تنشر «تقدُّم» الجزء الثاني والأخير من محاضرة الأستاذ محمد عبد الحليم التي قدمها في الفعالية رقم (90) من فعاليات منتدى الأطروحة (11)، وتناول فيها بقراءة نقدية المنظور الاقتصادي فيما يخص تعامله مع أزمات البنوك أو المصارف، كما تجلت – مؤخراً – في انهيار بنك وادي السيليكون Silicon Valley Bank (SVB) وما تبعه من ارتدادات سواء على مستوى أميركا أو القارة الأوروبية. وهنا نسأل، هل أزمة البنوك فعلياً هي أزمة تخص البنوك، منفصلة عن المنظومة الرئيسية التي تعمل من خلالها البنوك؟ وتعمل بحسب آلياتها وقوانينها المعلنة، بل وقوانين حركة المجتمع الرأسمالي؟ بنفس المنطق ممكن أن نسأل، هل أزمة المناخ – مثلاً – تخص البيئة بعيدة عن النشاط الإنساني الذي تتَشكل وتتحدد معالمه بحسب نمط الإنتاج السائد أو نمط الإنتاج الرأسمالي؟ أيضاً بنفس المنطق ممكن أن نسأل هذا السؤال، هل خطر حرب نووية – مثلا ً-، مرتبط برغبة جنرال عسكري أو قيادات سياسية، منفصلة عن منظومات التسليح وآلة الحرب ورغبات التوسع والتمدد بلا حد، للحفاظ على فكرة النمو لأجل النمو؟ بحيث يجري كل ذلك وفق آليات محددة يفرضها نمط إنتاج معين؟
هذه أسئلة مشروعة، هل الأمر هو كذلك؟ أم كما يقول كارل ماركس: “إن رأس المال لا تتأثر حركته من الناحية العملية -قليلاً أو كثيراً- بمشهد انحطاط الجنس البشري في المستقبل، ولا بالانقراض النهائي لهذا الجنس أكثر ممَّا تتأثر باحتمال سقوط الكرة الأرضية على الشمس، يعرف الجميع في كل عملية من عمليات السمسرة والمضاربة بالأسهم أن الصاعقة ستنقض إنْ عاجلاً أم آجلاً، إلَّا أن كل واحد منهم يُمَّني النفس بسقوطها على رأس جاره، بعد أن يكون هو قد جمع المطر الذهبي واختزنه في حرز أمين، وليكن من بعدي الطوفان، هذا هو شعار كل رأسمالي وكل أمة رأسمالية”. هذا ما يقوله ماركس في الجزء الأول من كتاب “رأس المال”، وهذا ما سنحاول فهمه مع المحاضرة للأستاذ/ محمد عبدالحليم، الحاصل على درجة الماجستير في الاقتصاد الدولي عن موضوع “علاقة الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالتبعية الاقتصادية”، ويعمل كمحلل ائتمان في الجهاز المصرفي المصري، وعمل في عدة مؤسسات مالية، كما يشغل أيضاً موقع أمين مساعد أمانة التثقيف المركزية بحزب التحالف الشعبي الاشتراكي، هو أيضاً مهتم بالاشتباك مع الرأي العام من خلال كتابات عديدة على شكل مقالات في عدد من المواقع والمنصات، وله أيضاً اهتمامات أدبية، فقد أصدر عدة مطبوعات في هذا الصدد، منها رواية صدرت عام 2022 تدور حول أحداث الثورة العرابية، وهي رواية تاريخية بعنوان “الفلاتية”، وأيضاً صدر له مجموعة قصصية بعنوان “عالقون في مشفى حكومي”، وهذه المجموعة تنتمي للمدرسة الواقعية في الأدب.
