينهما، ولذلك سأركز عليهما وتحديداً على نظريتيهما في الثورات العلمية. توماس كون نَظَّر في الثورات العلمية، وأيضاً لوي ألتوسير الذي تأثر كثيراً بفكر باشلار الذي تحدث عن الثورات العلمية واهتم بها. إذن، فالنظريات الحديثة للثورات العلمية لديهما هي موضوع نقدي اليوم، وإلى حدٍ ما كارل بوبر الذي غاب عنده مفهوم التاريخ، إذ إن العلم بالنسبة إليه هو عبارة عن مسيرة دحض وإلقاء النظريات في سلة المهملات، أي أن نظريته عدمية وعبثية. ولذلك لن أركز كثيراً على بوبر لأنه لم يضع نظرية في الثورات العلمية ولم يضع نظرية في تاريخ العلم، بعكس توماس كون الذي كان مؤرخاً كبيراً للعلم، بل من أهم مؤرخي العلم في القرن العشرين، وطبعاً لوي ألتوسير الماركسي يهتم كثيراً في مسيرة العلم، وسار على نهج غاستون باشلار في تصوره للثورات العلمية، وكانت بالنسبة إليه الثورة الكبرى للعلم الاجتماعي في نظرية ماركس. ومع ذلك توماس كون في الواقع كان ينتمي إلى مثقفي الطبقة الحاكمة الأميركية، على عكس لوي ألتوسير الذي كان شيوعياً ينتمي إلى الحزب الشيوعي الفرنسي وأحدث ثورة في الفكر الماركسي، ومع ذلك أجد أن هناك شيئاً مشتركاً في نظريتهما في الثورات العلمية، ومن نقدهما سأنطلق إلى وضع نظرية جدلية في الثورات العلمية. هذه النظرية وضعتها مبكراً في كتابي الذي صدر عام 1988 بعنوان (الطريق إلى النسبية)، وتجد فيه معالم هذه النظرية، وأيضاً في عدد من الكتب الأخرى والأوراق البحثية، أي أن هذه النظرية اشتغلت عليها لفترة طويلة، نقيضاً لتوماس كون وغيره، وإلى حدٍ ما لوي ألتوسير. هنا يجب ملاحظة أنني أحترم لوي ألتوسير احتراماً كبيراً، حتى عندما لا أتفق معه فإنني أجده في الواقع قمة في الفكر الماركسي، لكن هذا لا يعني أنه فوق النقد، يجب أن ننقده في ضوء خبراتنا وفي ضوء معرفتنا.

(1) توماس كون

فيما يخص توماس كون، فكما هو معروف فإن الفكرة الرئيسية في طرحه هي فكرة الـ (بارادايم) Paradigm. ما هو مفهوم (البارادايم)؟ بالطبع هو مفهوم ضبابي، حتى في كتاب توماس كون “بنية الثورات العلمية”، الذي نشره لأول مرة عام 1962، نجد ضبابية في المفهوم. مع ذلك استشف من قراءة هذا الكتاب أنه يعني به الإطار المفاهيمي والمخبري، وشبكة الافتراضات الفلسفية والعلمية التي ينطلق منها العلماء في ممارساتهم العلمية. بمعنى أنه لفترة من الزمن يسيطر هذا الإطار المفاهيمي — الذي يتضمن شبكة من المفاهيم والآليات، وحتى الأجهزة والطرائق المخبرية وشبكة من الافتراضات الفلسفية والعلمية — يقبل بها العالم، ربما بوعي أو بغير وعي، ويمارس علمه وفقاً لها إلى أن تتأزم نتيجة إخفاق ما بما يتيح الفرصة لكي يقفز العلم من (بارادايم) إلى (بارادايم) آخر، هذا ما تفهمه من كتابه. ولكن أعترض على هذا التصور، لأن هذه (البارادايم) مسالمة جداً، لم ألمح تناقضاً واحداً في هذه البنية المتجانسة تماماً الخالية من الإشكالات إلا عندما تتأزم.  إذن نلاحظ أنه هنالك غياب للثورة في نظرية توماس كون للثورة العلمية، وسأوضح لاحقاً ماذا أعني بالثورة. ليس هناك فقط غياب لمفهوم الثورة، بل أيضاً غياب للجدل (الديالكتيك) تماماً، غياب للتناقضات، غياب لمفهوم النقد بحيث لا يؤدي دوراً إلا وقت الأزمات، وهذا ليس نقداً بالمعنى الصحيح، فضلاً عن غياب للعلاقة العضوية بين القديم والجديد.

