الماركسية والواقع الأفريقي: في التحرر الوطني

في الفعالية رقم (88) من فعاليات منتدى الأطروحة (11) بعنوان (الماركسية والواقع الأفريقي) نتناول فيها العلاقة الجدلية عن التحرر الوطني في أفريقيا، ولا أدل على جدلية هذه العلاقة أكثر من دراسة صدرت عام 2014 للبروفيسور بيكو اغوزينو Biko Agozino من نيجيريا -وهو المُحاضر في جامعة Virginia tech بأميركا في مادة علم الاجتماع والدراسات الأفريقية- والتي تبحث في فضل الأشخاص ذوي الأصول الأفريقية على فكر كارل ماركس. هذه الدراسة بعنوان Karl Marx’s Debt to People of African Descent تشير إلى حقيقة فضل القارة الأفريقية على ماركس لا سيما في إعداد وكتابة كتاب “رأس المال” من حيث اعتماد ماركس على تصور تقاطعي لا يتوقف عند حدود فهم الصراع والاستغلال والتراكم الأولي – بل والمستمر لرأس المال- بوصفه فقط صراعاً طبقياً، فهو تصور يمتد ليدرس أثر العلاقات الجندرية والعرقية لتطوير ماركس لإطار نظري يشرح النضال الإنساني للتحرر من الاضطهاد. ولقد خلصت الدراسة إلى أنه لا عذر مطلقاً للباحثين الأفارقة إذا هم رفضوا التحليل الماركسي، والسبب في ذلك ليس فقط لأن الأهم والأكثر أصالة من بين المفكرين في أفريقيا هم ماركسيون بشكل واضح، بحسب بيكو اغوزينو، بل أيضاً لأن ماركس، على حد وصفه، كان أحد مفكري عصره القلائل في أوروبا الذي لم يحاول أن يخفي فضل أفريقيا المعرفي عليه، بل واحتفى بهذه المعرفة كمؤسسة لتصوراته.

في هذه الجلسة عن الماركسية والواقع الأفريقي التي تتناول حركة التحرر الوطني في أفريقيا نستضيف فيها الأستاذ أديسون جوزيف، وهو كاتب وباحث من جنوب السودان مهتم بالدراسات الأفريقية، وسبق له أن شارك بكتابة فصل من كتاب “البان أفريكانيزم: بين الصراع الطبقي والانضواء العرقي” الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، كما تتوافر له العديد من المقالات والأبحاث المنشورة في المجلات والمواقع الالكترونية.

بداية نشكر جهودكم للتعريف بالفكر الماركسي وإسهامات هذا الفكر في التجربة الإنسانية بأسرها. الورقة المقدمة اليوم تحتوي على ثلاثة محاور (1) المقدمة عن الماركسية في سياق العالم الثالث، (2) الماركسية وعلاقتها بمناهضة وتصفية الكولونيالية وروافد علاقتها بحركة التحرر الوطني في أفريقيا، (3) كيف استطاعت الماركسية الإجابة على أسئلة الواقع الأفريقي بإسهاماتها النظرية والعملية.

الماركسية في سياق العالم الثالث

بشكلٍ عام، فمن المعروف أن النظرية الماركسية تأسست من مجهود نظري لماركس وانجلز، وقد تركز الجزء الأكبر من عملهما النظري في تناول الواقع الأوروبي مثل صراع الطبقات بين البرجوازية والبروليتاريا، والأشكال المختلفة للاضطهاد الطبقي الممارس في أوروبا تحديداً من قبل الرأسمالية. هذا هو السياق الذي عمل فيه كارل ماركس وخرجت فيه إسهاماته بالتفسير والتحليل والإنتاج لمفاهيم مختلفة مثل مفهوم الاغتراب وغيره من المفاهيم. هذا الأمر خلق انطباعاً عاماً بأن النظرية الماركسية صالحة فقط لواقع المجتمعات الأوروبية الحديثة، وقد ساهم في سيادة هذا الانطباع اختزال الماركسية بشكل تبسيطي في مجموعة نتائج توصل إليها ماركس وانجلز. لكن كي نفهم سياق تأثير الماركسية يجب علينا العودة إلى تعريف النظرية الماركسية –باختصار شديد– بوصفها تتكون من ثلاثة مكونات: المادية الجدلية والمادية التاريخية كأدوات للتحليل، بالإضافة للاشتراكية العلمية كنظام سياسي واقتصادي وصولاً إلى المجتمع الشيوعي، وهذه هي مجموعة تصورات وضعها ماركس وانجلز لكيفية إنفاذ هذه النظرة في المجتمعات وفقاً لشروط علمية.