المحور الثاني
لماذا الأزمة الرأسمالية هذه تحدث بشكل متكرر؟ وهل هي أزمة حتمية أم هي أزمة هيكلية، أو مجرد أزمة مصرفية نتيجة سياسات خاطئة – مثل تلك التي قامت بها إدارة بنك SVB؟
من وجهة نظري أرى بأن أزمة الرأسمالية هي أزمة هيكلية، بمعنى أنه طوال الوقت تمر الرأسمالية بأزمات دورية لنشهد حالات من حالات الركود، وحالات من حالات التضخم، كما تشهد حالات من حالات التوازن الهش: نخرج من أزمة، كل بضعة أعوام، لندخل في أزمة ثانية.
السبب في وجود وتجدد أزمة الرأسمالية على الدوام يعود لقانون انخفاض معدل الربح في الأجل الطويل، وهو ما أشار إليه ماركس –رغم أنه سبقه إليه آدم سميث وديفيد ريكاردو– وقد اعتبره ماركس قانونا مركزيا في طرحه، رغم تشكك بعض اليساريين فيه. الفكرة باختصار، بحسب مُنظري الاقتصاد الرأسمالي، هي أن أرباح الرأسماليين تميل للانخفاض في الأجل الطويل، نتيجة المنافسة فيما بينهم حيث تنخفض معدلات الربح في المجمل نتيجة تخفيضهم لأسعار بعضهم البعض. باختصار، يوجد سببين في أن الأرباح تنخفض في الأجل الطويل:
أولاً، تسعى الرأسمالية الصناعية، دائماً، لتعظيم معدل الربح، وهو ما يحدث عن طريق تخفيض مدخلات العمل، أو ما نسميه زيادة التركيب العضوي لرأس المال، أي زيادة الآلات والمعدات في العملية الإنتاجية على حساب عنصر العمل، بغرض تخفيض التكاليف عن طريق تقليل الاعتماد على العمالة. وبسبب انخفاض الدخول للعمال تنخفض القوة الشرائية لديهم بما يستتبع انخفاض الطلب على السلع المنتجة ممَّا يودي إلى الركود، ومن ثم حدوث الأزمة.
ثانياً، بسب من الرغبة في زيادة التركيب العضوي لرأس المال، يتوسع الرأسماليين في البحث والتطوير واختراع آلات ومعدات جديدة، بما يستقطع من الربح لتوجيهه للاستثمار أو البحث في هذا المجال، ورغم أن الشركات الكبري فقط التي تستطيع فعل ذلك، إلَّا أن هذا يقودنا لفكرة أنه مع الوقت يحدث انخفاض في الإنفاق، ليقودنا أيضاً لانخفاض في إنتاج السلع الرأسمالية بما يودي في النهاية إلى الركود.
في كلتا الحالتين، نصل مع انخفاض معدل الربح لفكرة الأزمة، والتي بدورها يجري حلها بشكل مؤقت بمعالجة مشكلة الانخفاض في معدل الربح. لفهم ذلك، يجب أن نفهم أنه ربما غير الاقتصاديين يرون في الأزمة انها شر مطلق للنظام الرأسمالي، بينما في الحقيقة هي عكس ذلك، إذ أنها مخرج وضرورة وطوق نجاة للنظام الرأسمالي. السبب في أنه فور وقوع الأزمة، فقط الشركات الكبرى، ذات الميزانيات الضخمة، هي التي تستطيع الصمود وتجاوز الأزمة، بينما تسقط الشركات الصغيرة الناشئة لتخرج خارج السوق. مع الوقت، تستحوذ الشركات الكبرى على وسائل الإنتاج وعلى الحصص السوقية للشركات الصغرى التي أفلست نتيجة الأزمة، بحيث تقوم بتعويض جزء كبير من الخسائر التي تسببت بها الأزمة، لتخرج في النهاية أقوى ممَّا كانت عليه قبل الأزمة، وبالتالي يعود التوازن المؤقت مرة أخرى للنظام الرأسمالي على المستوى العام.
المحور الثالث
نحاول هنا الإجابة على سؤال: كيف تعالج الرأسمالية أزمتها حين تحدث؟ هي تستخدم ثلاث أدوات وآليات للخروج من أزمتها طوال الوقت: 1-) العولمة وتركيز الإنتاج)، 2- (العسكرة والتوسع في الإنفاق العسكري)، 3- (الأموَلَة، أو التوسع في الاقتصاد الرمزي أو الاقتصاد المالي).
