اتجاه الدراما في مطلع الألفية الثالثة

-+=

مع مطلع الألفية الثالثة وبالتزامن مع الانفجار التكنولوجي الهائل، تغيّر شكل المحتوى المرئي على نحو جذري. فبعد أن كان المشاهد يجلس أمام شاشة التلفاز ليُتابع مسلسلاً من ثلاثين حلقة، ظهرت تطبيقات الفيديو القصير مثل تيك توك (TikTok) التي قلبت موازين التلقي والإنتاج الفني رأساً على عقب.

اعتمدت آلية تيك توك على مقاطع فيديو قصيرة جداً يمكن للمستخدم التنقل بينها بسهولة بمجرد سحب الشاشة للأعلى، وهي آلية بسيطة ظاهرياً لكنها بالغة التأثير على العقل البشري.

إن الدماغ البشري يتعامل مع هذه المقاطع كما يتعامل مع جرعات الدوبامين، فكل فيديو جديد يمثل “مكافأة صغيرة” تحفّز مراكز المتعة في الدماغ، مما يؤدي مع الوقت إلى إدمان المشاهدة وصعوبة التركيز لفترات طويلة. وبسبب هذا النمط المتكرر من التحفيز السريع، يتضاءل مدى الانتباه والتركيز لدى المشاهد، ويصبح العقل معتاداً على التنقل السريع بين المقاطع دون صبر أو رغبة في التعمّق في محتوى طويل.

تأثر المشهد الدرامي بشكل مباشر بهذا التحوّل؛ إذ بدأت شركات الإنتاج تتبنّى نمط الفيديو القصير الذي فرضه تيك توك. فظهرت مسلسلات تُصوَّر بالكاميرا الطولية لتناسب شاشة الهاتف، وتُعرض حلقاتها بمدة لا تتجاوز الدقيقة أو الدقيقة والنصف دقيقة، ويتنقل المشاهد بين الحلقات بالطريقة ذاتها التي يتصفح بها مقاطع تيك توك. ورغم ضعف الحبكة وبساطة الإخراج، حققت هذه المسلسلات نسب مشاهدة عالية وانتشاراً واسعاً، مما شجّع المنتجين على تكثيف هذا النوع من الأعمال.

ولم يقتصر التأثير على هذا الجانب فحسب، بل تقلّصت مدة الأعمال الدرامية التقليدية أيضاً؛ فبعد أن كانت المسلسلات الرمضانية تصل إلى ثلاثين حلقة، أصبحت المنصات الحديثة مثل “نتفليكس” و”شاهد” تميل إلى إنتاج أعمال لا تتجاوز 8 أو 10 حلقات فقط، في محاولة لمجاراة جمهور اعتاد على الإيقاع السريع والمحتوى المكثّف.

إننا اليوم نعيش في عصر السرعة والاختصار، حيث تراجع الصبر الدرامي أمام إغراء “المشهد السريع” و”المعلومة المختصرة”. ومع استمرار هذا الاتجاه، يبرز سؤال جوهري:

هل سنشهد في المستقبل القريب نهاية المسلسلات الطويلة التي شكّلت عمود الدراما العربية لعقود؟ أم ستجد الدراما طريقة ذكية للعودة إلى عمقها الإنساني دون أن تتجاهل إيقاع هذا العصر؟

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

المنتدى الإعلامي الدولي في موسكو:” الحقيقة ضد الفاشية الجديدة “

القوة الاقتصادية والسياسية المتنامية لدول الجنوب العالمي تجعل الفضاء الإعلامي العالمي متعدد الأوجه بشكل متزايد. لقد ولّى عهد الدول الغربية التي كانت قادرة على تضليل الرأي العام العالمي دون عقاب

محو ذاكرة الشعوب مخطط أميركي لإعادة تشكيل الوعي الاجتماعي

مواجهة محاولات القوى الأجنبية لإضعاف الهوية الوطنية تتطلب تكامل جميع الأدوات الوطنية، بدءاً من التوعية والتعليم، مروراً بالحفاظ على الثقافة والاستقلال الاقتصادي، وصولاً إلى صيانة القرار السياسي