الماركسية كنظرية متكاملة تربط التحليل النظري بالنتائج العملية، فهي ليست نظرية للتأمل النظري الأكاديمي بل هي أداة للممارسة وللتغيير وصولاً إلى مجتمع خال من الاستغلال بسبب التفاوت الطبقي ومن انعدام العدالة في توزيع الثروات، ومن الاختلال بين من يمتلكون الثروة ومن لا يمتلكونها. تجدر الإشارة إلى أن أدوات التحليل الماركسي – سواء كانت في المادية الجدلية أو المادية التاريخية أو في الاقتصاد- كلها تهدف إلى فهم عملية القهر والظلم الاجتماعي في المجتمع المحدد الذي يسود فيه الاستغلال بسبب التفاوت الطبقي، وإلى معرفة أشكال الاستغلال السائدة للطبقات العليا التي تراكم الثروة، وما هو النمط المعيشي للطبقات العليا والدنيا. إذن هي كنظرية ليست فقط معنية بتحليل الواقع، لكنها تستهدف بهذا التحليل ممارسة سياسية لتغيير هذا الواقع. هنا نجد أن التراث الماركسي، أقصد به ذلك المُنتج من قبل ماركس وانجلز من كتب ومخطوطات، قد تركز في نشأته على دراسة المجتمع الأوروبي ولم يكن في مقدور ماركس وانجلز دراسة المجتمعات خارج أوروبا لأسباب كثيرة منها الملاحقة الأمنية لكليهما داخل الدول الأوربية، وعدم توفر الفرص كثيراً للسفر خارج أوروبا، بالإضافة إلى نقص المتوفر في الدراسات التي تتناول واقع البلدان خارج أوروبا باستثناء مثلاً التقارير في الوثائق البريطانية عن الهند والصين وهي لا تصلح كدراسات لتلك المجتمعات. لذلك اقتصر المجهود النظري لماركس وانجلز حول المجتمع الأوروبي، أما كتاباتهم عن خارج أوروبا فكانت عمومية، مثلاً تلك التي هي حول الصين والهند وإندونيسيا والجزائر، بالإضافة إلى استخدام مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي كمحاولة لفهم نمط الإنتاج السائد في آسيا.

الماركسية كنظرية مناهضة للكولونيالية 

القضية الأساسي للنظرية الماركسية هي إلغاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وصولاً لمجتمع لا يعيد إنتاج استغلال الإنسان لإنسان آخر بسبب من التفاوت الطبقي. بحسب فرانز فانون، فإن الكولونيالية هي نموذج خاص لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وهو ما يعني أن الاستعمار جزء من قضايا الفكر الماركسي باعتباره شكل من أشكال الاضطهاد القومي والعنصري من قبل نظم دول استعمارية تجاه شعوب أخرى، بحيث يُمَّكن الاستعمار الدولة الاستعمارية من الاستيلاء على موارد شعب مُستَعمَّر فتتحكم فيه سياسياً لتفرض عليه نظام إنتاجي أو اقتصادي معين. في هذا السياق تجدر الإشارة إلى إسهام لينين في أطروحته حول الامبريالية باعتبارها أعلى مرحلة للرأسمالية، والتي تشرح كيف انتقلت الرأسمالية إلى الطور الإمبريالي.

