محو ذاكرة الشعوب مخطط أميركي لإعادة تشكيل الوعي الاجتماعي

-+=

تتعرض الشعوب عبر التاريخ لأشكال متعددة من التهجير الثقافي والتشويه الرمزي لماضيها، حيث يتم استهداف التراث المادي وغير المادي كأداة لإضعاف الروابط بين المجتمع وأرضه، بين الفرد وهويته، وبين الجماعة وماضيها الحضاري. تُعد السياسات الأميركية والأوروبية في عدد من الحالات المعاصرة مثالاً على كيفية استخدام محو الذاكرة الجماعية كأداة لتحقيق أهداف سياسية، اقتصادية، وعسكرية.

تظهر دراسة هذه الحالات في فلسطين بعد النكبة، والعراق بعد احتلاله أميركياً في عام 2003، وفي سوريا عام 2013 كشف عن تهريب آثار بقيمة 2 مليار دولار وإرث البلد الحضاري مهدد بالفناء (1). كما في لبنان منذ بداية إعادة الإعمار في المركز التاريخي لمدينة بيروت عام 1992 وضع حيتان المال يدهم على هذا الجزء من بيروت وهدموا آثارها ودفنوا الكثير منه بشكل مسرحي وألغوا أي علاقة بين أهالي بيروت وتاريخ وحضارة وتراث المدينة، وأصبح مركز بيروت الأثري ملك الشركة الخاصة سوليدير. هكذا حدث في العديد من المدن وبلدان العالم. 

إن الضحايا لا يفقدون فقط الممتلكات المادية، بل تُسلب منهم أيضاً مرجعياتهم الفكرية والثقافية والرمزية، بما يشمل الأرشيفات، المواقع التاريخية، النصب التذكارية، والهوية الثقافية المرتبطة بالمكان. نقارب في هذا المقال ظاهرة محو ذاكرة الشعوب من زوايا مختلفة بهدف تقديم الإطار النظري الذي يفسّر العلاقة بين السياسات الخارجية والذاكرة الجماعية، وتحديد المفاهيم الأساسية التي سيتبعها تحليل حالات الطرد والتغييب الحضاري.

الإطار النظري للعلاقة بين السياسة والذاكرة الجماعية

تتمثل المشكلة الرئيسة في أن سياسات محو الذاكرة، سواء أكانت بشكل مباشر أو غير مباشر، تعمل على تجريد الشعوب من قدرتها على الارتباط بأرضها وتراثها وحضارتها. 

هذه السياسات تشمل:

  1. إزالة أو تدمير التراث المادي: المباني الأثرية، المواقع التاريخية، المتاحف.
  2. التحكم في سرد التاريخ: كتابة مناهج دراسية جديدة، الرقابة على الإعلام، تشويه الأحداث التاريخية.
  3. التهجير أو إعادة توطين السكان الأصليين: مع إجراءات قانونية وإدارية تمنع العودة.
  4. تغيير أسماء الأماكن: مسميات المدن، القرى، الشوارع بهدف قطع الصلة الرمزية بين الشعب وأرضه.

وانطلاقاً من كشف أسس سياسات محو ذاكرة الشعوب يمكن كشف الأهداف الاستراتيجية والسياسية وراء هذه الإجراءات، وفهم الآليات التي تُستخدم لتحقيق ما يمكن تسميته بـ ” فك الارتباط الحضاري للشعوب المستهدفة”.

هذه السياسة ترتكز على أطار فكري ومقاربة متعددة المستويات ومفاهيم أساسية تعتمد:

  • محو الذاكرة عملية منهجية لإلغاء ذاكرة جماعية، سواء مادياً أو رمزياً، بهدف تقليل قدرة المجتمع على استعادة هويته أو حقوقه.
  • الإبادة الثقافية مفهوم قانوني وفكري، يشمل التدمير الممنهج للمعالم التراثية، اللغة، التعليم، والممارسات الثقافية.
  • التطهير الثقافي تطبيق عملي للسياسات التي تسعى لتغيير هوية المكان وإعادة توطين السكان الأصليين، غالباً في سياق الاستيطان أو الاحتلال.
  • أماكن الذاكرة مصطلح يوضح كيف أن فقدان الأماكن التاريخية يؤدي إلى فقدان المرجعيات الرمزية والهوية الجماعية.