لذا، فإنني أجد إن هذه النظرية تنفي الثورات [العلمية] وإن كانت تتكلم عنها، وتنفي السيرورة التاريخية. لذلك تلاحظ عند توماس كون هذا التجانس الغريب! أتحدى وجود أي منظومة سواء أكانت فكرية أو غير فكرية لا تشوبها التناقضات، والحياة تعلمنا إن أي منظومة تنخرها التناقضات، ومن دراستي للنظرية العلمية ألاحظ إن النظرية العلمية باستمرار فيها تناقضات: توجد فيها عناصر شبه يقينية، وأخرى يقينية، وكذلك عناصر غير يقينية، فيها عناصر ناضجة وأخرى جنينية، فيها تناقضات بين الأفكار، والأفكار تولد تناقضاتها، ونجد أمامنا صراعاً بين هذه التناقضات في داخل النظرية الواحدة، فما بالك في داخل (البارادايم) الواحد؟ إذن، فإن البارادايم “الكونية”، بالنسبة إلى توماس كون، مسالمة لأقصى حد، وهذه نقطة ضعف فيها. النقطة الأخرى، هي أن مفهوم النقد غائب. بمعنى أنه لا يتم تخطي (البارادايم) نتيجة نقد مكثف، إذ إن النقد لا يؤدي أي دور. كل ما هنالك أن الصعوبات التي يدخل فيها (البارادايم) تجعل بعض العلماء يقومون بتطوير (بارادايمات) أخرى من دون نقد حقيقي. فليس هناك علاقة بين (الباراديم) القديم والجديد: وفي هذه الفكرة اللا جدلية تنعدم الضرورة في العلاقة بين القديم والجديد. 

الآن، كيف أفهم الثورة؟ من خلال دراسة الثورات: مثلاً الثورة الفرنسية والثورة الروسية.. الخ. في الثورة، نجد أن قوى تغييرية تنشأ في باطن القديم، أي أن القديم يفرز بنفسه قوى نقيضة له، وتلك القوى تنمو في داخل أحشاء القديم وتقّوضه، أي أنها تصل إلى حد أنها تُفَجِّر القديم وتحوله إلى الجديد. لكن عند توماس كون فإن الموضوع مختلف: هو عبارة عن قفزة عشوائية، كذلك الأمر عند باشلار أيضاً، بمعنى أننا نقفز من (البارادايم) القديم قفزة اعتباطية إلى حد ما تحدث نتيجة [تغير] مزاج اجتماعي بمعنى أن المزاج الاجتماعي للجماعة العلمية هو الذي يخلق (البارادايم) ويجعل الجماعة العلمية تتخطى (البارادايم) القديم. هنا، يوجد لدينا عملية قفز وليس عملية تحويل، في حين أن الأصل أن تكون هناك تناقضات في داخل الإطار القديم، وهذه التناقضات تؤدي إلى تفجير القديم وتحويله إلى الجديد. 