أولاً – العولمة وتركيز الإنتاج
العولمة في تعريفها الأبسط هي إزالة العوائق أمام انتقال رؤوس الأموال، سواء أكانت عوائق سياسية أو اقتصادية أو ثقافية. أي أن جوهرها هو إزالة أي شي يعوق انتقال الأموال ما بين الدول، وبالأساس ما بين دول المركز الرأسمالي إلى دول الأطراف. ممكن فهم علاقة العولمة بقطاع التكنولوجيا في أزمة بنك SVB -بوصفه متخصص في تمويل والعمل مع شركات التكنولوجيا- باعتبارها أزمة كاشفة لتناقضات عمل الرأسمالية كلها. ماذا تمثل التكنولوجيا للرأسمالية، ولماذا هذا الاستثمار المكثف بها؟ أرى أنه لا يمكن فهم الرأسمالية المعاصرة بدون فهم الثورة العلمية التكنولوجية، والدلالة التي تمثلها باعتبارها ثورة شاملة في قوى الإنتاج. لقد اكتشفت البشرية على مدار تاريخها قانونا مهما جداً في الاقتصاد اسمه التطور المتصاعد للقوى الإنتاجية، بمعنى أنه على الدوام يوجد تغير مستمر في قوى الإنتاج وتطويرها. هذا يُترجم في زيادة قدرة المجتمع على الإنتاج بسبب من التطور في وسائل الإنتاج. خلال القرنين الماضيين، انتقلت البشرية من الثورة الصناعية إلى الثورة التكنولوجية، حيث أصبح العلم في هذه الثورة هو القوة الإنتاجية الأولى. نلاحظ أنه في مسيرة تطوير القوى الإنتاجية في تاريخ البشرية مررنا بثلاث مراحل أساسية، أو ثلاثة عصور اقترنت بثلاث ثورات كبرى:
الثورة الأولى في العصر الحجري الحديث: وتميزت بظهور المحاصيل وتربية الماشية ونشأة الحرف والتجارة، مع ظهور بعض الأدوات البسيطة المتخصصة في العمل اليدوي وهذه الثورة أدت إلى إرساء الأرضية اللازمة للانتقال من الوضع المشاعي والمشترك للمجتمعات إلى المجتمع الطبقي، أي أنها وضعت الأساس لظهور أول مجتمع طبقي في تاريخ البشرية.
الثورة الثانية هي الثورة الصناعية، وتميزت بالأساس في البدء بالإنتاج الآلي وظهور خطوط الإنتاج الكبرى، وقد بزغ فيها المجتمع الرأسمالي.
الثورة الثالثة هي الثورة التكنولوجية، وميزتها الأساسية أن التقدم العلمي أصبح سريعا جداً، بل وأسرع من تطور الإنتاج نفسه، بحيث أصبح العلم قوة إنتاجية مباشرة بدون إنتاج مادي ملموس مثل إنتاج أنظمة تشغيل أو تسجيل لبراءات اختراع، بحيث يجري انتاج أبحاث وأفكار لإنتاج أدوية أو إنتاج أنظمة دفاع أو إنتاج أنظمة تشغيل، ومن ثم بيع هذه الأفكار لشركات أو دول تتولى عملية الاستفادة منها بتحويلها إلى إنتاج مادي ملموس. العمل الإنساني هو عمل عضلي وعمل ذهني أو فكري: في الثورة الصناعية ظهرت الآلة كبديل للعمل العضلي، في الثورة التكنولوجية أصبح العلم أو التكنولوجيا هو البديل عن العقل البشري نفسه، ويوجد طوال الوقت تطوير لمسألة الذكاء الاصطناعي والروبوت مع طرد عنصر العمل البشري. لذلك فالثورة التكنولوجية مهمة جداً للنظام الرأسمالي إذ وجدت فيها الرأسمالية ضالتها أو طوق نجاتها لسببين:
(أ)- في فكرة معالجة ميل معدل الربح للانخفاض في الأجل الطويل، لأن التكنولوجيا والتقدم العلمي يستطيعان، دائماً، إحداث تطور كبير جداً في الصناعات وقوى الإنتاج، وبالتالي إحداث نمو كبير جداً في الأرباح للشركات العاملة فيها.