كما تعتمد القوى الأجنبية والمحتلة على آليات محو الذاكرة التي تتمحور حول:

1التدمير المادي للمواقع التراثية. 

2- التحكم في السرد الرسمي والتاريخي (حتى يتوقف نهب الآثار مجلة اليونسكو 2017). (2)

 -3 تقييد الوصول إلى التراث أو الأرشيفات.

  1. تغيير المسميات الجغرافية والأماكن الرمزية.
  2. إعادة تصميم الفضاء العمراني والسياسي للمنطقة (3) بما يخدم مصالح المحتل ويقطع الصلة بين الشعب وأرضه.

كما تطمح هذه القوى إلى إحداث آثار سياسية واجتماعية يمكن إيجازها بالنقاط التالية:

  • ضعف القدرة على المطالبة بالحقوق التاريخية والقانونية.
  • فقدان الإحساس بالانتماء للهوية الوطنية والثقافية.
  • تعزيز روايات بديلة تمثل مصالح القوى المهيمنة.

خلاصة الإطار النظري للعلاقة بين السياسة والذاكرة الجماعية

  • توضيح أهمية دراسة سياسات محو الذاكرة في فهم الصراعات المعاصرة.
  • تعريف المفاهيم الأساسية المستخدمة في هذا المقال.
  • الاتفاق على قاعدة نظرية ومنهجية لدراسة حالات عديدة ومنها في فلسطين والعراق وسوريا وبلدان أخرى.

نود التأكيد أن الإطار النظري للعلاقة بين السياسة والذاكرة الجماعية يشكّل الأساس النظري الذي ستبنى عليه حالات المقال والتطبيق العملي. 

آليات التأثير والسياسات المتبعة لمحاولة محو الذاكرة الوطنية

الإعلام والتحكم بالمعلومة:

تعد وسائل الإعلام إحدى أهم الأدوات التي تستخدمها القوى الأميركية والأوروبية لإعادة تشكيل الوعي الشعبي والتحكم في إدراك المجتمعات لتاريخها وهويتها الوطنية: فقد تبنت هذه القوى سياسات متعددة، من بينها:

الإغراق الإعلامي بالمعلومات:

يتم نشر كم هائل من الأخبار والمحتويات المتناقضة، بهدف تشتيت الانتباه عن القضايا الوطنية الأساسية وتشويش الوعي الجماعي.


التضليل والتزييف:

استخدام الأخبار المزيفة والمعلومات المغلوطة لتغيير مواقف الرأي العام تجاه القيم الوطنية والتاريخ المشترك.

الهيمنة على الإعلام الرقمي

 الاستثمار في منصات التواصل الاجتماعي وتوجيه الخوارزميات الرقمية بما يخدم الأجندة الخارجية، وذلك لتشكيل تصورات الشباب والمواطنين بشكل مؤثر وسريع.
أثبتت التجارب العملية في بعض الدول العربية أن وسائل الإعلام أصبحت ساحة أساسية لصراع الهويات الوطنية، حيث تُستخدم لتقويض الشعور بالانتماء الوطني والهوية.

التعليم والثقافة:

تلعب السياسات التعليمية والثقافية دورًا مركزيًا في إعادة صياغة وعي الشعوب:

المناهج التعليمية:

تعديل محتوى الكتب المدرسية لتقليل أهمية التاريخ الوطني أو تصويره بطريقة غير دقيقة، مع التركيز على سرد الأحداث من منظور خارجي.

الدعم الثقافي الانتقائي:

تمويل البرامج الثقافية والفنية التي تتوافق مع الأجندة الغربية، في حين يتم تهميش المشاريع التي تعزز الذاكرة الوطنية.

الهوية الرمزية:

محاولة استبدال الرموز الوطنية التقليدية بأخرى مستوردة أو مستحدثة لتخفيف التأثير التاريخي للرموز الوطنية.
إن هذا التلاعب بالمنظومة التعليمية والثقافية يؤدي إلى جيل يفتقر إلى الوعي العميق بتاريخ وطنه، وهو ما يسهّل فرض سياسات خارجية على المجتمعات.