لذلك فإنني أجد أن هناك علاقة ضرورية بين القديم والجديد، بين الإطار القديم والإطار الجديد. في حالة توماس كون، فهو ينفي هذه الضرورة، ليس ذلك فحسب، وإنما يضع علامة استفهام حول موضوعية العلم، لأنه بالنسبة إليه كل (البارادايمات) مساوية لبعضها البعض معرفياً، لا تختلف. بمعنى أن (بارادايم) أرسطو مكافئة لـ (بارادايم) نيوتن، مكافئة لـ (بارادايم) آينشتاين. لكنني أجد هذه الفكرة خطيرة لأنها تسحب البساط من تحت موضوعية العلم، فنظرية جاليليو دحضت أرسطو، أي أنها لم تترك الإطار المعرفي السابق كما هو وانطلق بإطار آخر أو موازي. كذلك الأمر، فإن نظرية نيوتن العلمية هي للواقع أكثر بكثير من نظرية أرسطو. من ذلك لا نستطيع أن نقول إن كل هذه البارادايمات مكافئة لبعضها البعض، وهو ما كان يطرحه توماس كون في “بنية الثورات العلمية” إلا أنه تراجع عنها فيما بعد، بعدما أدرك بأن هذه الفكرة غير سوية. لكن، على أي حال، فإنني أجد مثلبة كبيرة في عدم وجود علاقة ضرورية بين القديم والجديد، وكأنها قفزات اعتباطية. 

أليس في ذلك تغييب كبير لمفهوم التاريخ؟ أنت تأخذ على كارل بوبر مثلاً، أنه في فلسفته للعلم وقراءته الايدولوجية الواضحة والصارخة للعلم فإن التاريخ لديه غائب، هل الأمر كذلك عند توماس كون؟

 د. هشام غصيب: توماس كون مؤرخ كبير، استمتعت كثيراً بقراءة كتابه المبكر “الثورة الكوبرنيكية”، وكتابه حول نشوء نظرية بلانك الكوانتامية، وهما كتابان عميقان بلا شك. لكن في رأيي، أنه كفيلسوف قد أضر نفسه بسبب الأيديولوجيا لأنه قرأ التاريخ، بينما وضع نظرية غير تاريخية في تاريخ الثورات العلمية. لذلك في رأيي أن جوهر نظريته في الثورات العلمية غير تاريخية: مفهوم الثورة غائب بالمعنى الذي طرحته، وعندما ننظر إلى الثورات نجد أنها لا تأتي اعتباطاً بل أنه في أحشاء القديم تنمو قوى جديدة وهذه القوى في النهاية تنفجر في قلب القديم وتحوله إلى جديد؛ مفهوم التحول لديه مفقود وكذلك مفهوم الجدل؛ أيضاً مفهوم التناقضات الداخلية غائب؛ حتى مفهوم النقد غير موجود، إذ إن النقد يؤدي الدور الكبير في تخطي الإطار القديم إلى الإطار الجديد، فمفهوم النقد محدود جداً لدى توماس كون؛ مفهوم الدحض أيضاً غير واضح عنده، بمعنى أنه ينظر إلى الدحض ضمن إطار (البارادايم) الواحد، ولا يجد أي علاقة بين (البارادايم) والآخر: فقط أن حقيقة كل (بارادايم) تدحض ما قبلها، بمعنى أن نيوتن تمكن من دحض أرسطو، ولكن في الواقع فإن آينشتاين مثلاً لم يدحض نيوتن، وإنما قام بتبيين حدود نيوتن لأن نيوتن نظريته صحيحة بينما نظرية أرسطو غير صحيحة. لكن عند توماس كون، لم يعد هناك ما هو صحيح وغير صحيح، جميعهم صحيح! والاختلاف يكمن في تغير المزاج الاجتماعي [ لننتقل من (بارادايم) إلى آخر].

