وطني حقيبتي!

في مجتمعٍ تعداده (٤) مليون نسمة، كان البدون بتعدادهم الربع مليون لا يشغلون حتى حيز من فراغ، فوجودهم أشبّه بالغصن الذي واجه الرياح حتى انكسر وبقي هشاً، ضعيف القوى لا ساق تحمله ولا أرض تحتويه، حتى عزلوهم عن محيطهم في شتى المجالات، أما عن كلمة الوطن فقد كان حرف الواو ثقبها كالرصاص الذي اخترق صدورهم، حتى أصبح هاجس الهجرة يراود الكبير قبل الصغير من المجتمع البدوني.

وقد شبّه أحدهم الهجرة بالروح التي تقتلعها عنوةً من جسد الشخص وتضعها بجسد شخص آخر، ليبدأ صراعها مع واقع جديد مهما عاشت به لن تتأقلم معه، فالروح دائماً معلَّقة بجسدها.

فقد كان هذا التشبيه نقلاً من يوسف الذي كان يردد سابقاً مع محمود درويش “وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر”. في شهر رمضان من العام ٢٠٢٠ في تيماء قطعة ٦ تحديداً كنّا نتجول يومياً ونتأمل بيوت الصفيح بجدرانها المشققة، ونتحدث عن مأساة رُسِمت بملامحنا، وعن تساؤلاتي له إلى أين قد ينتهي بنا المطاف، وأن الهجرة هي الملاذ والمخرج الوحيد وسيدة الحلول، فكان دائماً يختتم نقاشي معه عن الهجرة بهذه العبارة السابقة، فكان دائماً يسرح بخيالاته بأمله بعيداً.

كان يوسف يعمل كمندوب في أحد الوزارات الحكومية لمدة ١١ عاماً وتم فصله من عمله بسبب تداعيات وباء كوفيد-١٩ والحظر الكلي في البلاد، فوجد نفسه مرمياً بتعداد النسيان البدوني دون وظيفة، وليس معه شهادة تعليمية إلا الصف الثالث ابتدائي فلا تقبله أيّة وظيفة، حتى بسبب حزنه انكشف له الواقع المرير الذي لم يشهده سابقاً، ولنلتقي مجدداً قائلاً بكل أسى: تعرف الشاعر علي رشم اللي قال “الليل شبعني سفر وأنا بمكاني؟”

ما كان ليلا، كان الوطن.. الوطن هو اللي شبعني سفر وأنا بمكاني!

وبعد ما انقلب الحال أصبحت الهجرة بالنسبة له حلماً يراوده، ومنالاً يسعى جاهداً للوصول إليه كوْنه لا يحمل حتى جواز مادة 17 كي يتسنى له طريق الهجرة فقد أُغلقت بوجهة كافة الحلول، وبعد عدة محاولات استخرج ذاك الجواز، وذهب يوسف خلسةً دون أن يودع أحد حتى أهله، ولكن ودّع منطقته بعبارة كتبها على جدران مدرسة “ملا عيسى” في تيماء قطعة ٦ “وطن لله يا مُحسنين”.

يوسف عبر مكالمة فيديو من كندا

تصدق للآن لم يمنحوني الموافقة كلاجئ، أُوجس بنفسي خيفةً أن أرجع إلى الكويت وتضيع مني فرصة الهجرة، أعتذر منكم لأني رحلت عنكم دون وداع فكل يوم عندما أتخيل مشهد الوداع كنت أهرع باكياً حتى يعتصر قلبي ألماً وحزناً، وعند اليوم الموعود قد مسحت مساحيق الرماد من على وجهي وذهبت لأودع والدتي فوجدتها نائمة لم يستطع أن ينطلق لساني كمداً فوقفت متأملاً وجهها الذي به مسيرة 35 عاماً بذكرياتها حتى غاب وجهها عن ناظري من فرط البكاء، فذهبت حاملاً حقيبتي لمحطتي الأولى في حياتي الجديدة.

بالمناسبة استذكرت عندما كنت أقول لك “وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر” فبعد الويلات التي عشتها مؤخراً كان الوطن لي كالحبل الذي يلتف حول عنقي ويخنقني ليلاً، فوطني ليس حقيبة بعدما وضعت صور عائلتي وذكرياتي قد تحولت حقيبتي لوطن، أما “وأنا لست مسافر” فالروح للآن ما زالت متعلّقة بوطنها مهما حاول العقل أن يطرح فرضيات من واقعٍ مأساوي ملموس، حقيقةً حاولت جاهداً قبل فكرة الهجرة أن أقنع نفسي حتى على الطريقة الصوفية فأخذت أردد قائلاً:

“وأنا لست مسافر”

“وأنا لست مسافر”

“وأنا لست مسافر”

فكانت ردود العقل تخرس القلب “أنتَ ابن الكويت، فعلًا وطنك ليس حقيبتك.. وعندما ترجع إلى الكويت من هجرتك تكون كل أرض الكويت وطنك، فالوطن ليس ورقة تحملها بيدك مدوناً بها انتماؤك، الوطن هو تضحيات أجدادك على أرضها، الوطن أكبر من كل المقاييس التي اختزلوا بها انتماءك لها، فالأرض تعرف أبناءها جيداً وتعرف أجدادك الذين تخضبت دماؤهم بها”.

فالمؤسف بالأمر والذي لم يدركه يوسف أن قصته كانت أشبّه بمعاناة نبينا يوسف في صغره، فقد كان الوطن بالنسبة إليه كمثل “بئر يوسف” عندما رموه أخوته غدراً، وكانت مهمة بحثه عن وطن آخر كانتظار النبي يوسف في غيابة الجب على أمل أن ينتشله أحدهم.. وآمل ألا تكتمل القصة بكامل تشبيهاتها وأركانها بقصة نبي الله يوسف عندما انتشلوه من بئر الظلمات وباعوه بثمنٍ بخس.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

“عادل في ميزان أعوج”

في شهر أبريل العام 1990 ولد “عادل” واختار له جده “هادي” هذا الإسم فقد كان العدل الذي يطلبه أول الدوافع لاختياره هذا الإسم، هادي الذي لم يهدأ له بال وكانت السنون تمر عليه وهو يندب حظه العاثر على بدونيته بعدما أفنى عمره جندياً بالجيش الكويتي وكان محصول جلد الذات ذاك عدة جلطات أودت به مُقعداً على كرسي متحرك، حتى خلف ابنه كجندي للوطن ليكمل مسيرته وكان خير مدافع واستبسل في 2 أغسطس

قضية الكويتيين البدون: التشريع المنتظر

خلال الفصل التشريعي الحالي لمجلس الأمة جرى تقديم ستة اقتراحات بقوانين نيابية تتصل ببعض المعالجات الجزئية لقضية الكويتيين البدون، وقد وضعت لجنة غير محددي الجنسية في المجلس تقريرها بشأنها.

[zeno_font_resizer]