الاقتصاد والاعتماد الخارجي:

تستخدم القوى الغربية الأدوات الاقتصادية لإحداث تبعية واضحة لدى الدول المستهدفة:

فرض السياسات الاقتصادية:

إجبار الحكومات على تبني برامج اقتصادية تحد من قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة، وربط التمويل بالدعم السياسي.

الاعتماد على المعونات والقروض الدولية:

 خلق حالة من الضعف المالي تجعل الدولة ملزمة بتبني رؤى وسياسات خارجية في مقابل الدعم الاقتصادي.

توجيه الاستثمار نحو القطاعات التي تخدم المصالح الغربية:

مع تقليل التركيز على القطاعات الوطنية الاستراتيجية التي تعزز السيادة والاعتماد الذاتي.
هذا الأسلوب الاقتصادي لا يغير فقط واقع القوة المالية للدولة، بل يؤثر أيضاً على استراتيجيات الحفاظ على الهوية الوطنية والسيطرة على الموارد المحلية.

التدخل المباشر وغير المباشر في السياسة الداخلية:

تلجأ القوى الأجنبية أحياناً إلى التدخل المباشر أو غير المباشر في الشؤون السياسية للدولة:

دعم الأحزاب والشخصيات الموالية 

تمويل مرشحين أو أحزاب تتوافق برامجهم مع المصالح الأجنبية، بهدف إضعاف القوى الوطنية المستقلة.

وخلق أزمات سياسية أو اجتماعية:

توليد الخلافات الداخلية أو الأزمات الاقتصادية لتفتيت السلطة الوطنية وزعزعة استقرار الدولة..


التأثير على القرارات التشريعية والسياسات العامة:

ممارسة ضغوط عبر اتفاقيات دولية أو شروط التمويل، بهدف تمرير قرارات تتوافق مع أجندة القوى الخارجية..
هذه السياسات تعمل على تفكيك الهياكل الوطنية وتمهيد الطريق لسيطرة غير مباشرة على القرار السياسي والاقتصادي الثقافي الاجتماعي والفكري.

خلاصات

يتضح من خلال ما سبق أن القوى الأميركية والأوروبية لا تعتمد على وسيلة واحدة، بل تتبع نهجاً تكاملياً يجمع بين الإعلام والتعليم والاقتصاد والسياسة لإضعاف الصلة بين المواطن ووطنه. وحالة من الوعي، ما يسهل فرض النفوذ والسيطرة على مجمل المجتمع.


ما تقدم يمهد الطريق إلى بحث استراتيجيات المواجهة والتحصين الوطني، واقتراح آليات علمية وميدانية للحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيز الوعي الشعبي.

استراتيجية وطنية لحماية الشعب والوطن:

1- برامج تثقيفية وطنية في المدارس والجامعات لتعزيز الانتماء الوطني وفهم التاريخ المشترك للأجيال الجديدة.

2- استخدام وسائل الإعلام المحلي لتصحيح المعلومات المغلوطة ومواجهة التضليل الإعلامي، مع التركيز على إبراز الإنجازات الوطنية ورموز الهوية الوطنية.
3- التثقيف المجتمعي: تنظيم ورش عمل وندوات وفعاليات شعبية تعزز الانتماء الوطني وتعكس أهمية الدفاع عن الهوية الوطنية.
إن تعزيز الوعي الوطني يخلق مناعة ثقافية لدى المواطنين، ويجعل المجتمع أقل قابلية للتأثر بالرسائل الخارجية المغلوطة.

حماية الثقافة والتعليم:

يعتبر التعليم والثقافة أدوات رئيسية في صيانة الهوية الوطنية

1- مراقبة المناهج التعليمية والتأكد من أن المناهج المدرسية والجامعية تعرض التاريخ الوطني والقيم الأصيلة بشكل صحيح، بعيدًا عن التزييف أو التحوير.
2- دعم المشاريع الثقافية والفنية الوطنية: تمويل ودعم الفنون والموسيقى والمسرح والسينما التي تعكس التراث الوطني وتعزز الفخر بالهوية المحلية.
3- إنشاء مراكز ثقافية وبحثية: إقامة مراكز متخصصة في دراسة التاريخ الوطني والتراث الشعبي، تعمل على إنتاج بحوث ودراسات علمية تسهم في صيانة الذاكرة الوطنية.
هذه الخطوات تعزز استمرارية الثقافة الوطنية وتعمل كخط دفاع أول ضد محاولات التشويه الخارجي للهوية.