(2) لوي ألتوسير

فيما يخص لوي ألتوسير، الفيلسوف الفرنسي الذي بدأ في وضع إطاره النظري في مطلع الستينيات تماماً في الوقت الذي وضع فيه توماس كون نظريته. نلاحظ بداية هذه المصادفة إذ لم يكن أي من كون وألتوسير يعرف الآخر، وقد نشر كون كتابه “بنية الثورات العلمية” عام 1962 بينما وضع ألتوسير كتابه “من أجل ماركس” في مطلع الستينيات ونشره عام 1965، وقام بوضع نظريته في الثورات العلمية في تلك الفترة. كان ألتوسير مُتشرب لفكر غاستون باشلار، ولا أعلم إلى أي مدى كان توماس كون متأثراً بـ باشلار. ورغم عدم معرفة ألتوسير وتوماس كون لبعضهما البعض، وانتماء كل منهما لوسط مختلف تماماً — محيط توماس كون كان وسط الدبلوماسيين الأميركان والطبقة الحاكمة الأميركية، بينما لوي ألتوسير من الوسط الشيوعي الفرنسي— فإنهما مع ذلك قد طرحا أفكاراً متشابهة ولكن بلغتين مختلفتين.

نلاحظ بداية أن ألتوسير قال إن ماركس لم يكن ماركسياً (لا مادياً جدلياً ولا مادياً تاريخياً) حتى العام 1845، وإنما كان متأثراً بكل من هيجل و فيورباخ، وهنا لم يتكلم عن (البارادايم)، وإنما عن الإشكالية Problematic. الآن مفهوم الـ Problematic  عند غاستون باشلار وعند جاك مارتان وعند لوي ألتوسير، هو في الواقع ماكينة إنتاج المعنى وإنتاج المفهومات، أي من الممكن القول أنه الآليات الداخلية في الخطاب التي توّلد المعنى وتولّد المفهومات. بالنسبة لألتوسير، الـ Problematic التي كانت لدى ماركس ما قبل 1845 هي هيجلية – فيورباخية. حتى فيورباخ بالنسبة إلية ورغم كونه مادياً، إلا أنه أيضاً كان يتبع الـ Problemtic  الهيجلية، بحيث ظل ماركس يدور في هذا الإطار إلى العام 1845، حتى قفز فجأة قفزته الكبيرة خارج هذه الإشكالية الهيجلية – الفيورباخية إلى المادية التاريخية والاشتراكية العلمية وتحول ماركسياً. لكن ألتوسير لا يبين لنا كيف حصلت هذه القفزة ولماذا حدثت؟

 قطع معرفي؟

د. هشام غصيب: نعم قطع معرفي، والفكرة تلقفها ألتوسير من غاستون باشلار. لكن هذا يعني أن كل النقد الذي وجهه ماركس مبكراً إلى كل من هيجل وفيورباخ قد تجاهله لوي ألتوسير. أولاً، نلاحظ أن الإشكالية لدى ألتوسير لا يوجد فيها تناقضات: حتى في كتابه “قراءة رأس المال” الذي جاء بعد كتابه “من أجل ماركس” نجد أن الإشكالية لديه أيضاً متجانسة تماماً بدون تناقضات، لأنه اعتبر هذا النوع من التناقضات شيء هيجلي ربما.  لذلك لا تجد تناقضات/ توترات / صراع أضداد. لا يوجد ديالكتيك، مع أنه لديه تصوره الخاص للديالكتيك، لكن لا يوجد ديالكتيك كما نفهمه عند هيجل وماركس.

ثانياً، لا نجد علاقة بين الجديد والقديم، القديم يظل على حاله والجديد يظل على حاله. مثلما رأينا لدى توماس كون، نجد (البارادايم) القديم لا يُدحض إنما يبقى قائما، ولكن مزاجية الجماعة العلمية تجعلها تتجه نحو (البارادايم) الجديد، بينما القديم يظل على حاله و(البارادايم) الجديد يظل أيضاً على حاله لدى ألتوسير، فالإشكالية القديمة تظل على حالها والإشكالية الجديدة تظل أيضاً على حالها، أي أن هذه البارادايمات والإشكاليات تظل قائمة بذاتها، لا يوجد عملية دحض، تدمير، نسف.