(ب)- لأن التكنولوجيا عطلت أو قللت من أثر التناقض بين الطابع الجمعي للإنتاج والطابع الفردي للملكية، ذلك لأنها تستهدف طرد العمل الإنساني من العملية الإنتاجية.
الثورة العلمية التكنولوجية أدت إلى توسيع وتجديد قوى الإنتاج، لكن هذا التوسع لا يستطيع العمل في دولة واحدة بحيث أصبحنا نتحدث عن تدويل قوى الإنتاج لأنها لكي تتجدد وتتوسع لا بد أن تتخطى الحدود القومية للدول. بملاحظة أشكال تدويل الإنتاج ورأس المال نقف عند فكرة أن أزمة رأس المال تقوم بربط الاقتصاديات ببعضها البعض بما يتسبب في جعل الأزمة عالمية وليست محلية في مكان ما بعيد عن مكان آخر.
بخصوص فكرة التدويل التي حدثت لقوى الإنتاج، نجد أنها اقترنت بعدة ظواهر منها مثلاً ظهور الشركات المتعددة الجنسيات وقوتها. لذلك نجد أن البنك ليس مجرد بنك أميركي بل يوجد فيه العديد من المستثمرين من دول عربية ومن دول الاتحاد الأوروبي إلخ… وبالتالي هذه هي السمة الأساسية للشركات التي تقود الاقتصاد العالمي. أيضاً، ظاهرة اندماج الشركات متعددة الجنسيات مع رأس المال المصرفي كما في حالة بنك SVB، فهو ليس مجرد بنك يقوم بتمويل عمليات، وإنما توجد شركات ناشئة مؤسسة على القروض والتمويلات التي تحصل عليها من هذه البنوك النوعية. إذن يوجد اندماج بين الشركات متعددة الجنسيات ورأس المال المصرفي. وأخيراً ازدياد حدة التطوير غير المتكافئ في النظام الرأسمالي، بمعنى وجود صناعات متقدمة جداً في الغرب في مقابل التطور المتدني للصناعات في دول الأطراف.
الخلاصة، أن الأزمة الرأسمالية الحالية، هي أزمة ذات بعد كوني وتأثيرات عالمية شديدة التداخل والتشابك على مستوى الهياكل الاقتصادية للدولة. لذلك فإن الأزمة العالمية هي الإبنة الشرعية لعولمة الإنتاج والتوزيع.
ثانياً، العسكرة
العسكرة، بوصفها الأداة الثانية لخروج الرأسمالية من أزمتها. دائماً نجد التوسع في الإنفاق العسكري والحروب، ولا يمكن فصل الحروب عن أزمة الرأسمالية ولا عن ضرورتها لإنعاش الرأسمالية. مثلاً، حرب روسيا وأوكرانيا، هل الحرب بدأت فجأة كما تصورها الميديا الغربية بتصوير (الرئيس) بوتين أنه قرر أن “يعتدي على دولة تمارس حريتها في الانضمام لحلف عسكري أو اقتصادي ما”؟ أم أن هذه الحرب لها عوامل موضوعية ويجري التجهيز لها من العام 2014؟ نلاحظ أنه طوال الوقت يحدث في الرأسمالية نموا غير متكافئ، فتجد دولا صاعدة في قلب المنظومة، ودول أطراف ضعيفة، ومع الوقت يشهد العالم تغيرات ومن ثم تظهر صراعات وتظهر قوى جديدة على السطح تحاول أن تأخذ حصتها من السوق ومن النفوذ الاقتصادي العالمي. هذا ما حصل في الحرب العالمية الأولى والثانية بعدما قسمت إنجلترا وفرنسا العالم فيما بينهما ليحوزا على الأسواق لاحتكار المواد الخام وحرمان الرأسماليات الأخرى الصاعدة من دخول هذه الأسواق للحصول على المواد الخام، مما دفع الرأسماليات الصاعدة في ألمانيا وفي اليابان إلى رغبة في اقتطاع جزء من الكعكة.