هناك لغط وجدل كثير حول توصيف ماركس بأنه يمكن تصنيفه ضمن نطاق المركزية الأوروبية، وقد ساهم إدوارد سعيد في إثارة هذا الجدل بادعائه بأن فكر ماركس ينطلق من المركزية الأوروبية. كثيرون دحضوا هذا الزعم لسعيد، منهم مؤخراً  كيڤن أندرسون في كتابة بعنوان “ماركس ومجتمعات الأطراف: حول القومية والإثنيات والمجتمعات غير الغربية”.  لقد ناقش أندرسون هذه الفرضية، ودحض ادعاء إدوارد سعيد بالرجوع إلى النصوص من تراث ماركس النظري والذي اشتمل على نصوص واضحة ضد الممارسات الاستعمارية مثل نقد ماركس للاستغلال البريطاني للصين خلال حرب الأفيون التي كانت تضخ في موازنة بريطانيا سنوياً أرباحاً خيالية على حساب حياة وصحة الشعب الصيني؛  بالإضافة إلى حديثه عن تقديم بريطانيا الرشاوى لصغار الموظفين مقابل التنازل عن المداخيل المستحقة للصين من عبور البضائع؛ فضلاً عن انتقادات ماركس للانتهاكات الفظيعة  للجنود البريطانيين في الصين والهند؛ أو إشارته إلى الأثر السلبي لسياسة بريطانيا (َفرِّق تَسُد) كوسيلة لبسط السيطرة  السياسية على الهند من خلال التفريق بين الأعراق والقبائل… إلخ من انتقادات ماركس المتفرقة للممارسات الكولونيالية. 

إسهام الماركسية في مناهضة وتصفية الكولونيالية في أفريقيا 

استطاعت النظرية الماركسية في أطروحاتها النظرية أن تكون جاذبة للمناضلين في دول العالم الثالث في معركة التحرر الوطني. مثلاً في نموذجي ماو في الصين وكاسترو في كوبا، فقد نجحا في توظيف الماركسية في واقعهم من خلال تحليل أشكال التناقض الموجودة لديهم وصولاً إلى خلق أنظمة – أياً كان حكمك عليها بالنجاح أو الفشل- نجحت عموماً في القضاء على الشكل الاستعماري وهيمنة الرأسمالية على بلدانها. فيما يخص الواقع الأفريقي، فقد شكَل سؤال التعامل مع الاستعمار -بعد مؤتمر برلين الشهير الذي أدى لتقسيم أفريقيا بين دول أوروبا الاستعمارية وخضوع الدول الأفريقية للاستعمار المباشر- تحدياً يطرح عدة مقاربات للتحرر من الاستعمار وتصفية آثاره في المجتمعات الأفريقية. من تلك الوقائع استمدت النظرية الماركسية راهنية تميزها باعتبار منهجها يساهم في تحليل الاستغلال الرأسمالي الاستعماري، وبطرحها الاشتراكية كإطار للوصول لمجتمع تسود فيه التنمية والعدالة والرفاهية للشعوب الأفريقية، ومستفيدة في ذلك من التراث الماركسي الثري في مقاومة كافة أشكال الاستغلال.

هنا يجب الإشارة إلى أن الشعوب الأفريقية بدأت في مقاومة الاستعمار الأوروبي منذ اليوم الأول عبر سلسلة من الانتفاضات العفوية من خلال تنظيمات وأشكال قبلية تقليدية مثلما حدث في انتفاضة الزولو في جنوب أفريقيا، وثورة الماجي ماجي في تنزانيا، وانتفاضة الأشانتي في ساحل الذهب (غانا)، وثورة الهيريرو والناما في ناميبيا عام 1904. لكن المقاومة القبلية المسلحة لم تنجح في إنهاء النظام الاستعماري لعدد من العوامل منها انعزالية المقاومة عن باقي البلد وانحصارها وسط قبائل معينة، وغياب الأطر التنظيمية والسياسية التي تقود المعركة، وضعف التسليح العسكري. عدم الفعالية للمقاومة القبلية ولَّدت ظروفاً موضوعية لنشوء أشكال جديدة لتنظيم المجتمعات الأفريقية لإنهاء الحكم الاستعماري، ونتيجة لهذا الوضع نشأت التنظيمات الحديثة الوطنية من حركات مطلبية وعمالية وفلاحية تتوجت بظهور حركات التحرر الوطني كشكل تنظيمي في المجتمعات الأفريقية مكونة من مختلف القبائل، ولديها إطار فكري وسياسي واضح لإنهاء وتصفية الاستعمار، ومستندة على منهج ثوري وهياكل تنظيمية لممارسة العمل الثوري التحرري. هكذا شهدت القارة ميلاد حركات التحرر الوطني التي قادت أفريقيا في معركة الاستقلال من الاستعمار، وفي السرد التاريخي يمكن القول إن انطلاقة المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا    National African Congress في العام 1912، كان علامة فارقة على ولادة حركات التحرر الوطني في أفريقيا بشكلها الحديث والمختلف عن الأشكال السابقة لمقاومة الاستعمار. 