هنا نُشير إلى أن ماركس قام بعملية نقد هائلة من منظور مادي لفلسفة الحق لدى هيجل.  ففي عام 1843 نشر ماركس كتابه المشهور “نقد فلسفة الحق لدى هيجل” حيث قام بتشريح كتاب هيجل “فلسفة الحق” بمعنى أخذ كل فقرة للتعليق عليها، ولقد لاحظت أنه في كل تعليقاته، كان ماركس مادياً وقد بدأ كذلك منذ العام 1841 عندما انتهى من أطروحة الدكتوراه التي تناولت المادية اليونانية لدى كل من ديمقريطس وأبيقور. يمكن القول إن ماركس بدأ مادياً من خلال المادية الساذجة بحيث لم يكن وقتها مادياً جدلياً بعد حتى قام بنقد كل من هيجل وفيورباخ، بمعنى أنه طوّر ماديته إلى الجدلية. هذا الذي لاحظته من خلال نقد ماركس الصارم لفلسفة الحق لدى هيجل. ثم في مخطوطات باريس لعام 1844، صحيح أن ماركس تأثر هنا وهناك بمفاهيم هيجلية وأخرى فيورباخية ولكنه أعطاها معنى جديداً، أي معنى علمي. مثلاً حين تحدث عن اغتراب العمل الاجتماعي كان مادياً 100% ولم يكن فيورباخياً كما يقول ألتوسير. كذلك في نقده لكتاب فينومينولوجيا الروح لهيجل في هذه المخطوطات، قدم ماركس نقداً حقيقياً، وأرى أن هذا النقد كان ضرورياً لكي ينتقل إلى المادية التاريخية، بمعنى أن هذا القطع لم يحصل وإنما الذي حدث هو تخطي جدلي – نعود لهيجل بهذه الفكرة – وليس الذي حدث قطع معرفي بل القيام بعملية نقد Critique. هذا النقد لهيجل وفويرباخ هو الذي جعل ماركس يتخطى مفهوماته القديمة التي كانت مادية، نحو مفهومات أنضج باتجاه المادية التاريخية والمادية الجدلية.

أيضاً مما أعيبه على ألتوسير بخلاف هذه النقطة، أنه لا يوجد لديه تناقضات للإشكالية، كما أن مفهوم الثورة – بالمعنى الذي طرحته – غائب، كذلك العلاقة الضرورية بين القديم والجديد معدومة، فضلاً عن أنه توجد قفزة عشوائية اعتباطية، ناهيك عن أن النقد الذي قدمه ماركس يبدو وكأنه بلا قيمة، وهذا غير صحيح.

ربما كان ألتوسير بحاجة لتطوير فكرة القطع المعرفي بمواجهة غارودي والنزعة الإنسانية في الحزب الشيوعي الفرنسي لا سيما بعد انتشار مخطوطات باريس لعام 1844 والتي نشرت -مثل الأيديولوجية الألمانية– بعد وقوع الثورة البلشفية؟