الفكرة هنا أن القوى الرأسمالية الصاعدة تحاول أن تعيد تقسيم العالم، أو تأخذ حصة لها، وبالتالي ينشأ الصراع ما بينها وبين القوى التقليدية أو القوى المهيمنة القديمة الذي ينتهي إلى شكل صراع عسكري. اليوم لدينا قوة رأسمالية بشكل أو بآخر وهي الصين، وقوة صاعدة أخرى تحاول أن تستعيد نفوذها ولو على أساس قومي وهي روسيا، وفي رغبة الصعود يحدث التحدي للهيمنة الأميركية أو الغربية على موارد العالم وعلى النظام الاقتصادي أو السياسي العالمي، ومن ثم يترجم هذا الصراع في فكرة الحرب. حالياً، نحن نشهد إعادة تقسيم النظام العالمي للمستقبل، ولو كانت حرب أوكرانيا وروسيا هي البداية، فهي لن تكون النهاية، بمعنى أنه من الوارد أن نشهد حربا في تايوان مثلاً بين الصين والغرب.
لكن السؤال هو كيف توظف الرأسمالية الحروب للخروج من أزمتها؟ القطاع العسكري هو قطاع شره جداً للاستثمارات وابتلاع رؤوس الأموال، حيث أن الدول تنفق على التسليح طوال الوقت حتى بدون وجود حرب. هناك إذن سباق تسلح ما بين الدول وهو لا يقتصر على الدول القوية بل موجود أيضاً على مستوى الدول النامية: مثلاً، فإن العالم يصرف سنوياً حوالي 2 تريليون دولار على التسليح، ومصر كانت أكبر ثالث مستورد للسلاح خلال عَشْرِ السنوات الماضية. لذلك، وبسبب من محاولات فرض أمر واقع أو ضرورات السيطرة على الموارد تقع الحروب، بينما الدول الكبرى ذات الصراعات الممتدة والاستثمارات الضخمة في القطاعات العسكرية من مصلحتها تصريف إنتاجها العسكري من خلال الصراعات والحروب.
ثالثاً، الأمولة: التوسع في الاقتصاد الرمزي
الأمولة تعني توسعة الاقتصاد المالي أو الرمزي على حساب الاقتصاد الحقيقي، ونقصد بالاقتصاد الرمزي حركة رؤوس الأموال بما فيها تقلبات أسعار الفائدة وتدفقات الائتمان، أما الاقتصاد الحقيقي فنقصد به حركة السلع والخدمات.
نجد أنه يحدث، دائماً، توسعة للاقتصاد الرمزي أو المالي على حساب الاقتصاد الحقيقي.
نلاحظ أنه في الفترة ما بين عامي 1954 إلى 1965 – التي تطلق عليها الأدبيات الاقتصادية فترة النمو الذهبي للاقتصاديات العالمية شرقاً وغرباً– وهو العقد الذي يمثل أكبر حقبة حدث فيها النمو الاقتصادي العالمي، سواء في الدول الرأسمالية أو في دول منظومة التخطيط المركزي أو الدول الاشتراكية. في تلك الفترة حدث النمو للمعروض الدولاري بنسبة 55% فقط، بمعنى أنه مع النمو الضخم للاقتصاد، كل ما جرى ضخه من الدولارات في السوق العالمي حينها كان 55% من جملة المعروض سابقاً، فلو كان جملة المعروض مثلاً هو 100 دولار، ففي هذه الفترة أصبح المعروض 155 دولارا. لكنه في الفترة بين عامي 1970 إلى 2001، حدث النمو للمعروض الدولاري بنسبة 2000 % فلو كان جملة المعروض في عام 1970 مثلاً هو 100 دولار في السوق العالمي، ففي عام 2001 أصبح المعروض هو 2000 دولار، وأصبحت 67% من احتياطات البنوك المركزية موجودة في صورة دولارات.