الاستقلال الاقتصادي

الاعتماد الاقتصادي على الخارج يجعل الدولة أكثر عرضة للنفوذ الخارجي، لذلك من الضروري:
1- تطوير القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية وتقليل الاعتماد على الواردات الخارجية وتعزيز الإنتاج الوطني
2- البحث عن مصادر تمويل متنوعة، بما فيها التمويل المحلي والإقليمي، لتقليل التبعية الاقتصادية للقوى الأجنبية.
3- حماية السيادة الوطنية من خلال وضع قوانين وتشريعات اقتصادية تدعم الإنتاج المحلي، والموارد الطبيعية الاستغلال الأجنبي.


الاستقلال الاقتصادي يعزز قدرة الدولة على اتخاذ قراراتها بحرية دون تأثير خارجي، ويشكل ركيزة أساسية للتحصين الوطني.

الحفاظ على القرار السياسي المستقل:

الحفاظ على القرار السياسي واستقلاليته يمثل الخط الدفاعي الأخير:
1- ببناء مؤسسات وطنية قوية تعزيز قدرات المؤسسات الوطنية لتكون مستقلة وفعالة، وتتمتع بالشفافية والمساءلة..
2- تعزيز الديمقراطية الداخلية والشفافية اعتماد نظم ديمقراطية شفافة تتيح للمواطنين المشاركة الفعالة في القرار الوطني، ما يقلل من فرص التدخل الخارجي.
3- تحالفات إقليمية ودولية تحمي المصالح الوطنية تطوير علاقات استراتيجية متوازنة مع الدول الإقليمية والدولية بما يحمي المصالح الوطنية دون تبعية مباشرة للقوى الكبرى.
هذه الإجراءات تؤمن قدرة الدولة على حماية سيادتها ومصالحها، وتعزز المناعة الوطنية ضد محاولات الهيمنة الخارجية.

خلاصات

يتضح أن مواجهة محاولات القوى الأجنبية لإضعاف الهوية الوطنية تتطلب تكامل جميع الأدوات الوطنية، بدءاً من التوعية والتعليم، مروراً بالحفاظ على الثقافة والاستقلال الاقتصادي، وصولاً إلى صيانة القرار السياسي.
إن تبني هذه الاستراتيجيات بشكل متكامل يعزز قدرة الدولة والمجتمع على مواجهة الضغوط الخارجية، ويؤسس لبنية وطنية قوية تحفظ الهوية والانتماء الوطني للأجيال القادمة.

إن ما تقدم هو محاولة أولية لكشف خبايا ومخططات السياسات الأميركية والغربية التي تهدف الى محو ذاكرة الشعوب والتحكم بمصيرها وطرح خطة عملية متكاملة لتعزيز الهوية الوطنية وحماية السيادة حماية متكاملة
التطبيق الفعلي لهذه التوصيات يضمن قدرة الشعب وقواه التقدمية والوطنية على مواجهة الضغوط الخارجية بفعالية، ويؤسس لوعي وطني قوي للأجيال القادمة.
هذا المقال يضع الأسس للتقارير والسياسات العملية التي يمكن أن تعتمدها الدولة والقوى الوطنية والتقدمية.

المراجع                                                                                                                   

(1)-  نهب آثار من سوريا بقيمة 2 مليار دولار – وإرث البلد مهدد بالفناء: https://bit.LY/2LrNWng

  (2)-       هاردي سمويل مجلة رسالة اليونسكو 2017 نهب الآثار 

(3) اتفاقية لاهاي عام ١٩٥٤ لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح .

Author

  • د. نضال الشرتوني

    دكتور مهندس طاقة، أستاذ جامعي من لبنان لديه العديد من الدراسات والأبحاث في اختصاصه وفي المجال الاقتصادي العام.

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

المنتدى الإعلامي الدولي في موسكو:” الحقيقة ضد الفاشية الجديدة “

القوة الاقتصادية والسياسية المتنامية لدول الجنوب العالمي تجعل الفضاء الإعلامي العالمي متعدد الأوجه بشكل متزايد. لقد ولّى عهد الدول الغربية التي كانت قادرة على تضليل الرأي العام العالمي دون عقاب