روافد علاقة الماركسية بالحركات الوطنية في أفريقيا

لمعرفة تأثير الماركسية على حركة التحرر الوطني في أفريقيا ينبغي إعمال منهج التتابع التاريخي لتحديد كيف ارتبطت النظرية الماركسية بالواقع الأفريقي وكيف حدث هذا التأثير. الجدير بالذكر أنه منذ العقد الثاني للقرن العشرين كانت الأحزاب الشيوعية حول العالم تتجمع سنوياً في إطار الأممية العمالية، وكانت تتطرق في نقاشاتها لقضايا الاستعمار وأوضاع الشعوب في المستعمرات كما في أفريقيا، بالإضافة إلى واقع السود في أوروبا وأميركا الشمالية. من هنا كان يربط الماركسية بالواقع الأفريقي عدد من الروافد منها الارتباط بين الأحزاب الشيوعية والاشتراكية وطلائع النخبة الأفريقية التي قادت عملية بناء حركات التحرر الوطني في بلدانهم، يشهد على ذلك تلك العلاقة الوثيقة التي جمعت بين شيوعيين من خارج أفريقيا بالمناضلين داخل القارة، وقد نتج عن تلك العلاقة نشوء أحزاب شيوعية وحركات للتحرر الوطني.

في جنوب أفريقيا على سبيل المثال، كان شكل الاستعمار يأخذ طابع الفصل العنصري في نظام يفصل بين المواطنين الأصليين السود والمستوطنين البيض الذين استولوا على الأرض وحرموا الشعب الجنوب أفريقي من أبسط حقوقه. لكن حركة تقدمية اشتراكية وشيوعية ولدت من قبل العمال البيض، وكانت على اتصال بالأممية الشيوعية، هي التي ساهمت في تأسيس حزب العمل في جنوب أفريقيا عام 1910 للتعبير عن مظالم العمال البيض في المناجم.  ثم في العام 1913 تم فتح باب العضوية للعمال الملونين، وقد تطور لاحقاً في العام 1915 إلى الرابطة الاشتراكية الدولية التي فيما بعد شكلت النواة لتكوين الحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا عام 1921، كأول حزب غير عنصري في جنوب أفريقيا عضويته مفتوحة للبيض والسود. في البداية كانت الأغلبية والقيادة للعمال البيض، ومن ثم تحول إلى حزب للسود مع مرور الوقت وتم (أفرقته). الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي قاد تحالفاً ضخماً مع المؤتمر الوطني الأفريقي ليقودا، سوياً، جنوب أفريقيا خلال مرحلة النضال ضد نظام الفصل العنصري منذ العشرينيات حتى الانتصار الجزئي للثورة عام 1994 التي تمثل تسوية سياسية للحصول على الحقوق السياسية، بينما وجهة النظر الماركسية ترى أن هذا التحرر يجب أن يكتمل بجانبه الاقتصادي فيما يخص ملكية الأرض.