هنا الرأسمالية وجدت في الأمولة وسيلة مهمة جداً لتحقيق معدلات ربح خيالية بلا حدود وبلا سقف، وهي طريقة لتحميل البلدان الأضعف تبعات وخسائر الأزمة الاقتصادية. فإذا كانت الرأسمالية مشكلتها هي في انخفاض معدل الربح، فإنه في الأمولة لا يوجد سقف للربح، وطوال الوقت توجد فرصة للمكسب، وتوجد دائماً فرصة لأن يخلق المال مالاً. لا يوجد هنا ارتباط ما بين رأس المال والتجارة، وإنما رأس المال هذا أصبح لديه دورة مغلقة خاصة به لا علاقة لها بالإنتاج الحقيقي للربح والخسارة، بحيث أنه لم تعد التدفقات النقدية معبرة عن التدفقات العينية. مثال على ذلك، ممكن أن شركة (س) يكون لها سهم في البورصة، وطوال الوقت يحقق السهم أرباحا – لو كانت عليه مضاربات أو حركة سيولة كبيرة- ويحقق نموا. هذا لم يعد مرتبطا بوضع وبأداء الشركة الفعلي على أرض الواقع، بل نجد مثلاً أن شركة ليس لديها كفاءة في الإنتاج، وقد تكون في طريقها لتحقيق خسائر خلال العام، لكن وفي نفس الوقت السهم للشركة يكون مرتفعا جداً في البورصة ليحقق مكاسب خيالية. والعكس صحيح، بمعنى نجد شركة أصولها ومواردها قوية جداً، وستحقق مكاسب كبيرة لكن السهم للشركة لا تحدث عليه أي شكل من أشكال المضاربات بحيث أنه لا يعكس قوة هذه الشركة. هذا ما نسميه بانفصال الاقتصاد الرمزي عن الاقتصاد الحقيقي لدرجة أن دراسات تؤسس عليه، على فكرة التوقعات للأسهم بناء على حركتها السابقة لتحديد إمكان ارتفاعها أو انخفاضها بغض النظر عن الاقتصاد الحقيقي للشركة المعنية.
إذن، الأمولة تغلبت على فكرة انخفاض معدل الربح، بفتح إمكانية تحقيق الربح دائماً بغض النظر عن الواقع الفعلي، وإمكانية ان المال يخلق مالا. في ذات الوقت الرأسمالية، وفي قلبها الولايات المتحدة الأميركية، تتيح الفرصة لتحميل أعباء أزماتها للحلقات الأضعف. أيضاً هنا أستشهد بالاقتباس من ماركس الذي أوردته في تقديم الجلسة عن أن الكل يُمَنّي نفسه بالربح والكل يعلم أن الكارثة قادمة، لكنه يتخيل أنه سيربح ومن بعده الطوفان يطيح بالآخرين، بمعنى أنه يوجد سهم مبالغ جداً في صعوده، وحتماً في هذه الحالة سيهبط ويخسر لكن الكل يتوقع تحقيق ربح فيه بشرائه وبيعه لآخرين قبل الخسارة فيه.
ويعتمد الاقتصاد الرمزي، أيضاً، على آليتين رئيسيتين هما سعر الفائدة وسعر الصرف، مثلاً في سعر الصرف للعملات، يقوم الناس بالمضاربة، على العملة مثلاً، شراء عملة معينة الدولار بسعر يعلمون إمكانية انخفاضه لكنهم يشترونها- كما يحدث في الأسهم- رغبة منهم في ربح سريع بحيث يتحمل من يشتري العملة بعد ذلك الخسارة في انخفاض سعرها.
