انتفاضة العمّال النيجيريـين: الشرارة التي هزّت أركان الإمبراطورية

-+=

إن الاحتفاء العالمي بتضحيات الطبقة العاملة أتى بفعل نضالها من أجل حقوقها المشروعة التي اكتسبتها بعرقها ودمها في المصانع والمناجم والحقول. لكن خلف لافتات العمال في الشمال، وأرشيف النقابات الكبرى، تظل هناك صفحات مطموسة من التاريخ، تنبض بحكايات المقاومة والنضال في الجنوب العالمي، خاصة في القارة الأفريقية.

إن تاريخ الطبقة العاملة في أفريقيا، لا سيما إبان الحقبة الاستعمارية، لم يُروَ كما ينبغي. فبينما كانت أوروبا تحصي أرباحها من عرق العمّال المستَعمَرين، كان هؤلاء العمّال في لاغوس، وداكار، وأكرا ونيروبي يخوضون معارك يومية من أجل الخبز والكرامة، وفي بعض اللحظات الفارقة، من أجل الحرية نفسها.

ومن بين هذه اللحظات المضيئة، يبرز إضراب عام 1945 في نيجيريا بوصفه لحظة ثورية حاسمة، تجلّى فيها وعي الطبقة العاملة بقوتها التاريخية، واتحدت فيها الإثنيات والأديان تحت راية واحدة ضد آلة الاستعمار البريطاني. ورغم التعتيم الذي طال هذه المحطة المفصلية، فإنها تبقى درسًا بليغًا في معنى التضامن، والإرادة الشعبية، ورفض الخضوع.

إضراب 1945 في نيجيريا… جزء منسي من التاريخ الثوري للطبقة العاملة في أفريقيا

اندمجت نيجيريا في حيز جغرافي واحد عام 1914، لكن الوعي الجماعي بكونها وطنًا موحدًا لم يتبلور إلا عندما توحدت الجماهير بمختلف الإثنيات والأديان في الإضراب العام لسنة 1945. كان ذلك من أوجع الضربات التي تلقتها الإدارة الاستعمارية البريطانية في غرب أفريقيا.

بدأت الأحداث في 10 فبراير باجتماع حاشد لممثلي العمَّال الفنيين، الذين أسّسوا هيئة تنفيذية مشتركة. في 22 مارس، وجهت الهيئة رسالة إلى وزارة المستعمرات البريطانية طالبت فيها بحدّ أدنى للأجور قدره شلنين وستة بنسات، وزيادة بنسبة 50% في بدل غلاء المعيشة ابتداءً من أبريل 1944.

جاء رد وزارة المستعمرات في 2 مايو 1945 بمزيج من الوعظ والتوبيخ: على العمال “تقليل الاستهلاك، الكفّ عن الشكاوى، وبذل جهد أكبر”، وحذرت من أن التمرد لن يؤدي إلى زيادة مخصصات المعيشة.

ردّ العمال الفنيون واليدويون باجتماع جماهيري في قاعة جلوفر التذكارية بلاغوس، حيث ندّدوا ببيان الحكومة، واعتبروا أن “الوضع الاجتماعي للطبقة العاملة لم يعد يُحتمل”. صدر الإنذار بالإضراب خلال شهر إن لم تُلبّ المطالب.

في 30 مايو، التقى وفد عمالي بقيادة النقابي بانكول بالسلطات الاستعمارية، وضمّ الوفد أسماء بارزة كإيرينلي وأبوسيدي وأوسيندو، بعد 12 يومًا، عرضت الحكومة زيادات هزيلة: ثلاث بنسات في لاغوس، و20% في المقاطعات. حاولت السلطات خلق شرخ بين عمال العاصمة والأطراف عبر هذا العرض، كما سعت لاختراق الصف النقابي بتعيينات وامتيازات.

لكن النتيجة جاءت عكسية: توحّد العمال ورفضوا العروض. في 11 يونيو، أرسلت الحكومة بيانًا تحذيريًا زعمت فيه أن تلبية مطالب العمال سيؤدي إلى تضخم مالي في ظل ثبات السلع والخدمات.

في 14 يونيو، أخطر العمَّال إداراتهم بعزمهم على الإضراب بدءًا من منتصف ليل 21 يونيو، وفي 16 يونيو، اجتمع نحو 8000 عامل وأكدوا المضي في الإضراب مع إبقاء الباب مفتوحًا للتفاوض. لكن مؤتمر النقابات العمالية TUCN سعى إلى تعليق الإضراب، وبدأ بإقناع النقابات بالتراجع، معتبرًا أن الإجراء لم يتبع القنوات الرسمية.

جاء رد العمال سريعًا وقاطعًا، في اليوم نفسه أصدرت نقابة عمال السكك الحديدية بيانًا شديد اللهجة اعتبر أن التراجع خيانة، وأن قيادة TUCN “تستخف بمعاناة العمال”. أصرّت القواعد العمالية على تنفيذ الإضراب في موعده.

وفي 21 يونيو، احتشد آلاف العمال في مدرسة القديس بطرس بلاغوس وقرروا العصيان الشامل. دعوا أصحاب الياقات البيضاء للاستقالة، وطالبوا الزعامات التقليدية بالانضمام إلى صفوف العمال. وعندما حضر الحاكم التقليدي لأبالات لاغوس “أوبا فالولو” المُعيّن من قبل الاستعمار لإقناع العمال بالتراجع، طُرد من الاجتماع وضُرب بالأحذية.

انطلق الإضراب في 22 يونيو واستمر 45 يومًا، وشارك فيه عشرات الآلاف من العمال، بتقديرات تتراوح بين 42,000 و200,000 عامل، ممَّا جعله أحد أكبر الإضرابات في أفريقيا الاستعمارية. أُصيبت الإدارة البريطانية بحالة من الذعر امتدت إلى التاج البريطاني نفسه.

لكن لا الترهيب ولا الترغيب نجح في كسر عزيمة العمّال. ثبتوا على مطالبهم حتى رضخت السلطة، وقد اعترف العديد من المؤرخين أن هذا الإضراب كان “مسمارًا في نعش الاستعمار البريطاني” في نيجيريا. لقد منحت شجاعة العمال وزخم الإضراب دفعة هائلة للحركة القومية، وألهمت قيادات وطنية بارزة مثل هربرت ماكولاي، وننامدي أزيكيوي، وسيدتي أولوول، وأوبافيمي أولووو، في نضالهم من أجل الاستقلال.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

الذكاء الاصطناعي الرأسمالي: تحديات اليسار والبدائل الممكنة – التكنولوجيا في خدمة رأس المال أم أداة للتحرر؟

يهدف هذا الكتاب إلى تقديم تحليلات يسارية نقدية للذكاء الاصطناعي، ويطرح بدائل تقدمية لاستخدام هذه التكنولوجيا، بعيدًا عن الهيمنة الرأسمالية التي تُسخّرها لتعظيم الأرباح وتعزيز السيطرة، على حساب شغيلات وشغيلة الفكر واليد.