رافد آخر فيما يخص تعرف المناضلين من قادة التحرر الوطني بالماركسية كان يتمثل في السفر إلى أوروبا للدراسة. يُعد “أميلكال كابرال” Amílcar Cabral نموذجاً لهؤلاء المثقفين الذين سافروا إلى أوروبا، فهو قد توجه إلى البرتغال لتلقي التعليم الأكاديمي، وخلال دراسته بالجامعة في لشبونة اختلط بالطلاب الأفارقة القوميين وبدوائر البرتغاليين المناهضة للفاشية، وشارك في الجناح الشبابي لحركة الوحدة الديمقراطية حيث كان للحزب الشيوعي البرتغالي تواجد كبير. هناك تعرف كابرال على الماركسية في حلقات النقاش وباطلاعه على الكتب الماركسية، وانجذب إلى أفكار ماركس وانجلز ولينين. وعندما عاد إلى بلده ساهم في تأسيس الحزب الأريقي للاستقلال غينيا بيساو والرأس الأخضر، وهو الحزب الذي قاد عملية تحرير واستقلال البلد من الاستعمار البرتغالي. 

من تلك الروافد أيضاً، علاقة الأحزاب الشيوعية الأوروبية في البلاد المُستعمِرة بنظيرتها في البلاد الأفريقية المُستَعمرة: مثلاً ساهم الحزب الشيوعي الفرنسي في بناء الأحزاب الشيوعية الأفريقية في المستعمرات الفرنسية والتواصل مع الشيوعيين هناك: كما حدث في الجزائر، أو مع حزب الاستقلال الأفريقي في السنغال. لاحقاً، ساهم لاهوت التحرير الذي نشأ في أميركا الجنوبية -في ستينيات القرن الماضي- عن طريق الأب جوستاف جوتييرز وآخرين في تثوير الوعي الديني لدى الكنائس في أفريقيا مما أدى إلى تبلور لاهوت تحرير أفريقي للاستجابة إلى واقع الإنسان الأفريقي والأسود خلال مرحلة الاستعمار والتعبير عن آماله في التحرر وتصفية الاستعمار. انتشر لاهوت التحرير الأسود في دول الجنوب الأفريقي، حيث كان تواجده أبرز هناك، وقاد تياراً مقاوماً للاستعمار الاستيطاني، ومن المعروف أن لاهوت التحرير، كتيار فكري، متأثر بالماركسية في تناوله وتبنيه لقضايا الظلم الاجتماعي.

أيضاً تعتبر حركة البان أفريكا وحدة أو عموم إفريقي من الروافد المهمة لِتَعرّف المناضلين الأفارقة على الماركسية. هذ الحركة شكلت الصلة بين نضالات الشعوب الأفريقية في القارة من جهة، ونضالات الشعوب ذات الأصل الأفريقي في أميركا الشمالية وأوروبا من جهة أخرى، وذلك من أجل التحرر من الأوضاع المأساوية في ظل النظام الرأسمالي. عقدت الحركة في تصديها لقضايا الشعوب الأفريقية أربعة مؤتمرات في الفترة بين 1900 حتى 1927. هذه الحركة في انطلاقتها كانت متأثرة بالماركسية في أشخاص كثر من قيادتها، فمثلاً الأب الروحي للحركة دبليو ديبويس  W.E.B. DuBois وهو مفكر ومناضل اشتراكي أميركي، ومتأثر بالتحليل الماركسي، كان على علاقة بالحزب الشيوعي الأميركي، وهو قد زار الصين والاتحاد السوفييتي، وحاز على جائزة لينين للسلام. وفي العموم ساهمت الماركسية في تشكيل وعي طلائع القادة لحركة “البان أفريكا” من أمثال جورج بادمور  George Padmore وبيتر ابراهام  Peter Abrahams وكوامي نكروما Kwame  Nkrumah  لكن حتى المؤتمر الخامس للحركة كانت أغلب قيادتها من أصول أفريقية لا تحمل جنسيات بلدان أفريقية. ولقد تمكن طلائع النخبة القادمين من القارة الأفريقية من أن يمثلوا حلقة الوصل بين نضالات الشعوب الأفريقية في داخل القارة وخارجها من خلال المؤتمر الخامس للحركة الذي انعقد بمدينة مانشستر الإنجليزية عام 1945 الذي مثل نقطة تحول في تاريخ فكر وممارسة حركة “البان أفريكا”.