د. هشام غصيب: صحيح، جاءت فلسفة ألتوسير كرد فعل على التيارات الإنسانوية، وربما التاريخانية، في أوقات عقد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي –حين حدث انقلاب على الستالينية في عهد خروتشوف، فبدأ الاتجاه الإنسانوي، والتأكيد على مفهوم الإنسان ووجدوا ضالتهم في مخطوطات باريس لعام 1844، والتي نشرت للمرة الأولى عام 1932. في الواقع، إن الذي تلقف هذه المخطوطات في بادئ الأمر هم مثقفو البرجوازية الصغيرة: تحديداً الوجوديون، ومدرسة فرانكفورت مثل هربرت ماركوز الذي اهتم كثيرًا بمخطوطات 1844، ثم بعد ذلك تلقفتها الأحزاب الشيوعية بعد خروتشوف حيث انتشرت فيها التيارات الإنسانوية. كل هذا لم يعجب ألتوسير. ليس من منظور ستاليني لم يعجبه ذلك إذ إنه في النهاية قد تخطى ستالين وتخطى كذلك الإنسانويين في آن واحد، ولكنه وضع نصب عينيه نقد التيارات الإنسانوية في الوسط الشيوعي وأراد أن يعيد إنتاج الماركسية بطريقة جديدة، طريقة ثورية. لكن أيضاً كان الإنسانويون ثوريين ولكن بطريقة أخرى. ما يهمني هنا هو نقد نظريته في العلم، لأن ماركس أنشأ علماً جديداً وهو المادية التاريخية، وأنشأ فلسفة جديدة هي المادية الجدلية. بالنسبة لألتوسير فإن المادية التاريخية جاءت كقفزة، ويوجد لدي اعتراض على نظريته في نشوء المادية التاريخية، بما لا يعني إني أتفق مع الإنسانويين تماماً، ولكن انتقد ما طرحه ألتوسير في كتابه “من أجل ماركس” وكتابه الآخر “قراءة رأس المال”، وهما مؤلفان فلسفيان مهمان جداً. لكن على أهميتهما، لا يعني أن نتفق مع كل شاردة وواردة فيهما. من خلال تجربتي في علم الطبيعة وحتى علم الاجتماع أجد بأن نظرية توماس كون ونظرية ألتوسير تعانيان من الإشكاليات ذاتها أي غياب مفهوم الثورة، غياب الجدل – الديالكتيك، غياب التناقضات، غياب العلاقة الضرورية بين القديم والجديد، غياب التحول من القديم إلى الجديد، وغياب النقد Critique والدور الأساسي له. هذه هي المثالب التي أجدها في نظريتي توماس كون ولوي ألتوسير.

لكن إذا كان الديالكتيك يُلزم الماركسيين وكنا هنا نتكلم عن علم الطبيعية، فقد يقول قائل مالنا ومال التناقض، مالنا ومال الديالكتيك، لماذا يعتبر قصور الرؤية الجدلية مثلبة في تصورات عن العلم؟ 

د. هشام غصيب: مثلبة عند من؟ حين أريد أن أطرح نظرية ديالكتيكية في تاريخ علم الطبيعة، ومن خلال دراستي لتاريخ الفيزياء تحديداً والفلك والكوزمولوجيا وعلوم الطبيعة، وجدت أنني أضيع تماماً من دون مفهوم الديالكتيك، حيث أنه مفهوم أساسي في فهم أي منظومة فكرية، أو أي منظومة اجتماعية أو أي منظومة طبيعية. طبعاً هناك من يعترض على مفهوم ديالكتيك الطبيعة الذي كتب عنه إنجلز تحديداً، ولكن أجد أن الديالكتيك موجود في تطور النظرية العلمية، لا شك فيه عندي لحظة واحدة أنه موجود في قلب النظرية العلمية، ولكن النظرية العلمية ينبغي أن تكون مطابقة للواقع بهذا القدر أو ذاك، وإذا كانت مطابقة للواقع فهذا معناه أنه لابد أن يكون الواقع جدلياً لكي تكون النظرية جدلية. هذه هي حجتي الرئيسية التي سأطرحها بعد قليل في مقابل تصورات توماس كون ولوي ألتوسير وضمناً غاستون باشلار الذي كان يقول بأن نظرية نيوتن لا تمت بصلة لنظرية آينشتاين وهذا غير صحيح. لديه أن نظرية آينشتاين تشبه سطحياً نظرية نيوتن، لكن حقيقة لا علاقة بينهما تماماً مثل العمل الفني، بمعنى أنه من الممكن أن نجد عملاً فنياً يشبه عملاً فنياً آخر، لكن كل عمل فني منهما هو قائم بذاته، وهكذا أيضاً هي النظرية العلمية من وجهة نظر غاستون باشلار. ولكن حقيقة أجد أنه لا يمكن أن تفهم النظرية النسبية العامة أو الخاصة لآينشتاين من دون العودة إلى نظرية نيوتن. 