في هذا السياق، الولايات المتحدة الأميركية هي أكبر دولة عملت على الاستفادة من تحميل تبعات أزمتها الاقتصادية. مشكلة الاقتصاد الأميركي أنه يعاني من عجز مزمن في الميزان التجاري، مع عجز في الموازنة العامة، وتقوم بتمويل هذا العجز عن طريق طباعة الدولارات بحيث يتحمل باقي العالم فشلها، فنجد أنها أكبر دولة مدينة ولكن على الرغم من ذلك لا يبدو أن لديها أزمة، وفي اقتصادها تجري المحافظة على مستوى معيشة مرتفع عن طريق تحميل الأزمة للشعوب في دول أخرى. مثال على ذلك، في الثمانينات كانت اليابان أكبر دولة دائنة لأميركا، بينما هذا الوضع يُفترض أن يكون في صالح اليابان، لكن ما حصل هو العكس إذ أن أميركا استفادت من أنها مدينة لليابان، وضغطت لتخفيض سعر صرف الدولار ممَّا أوقع اليابان في أزمة لأن مصارفها اكتشفت أن نصف الأصول التي تخصها والتي هي مُقوّمة بالدولار انخفضت مباشرة بتخفيض أميركا لسعر الدولار. فلنتخيل كيف هو هذا الوضع المقلوب، بحيث أنه عوضاً عن أن تتعرض الدولة المدينة – في اقتصادها ومعيشة مواطنيها – لضغط الدولة الدائنة، يحدث العكس تماماً. هذا هو نتيجة للوضع الاستثنائي لها في المنظومة الرأسمالية، أو البلطجة التي تمارسها أميركا بأن يكون الدولار الأميركي هو عملة الاحتياطيات العالمية.
ختاماً، أدعو المهتمين بالموضوع البحث عن عدد من المحطات التاريخية تتمثل فيما يلي: (1) نظام بريتون وودز Bretton Woods بعد الحرب العالمية الثانية، وهو النظام الذي مَكَّن الدولار الأميركي من الوصول لمكانته العالمية؛ (2) إعادة إعمار أوروبا بقروض أميركية لتصبح أوروبا بعدها السوق المفتوح للمنتجات الأميركية؛ (3) النمو الاقتصادي في اليابان وأوروبا وبعض البلدان النامية أفضى لنتيجة معاكسة بحيث أصبحت تلك الدول هي من تقوم بالتصدير لأميركا؛ (4) الكساد الاقتصادي الأميركي بسبب حرب فيتنام وحروب السيطرة خلال الحرب الباردة في ستينات القرن الماضي؛ (5) انكماش الاقتصاد الأميركي الذي استتبع رفع غطاء الذهب عن الدولار عام 1971؛ (6) طفرة ارتفاع عوائد بيع النفط في السبعينات وهو ما مَكَّن الرأسمالية من الحصول على فائض ضخم ساعدها في السيطرة على دول الجنوب بتصدير قروض كبيرة بفوائد متغيرة؛ (7) فوائد القروض في السبعينات ارتفعت بشكل كبير مما تسبب في أزمة مديونية عالمية؛ (8) سياسات صندوق النقد الدولي واجراءات التقشف وتحرير أسواق المال المفروضة على الدول والتي مَكَّنت أميركا من ابتزاز واستنزاف الفائض الاقتصادي لدول الجنوب العالمي لضرورات الحفاظ على مركزها وامتيازاتها في المنظومة الرأسمالية المرتبطة بوضعها الاستثنائي السابق الإشارة إليه، لا بكفاءتها الاقتصادية.
(ملاحظة): هذا تفريغ للمحاضرة المقدمة بتصرف محدود لضرورات تنسيبها لنص مكتوب.
-
الأطروحة (11) هي منصة فكرية تبادر بالاسهام في الجهود الرامية إلى نشر الوعي بالفكر النقدي على قاعدة من أطروحات كارل ماركس بأبعادها الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
View all posts