تنبع أهمية المؤتمر الخامس من حضور أشخاص يمثلون أفريقيا المُستَعمرة الذين قدموا من دول أفريقية مثل كوامي نكروما، وجومو كينياتا Jomo Kenyatta  وبيتر ابرهام، وآخرين، بحيث طرح حضورهم تحرير أفريقيا من الاستعمار كقضية رئيسية في المؤتمر. تُمثل الإضافة الكبيرة للمؤتمر الخامس في أنه قدم تحليلاً شاملاً لأوضاع القارة تحت الاستعمار من حيث أساليب الاستغلال الممنهج لنهب الموارد في أفريقيا، وكيفية سيطرة رأس المال الأجنبي على اقتصاديات الدولة، وتحويلها لاقتصاد المنتج الواحد بغرض التصدير، وتعدد أشكال الاستغلال للطبقات الاجتماعية مثل المزارعين والعمال، مع تحليل الهياكل السياسية التي ترسخ هذا الاستغلال والمصاحبة له. لم يكتف المؤتمر بالتحليل فقط بل قدم حلولاً جذرية لتلك الإشكاليات متمثل في ضرورة حصول الشعوب الأفريقية على الحكم الذاتي والاستقلال الكامل، وقد اعتبر السلطة السياسية المدخل الأولي للتحرير ليكتمل بالتحرير الاقتصادي من خلال انتهاج التطور اللارأسمالي ورفض سيطرة رأس المال على الصناعة والثروة، مع ضرورة الإدارة الديمقراطية للاقتصاد وتوفير الخدمات الأساسية مثل مجانية التعليم والصحة وإتاحة الفرص للحريات العامة وحرية التعبير والتجمع والتنظيم. لكل ذلك، يعتبر المؤتمر الخامس أنه شهد تحولاً جذرياً وثورياً في فكرة “البان أفريكا” بربط إشكاليات الاستعمار بالنظام الرأسمالي والامبريالية العالمية مع استعراض الأدوات المنهجية لإدارة المعركة ضد الإمبريالية والرأسمالية عبر تنظيم الطبقات الثورية من العمال والمزارعين، بجانب المثقفين الثوريين، للنضال. وقد أفرز المؤتمر ميلاد فيديرالية “البان أفريكا” التي ضمت كل الأشكال التنظيمية الحاملة لفكرة “وحدة أو عموم أفريقيا – بان أفريكا” والتي ساهمت في تفجر الموجة الأولى للثورات في أفريقيا ضد الاستعمار التي هزت مختلف أرجاء القارة. والملاحظ هنا هو نشوء حركات التحرر الوطني في أفريقيا بنهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، أي في وقت قريب من زمن انعقاد المؤتمر الخامس للحركة. 

أيضاً أذكر في ختام هذه الروافد لعلاقة الماركسية بالتحرر الوطني في أفريقيا مؤتمر الكتاب والفنانين من ذوي الأصول الأفريقية الذي انعقد في روما عام 1959. هذا المؤتمر ساهم في تشكيل حركة الوعي وسط المثقفين من ذوي الأصل الأفريقي اتجاه قضايا القارة حيث دعى إلى اعتبار الاستقلال السياسي والتحرر الاقتصادي شرطان جوهريان للتقدم الثقافي للدول الأفريقية. التيار الماركسي كان من أهم التيارات حضوراً في المؤتمر بدعوته الأدباء والفنانين الأفارقة إلى دراسة تاريخ شعوبهم الحقيقية وحالاتهم الاقتصادية والتزامهم بآمالهم وتطلعاتهم. من الحاضرين للمؤتمر المذكور، على سبيل المثال، الكاتب الفرنسي من أصول أفريقية إيمي سيزير Aimé C ésaire وهو قد سبق له أن انضم للحزب الشيوعي الفرنسي. 