بالجلسة الماضية كان واضحاً توظيف الرأسمالية ليس فقط للعلم، ولكن للأيديولوجيا في طغيان فلسفة العلم وحلولها محل نظرية المعرفة في الفلسفة، ومحاولة احتواء العلم بحيث تتمكن الرأسمالية من احتواء الوعي الجمعي وتبخيس القيمة المعرفية للعلم من نظريات كارل بوبر في فكرة التساقط، تتساقط النظريات العلمية الواحدة تلو الأخرى، له مقولة غريبة بأن نظرية داروين ليست علمية لأنها لم تُدحض حتى الآن.

د. هشام غصيب: طبعاً لست بيولوجياً ولكني قارئ في البيولوجيا، ولكن جاء الدعم لنظرية داروين من جانب علم الوراثة، من جانب فكرة الجينات، من جانب DNA ، من جانب المشاهدات التي دعمت هذه النظرية، أما بالنسبة إنها لم تُدحض حتى الآن من وجهة نظر بوبر، فهذا كلام فارغ. بالنسبة لنظرية كارل بوبر في العلم وحتى نظريته في السياسة لا أعيرهما اهتمام. بصريح العبارة فإن هذا الصنم لولا الأيديولوجيا لما تم تعظيمه، لكن الفلسفة تخلت عنه، تلك الفلسفة الانجلوسكسونية تركته خلفها.

هذا تفريغ مكتوب لنص المداخلة، بتصرف محدود لضرورات تنسيبها لنص مكتوب.

Author

  • الأطروحة (11)

    الأطروحة (11) هي منصة فكرية تبادر بالاسهام في الجهود الرامية إلى نشر الوعي بالفكر النقدي على قاعدة من أطروحات كارل ماركس بأبعادها الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

أزمة مصرفية أم أزمة نظام اقتصادي؟ – 1

يتناول الأستاذ محمد عبد الحليم ضمن فعاليات الأطروحة (11) بقراءة نقدية المنظور الاقتصادي فيما يخص تعامله مع أزمات البنوك أو المصارف، كما تجلت – مؤخراً – في انهيار بنك وادي السيليكون Silicon Valley Bank SVB وما تبعه من ارتدادات سواء على مستوى أميركا أو القارة الأوروبية. وهنا نسأل، هل أزمة البنوك فعلياً هي أزمة تخص البنوك، منفصلة عن المنظومة الرئيسية التي تعمل من خلالها البنوك؟ وتعمل بحسب آلياتها وقوانينها المعلنة، بل وقوانين حركة المجتمع الرأسمالي؟

نظرية الثورة العلمية: عرض ونقد 2/2

“السوبر” ثورة هي التي يتم بموجبها ولادة علم جديد وذلك على أنقاض فلسفة الطبيعة، بمعنى أنه كل علم لديه فترة تاريخ وفترة ما قبل التاريخ، في فترة ما قبل التاريخ يتمثل العلم في فلسفة الطبيعة، ولكن في “السوبر” ثورة يتم تحطيم فلسفة الطبيعة وعبر أنقاضها يولد العلم الجديد.

نقد فلسفة العلم 2/2

تستكمل “تقدُّم” نشر محاضرة د. هشام غصيب “الماركسية والعلم”، التي ألقاها ضمن السلسلة الـ (21) من فعاليات منتدى الأطروحة الـ 11 على منصة “كلوب هاوس”، حيث ينتقد فيها، بعض أطروحات كارل بوبر وتوماس كون، ويظهر ارتباطها بالاطار الايديولوجي الموجودة فيه، وخلفية هجومهما على النظرية الماركسية

نقد فلسفة العلم 2/1

سلسلة مخصصة تتناول فيها فلسفة العلم والتطور التاريخي للعلم في الحضارات المختلفة وعلاقة هذا التطور بالرأسمالية، كما تتناول فيها بُنية الثورات العلمية، والعلم في نظرية ماركس في التاريخ، وحديث عن الجدل أو الديالكتيك في العلم وفي الطبيعة.