وطني حقيبتي!
في مجتمعٍ تعداده (٤) مليون نسمة، كان البدون بتعدادهم الربع مليون لا يشغلون حتى حيز من فراغ، فوجودهم أشبّه بالغصن الذي واجه الرياح حتى انكسر وبقي هشاً.
في شهر أبريل العام 1990 ولد “عادل” واختار له جده “هادي” هذا الإسم فقد كان العدل الذي يطلبه أول الدوافع لاختياره هذا الإسم، هادي الذي لم يهدأ له بال وكانت السنون تمر عليه وهو يندب حظه العاثر على بدونيته بعدما أفنى عمره جندياً بالجيش الكويتي وكان محصول جلد الذات ذاك عدة جلطات أودت به مُقعداً على كرسي متحرك، حتى خلف ابنه كجندي للوطن ليكمل مسيرته وكان خير مدافع واستبسل في 2 أغسطس وانتهى به المطاف شهيداً لتتخضب دماؤه وتمتزج بتراب الوطن، كبر “عادل” يتيم الأب في كنف جده، كانت ملامح الحزن تعتري وجهه دائماً، وكأنها رسمت بوجهه ملامح نكبات أجيال المجتمع البدوني جميعها بمآسيها، لقد كان الميزان أعوجاً فلم ير “هادي” أي عدل من اسم حفيده، بالمناسبة نسي جده أنّ “عادل” كانت ولادته في شهر يشتهر بمسمى “كذبة أبريل” فكان العدل الذي ينشده من اسم حفيده هو كذبة هذا الشهر!
وفي عامه السادس تسنَّى لعادل أن يدرس في مدرسة حكومية، لم يكن يشعر حينها أنه مختلف عن المجتمع المحيط به، حتى بعد عامين دخل، صباحاً، ووجد اسمه مع بعض الطلاب مكتوباً على لوحة خشبية وكان مكتوباً بجانب اسمه خانة الجنسية “بدون” وقرار فصله من المدرسة، كان ذلك في أوج الحملة التعسفية بعد إنشاء اللجنة التنفيذية لغير محددي الجنسية في عام 1996 من شهر مارس فكان التخبط، والبطش، والظلم هم سادة المرحلة، ذهب لجده وهو يحمل حقيبته على ظهره، بخطوات ثقيلة وكأنه يجر الوطن خلفه جراً… عينان صغيرتان ولكنهما ممتلئتان بالكثير، يسأل جده عن سبب فصله فقال له: لأنك بدون ماعندك جنسية.
وأكمل دراسته في المدارس الخاصة وبدأت تتشكل على وجهه، حينها، ملامح خيبة الوطن بعد أول صفعة يستشعر ألمها.
كبر “عادل” وبلغ الخامسة عشرة من عمره كانت كافية ليدرك حقوقه وأسباب عزله مجتمعياً ويكون رجلاً واعياً، وكان ملازماً جده دائماً، يذهب “عادل” لغرفة جده حتى يسنده ليجلس على الكرسي المتحرك ويدفعه حيث الديوانية. ويبدأ جده “هادي” يقص عليه (بشكل يومي) كيف كانت معيشتهم في البادية ومدى قوة روابطهم بأمير البادية صباح الناصر الصباح واتباعهم له، وعن أقدمية تواجدهم وأنّه أوكل لهم مهمة حماية القوافل التي تأتي شمالا وجنوبا، وعن شدة بأسهم في المعارك للذود عن أرض الوطن في معركة الصريف، ومشاركته تحت لواء وطنه في معركة الدفاع عن مصر وسوريا والأردن عام 1967، ومشاركته في حرب أكتوبر عام 1973، وحدثه عن أبيه عندما واجه الرصاص دفاعاً عن أرض وطنه عام 1990، ولينتهي سرد كل ذلك في الليل، ويستيقظون في تمام السادسة صباحاً يرسل “عادل” ليأتيه بالصحيفة من الصندوق في الخارج ليقرأها عليه وهو يتناول وجبة الإفطار، وكان، دائماً، يستيقظ صباحاً على أمل أن يقرأ له حفيده خبر “حل قضية البدون” منشوراً بالصحف، أتى عادل وهو يحمل الصحيفة، التفت ينظر له بنظرات مملوءة بالغضب ويأمره بصوت عال:
— اقرأ لي شمكتوب عن البدون؟.
يبدأ “عادل” بإمساك الصحيفة وهو مرتبك ويقرأ وهو يتلعثم خوفاً من غضب جده كالمعتاد… ويجيبه بـ “جدي ماكو شي مكتوب عن البدون”..
— رد جده “هادي” غاضباً:
أفتح الصفحة الأولى أكيد مكتوب فيها شي؟.
وبنبرة خوف يرد “عادل” والله ما في شي جدي عن البدون!..
حتى يُجْبر “عادل” على قراءة الصحيفة، كاملةً خبراً خبراً
وعندما وصل “عادل” لصفحة الوفيات مات شغف الجد “هادي” وتجدد احساسه بالأسى وبدأت علامات الخذلان تكتسي وجهه يخفض رأسه تدريجياً ويسأل “عادل”:
— خلصت؟
وبكل حسرة يرد عليه:
— أي جدي
وكان ميعاد الشغف يتجدد معه كل يوم ومرت السنون على هذا الحال… يمر الليل على “هادي” وهو يقص لحفيده ويذهب لسريره متحمساً على أمل أن يستيقظ في الصباح لسماع أيّ أخبار جديدة.. ويصحو صباحاً لينطفئ كل ذاك الشغف بـ الخذلان، مرت السنون حتى مات “هادي” ولم يبقَ خلفه إلا بضع قصاصات بقيت من الصحف التي يقرأها عليه حفيده، وليكمل “عادل” مسيرة جده باحثاً عن أيّ خبر ينتشله من قاع اليأس، ولكن الحقيقة أن السنوات تمر ليأتي بعدها جيلا مختلفا عن السابق “إلا مجتمع البدون يوُلد ليصبح كما كان عليه جده”!
حتى تيقّن “عادل” أنّ الميزان الأعوج لن يعتدل ولو طال الزمن، وأن لا وجود للعدل إلا بإسمه!
في مجتمعٍ تعداده (٤) مليون نسمة، كان البدون بتعدادهم الربع مليون لا يشغلون حتى حيز من فراغ، فوجودهم أشبّه بالغصن الذي واجه الرياح حتى انكسر وبقي هشاً.
خلال الفصل التشريعي الحالي لمجلس الأمة جرى تقديم ستة اقتراحات بقوانين نيابية تتصل ببعض المعالجات الجزئية لقضية الكويتيين البدون، وقد وضعت لجنة غير محددي الجنسية في المجلس تقريرها بشأنها.