الإسهام النظري للماركسية في حركة التحرر الوطني 

رغم اتساع أثر الإسهام النظري للماركسية في حركة التحرر الوطني الأفريقية، إلا أنني سأقتصر هنا في الحديث عن نقطتين فقط، وهما:

فهم عملية الاستغلال

كما قال المفكر كومي توري  Kwame Ture لحزب الفهود السود في أميركا، إن أعظم اكتشاف لكارل ماركس هو المادية الجدلية والمادية التاريخية – فالاشتراكية موجودة قبل ماركس – بوصفهما أدوات لتحليل الظواهر في أي مجتمع لمعرفة أشكال الاستغلال السائد بما يمكن لاحقاً من التعامل معها. استفاد الماركسيون من تلك الأدوات في معرفة أشكال الاستغلال من قبل الاستعمار الرأسمالي عبر الاستحواذ على الفائض من إنتاج عمالة الأفارقة من السلع الخامة، وأشكال الاستغلال المتمثلة في تصدير أفريقيا للمواد الخام بسعر رخيص واستيرادها للسلع المُصنّعة في أوروبا – من المواد الخام الأفريقية – بتكلفة عالية (مثلاً القهوة والمنتجات التجميلية والملابس القطنية). لذلك من أهم إسهامات الماركسية في مسألة التحرر في أفريقيا هو فهم شكل التبادل غير المتكافئ وسيادة نموذج التبعية للاقتصاد الرأسمالي الأوروبي. 

استيعاب التناقض الأساسي

أسهمت الماركسية في جعل حركات التحرر الوطني تقوم باستيعاب التناقض الأساسي بأنه مع الاستعمار الأوروبي في النظام الرأسمالي الإمبريالي وليس مع الشعوب الأوروبية، أو كما قال كابرال أن معركة حزبه للاستقلال هي مع الاستعمار البرتغالي فقط، وليست مع الشعب البرتغالي. هذا الفهم هو أيضاً في مقابل التناقض الثانوي مع الفئات الأفريقية التي ارتبطت مصالحها الطبقية مع الاستعمار. أيضاً مكّن هذا المنهج حركات التحرر الوطني من فهم التناقضات السائدة في داخل الأنظمة الرأسمالية التي تمارس الاستعمار مما ساهم في خلق تحالفات مع الدول الاشتراكية، والأحزاب والحركات التقدمية في أوروبا لخوض المعركة الأساسية للاستقلال. 

انعكاس التراث الماركسي على المستوى العملي في حركات التحرر الوطني

حين نتحدث عن التراث الماركسي نشير إلى ماركس وانجلز، ولينين وماو تسي تونغ، وكاسترو وغيرهم ممن أثروا الماركسية نظرياً وعلى مستوى الممارسة السياسية. يمكن إيجاز أثر الإسهام الماركسي في أدوات عمل حركات التحرر الوطني في أفريقيا على النحو التالي: 

تنظيم الفئات الثورية

استفادت حركات التحرر الوطني في أفريقيا من الإرث النظري للماركسية في تثوير وعي الطبقات الثورية: تحديداً العمال والفلاحين، وتنظيمها للنضال في معركة الاستقلال، والربط بين قضية تحسين شروط العمل وإنهاء الاستعمار، أي عدم الفصل بين الموقف الوطني والموقف الطبقي. في هذا السياق، تم تكوين النقابات على مستوى بلدان أفريقية: مثلاً الاتحاد الوطني للعمال في ناميبيا الذي قاد إضرابات جماهيرية ضخمة، كذلك الحال مع عمال المناجم في جنوب أفريقيا، وعلى مستوى القارة الأفريقية تشكل الاتحاد الفيدرالي العام للعمال الأفارقة، والذي نشأ في نهاية الخمسينيات. 

حرب العصابات العسكرية

رواد الماركسية في العالم الثالث مثل الصيني ماو تسي تونغ والكوبي فيدل كاسترو أضافوا حرب العصابات كأحدى أدوات التغيير الثوري الفعالة في العالم الثالث مقابل عدم فعالية النضال السلمي. لقد استلهم مناضلو حركات التحرر الوطني في معركة تحقيق الاستقلال في أفريقيا أداة حرب العصابات العسكرية، وقد تدرب العديد منهم في دول مثل الصين والاتحاد السوفييتي وكوبا لينجحوا في تحقيق الاستقلال لبلادهم في نهاية الأمر. أذكر منهم كأمثلة جبهة فريليمو Frelim في موزمبيق، وحزب الاستقلال في غينيا بيساو والرأس الأخضر.  

الهياكل التنظيمية 

استفادت حركات التحرر الوطني في أفريقيا من الشكل التنظيمي الماركسي- اللينيني القائم على المركزية الديمقراطية في كيفية إدارة تنظيمات ذات قيادة موحدة تقود الفعل السياسي للحركة. هذه بعض النماذج المحدودة حيث لا يتسع الوقت لتقديم كامل أثر الماركسية على حركات التحرر الوطني في أفريقيا. 

في الختام يجب توضيح أن ماركس وانجلز لم يوليا حيزاً كافياً لمسألة العنصر أو العرق في تحليلهم الطبقي بينما ظهرت هذه المسألة بشكل كبير في الواقع الأفريقي، وهو ما فرض محاولات فهم هذا الجانب في ضوء نتائج التحليل الماركسي حيث توجد مساهمات نظرية عديدة في هذا الشأن قدمها كوامي نكروما، أميلكال كابرال، وغيرهم لوضع مسألة العنصرية في السياق العام للنضال ضد الاستعمار في أفريقيا والكفاح ضد الاستغلال الرأسمالي. 

ملاحظة: هذا تفريغ للمحاضرة المقدمة بتصرف محدود لضرورات تنسيبها لنص مكتوب.

Author

  • الأطروحة (11)

    الأطروحة (11) هي منصة فكرية تبادر بالاسهام في الجهود الرامية إلى نشر الوعي بالفكر النقدي على قاعدة من أطروحات كارل ماركس بأبعادها الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

أزمة مصرفية أم أزمة نظام اقتصادي – 2

يتناول الأستاذ محمد عبد الحليم ضمن فعاليات الأطروحة (11) بقراءة نقدية المنظور الاقتصادي فيما يخص تعامله مع أزمات البنوك أو المصارف، كما تجلت – مؤخراً – في انهيار بنك وادي السيليكون Silicon Valley Bank  (SVB)  وما تبعه من ارتدادات سواء على مستوى أميركا أو القارة الأوروبية.

أزمة مصرفية أم أزمة نظام اقتصادي؟ – 1

يتناول الأستاذ محمد عبد الحليم ضمن فعاليات الأطروحة (11) بقراءة نقدية المنظور الاقتصادي فيما يخص تعامله مع أزمات البنوك أو المصارف، كما تجلت – مؤخراً – في انهيار بنك وادي السيليكون Silicon Valley Bank SVB وما تبعه من ارتدادات سواء على مستوى أميركا أو القارة الأوروبية. وهنا نسأل، هل أزمة البنوك فعلياً هي أزمة تخص البنوك، منفصلة عن المنظومة الرئيسية التي تعمل من خلالها البنوك؟ وتعمل بحسب آلياتها وقوانينها المعلنة، بل وقوانين حركة المجتمع الرأسمالي؟

نظرية الثورة العلمية: عرض ونقد 2/2

“السوبر” ثورة هي التي يتم بموجبها ولادة علم جديد وذلك على أنقاض فلسفة الطبيعة، بمعنى أنه كل علم لديه فترة تاريخ وفترة ما قبل التاريخ، في فترة ما قبل التاريخ يتمثل العلم في فلسفة الطبيعة، ولكن في “السوبر” ثورة يتم تحطيم فلسفة الطبيعة وعبر أنقاضها يولد العلم الجديد.

نظرية الثورة العلمية: عرض ونقد 2/1

من خلال دراستي لتاريخ الفيزياء تحديداً والفلك والكوزمولوجيا وعلوم الطبيعة، وجدت أنني أضيع تماماً من دون مفهوم الديالكتيك، حيث أنه مفهوم أساسي في فهم أي منظومة فكرية، أو أي منظومة اجتماعية أو أي منظومة طبيعية.