مقاربة بنيوية-تاريخية لأسباب فشل دولة ما بعد الاستقلال في أفريقيا  (ليبيريا كنموذج)

دولة ما بعد الاستقلال أو الناشئة في أفريقيا، ولدت مثقلة بالعديد من المشاكل حتى صنعت منها أزمات، استعصت على الحل، وبخاصة إشكالية البناء التي تحركت عبر مسارات من الاستقرار الهش نحو الصراع والفشل.

 الطبقات المتوسطة والفئات الرأسمالية الطفيلية وشبه الإقطاعية المحلية التي نشأت أو تضخمت بدعم الكولونيالية الأجنبية وتسهيلاتها لها لم تنهض كقوة لها دور حاسم من حيث التكامل والشمول، رغم تسلمها زمام القيادة والمعارضة بمختلف أشكالها المدنية والعسكرية بعد الاستقلال. الاستنتاج يكمن في أن الدولة الحديثة في أفريقيا لم تظهر إلا كنسخة محلية للنظام الاستعماري مـن حيث الـنـظـام والمعارضة التي تدور الانتماءات بداخلهم على حسب الأولويات الشخصية أو (القبلية والدينية)، يرون من خلالها المعبر الوحيد للحصول على السلطة والمال في آن واحد. 

 ليبيريا كنموذج لأطول الصراعات في القارة 

التنافس على النفوذ والثروة

ليبيريا من ضمن البلدان الحديثة في منطقة غرب أفريقيا التي لم تدخل في نزاع أوروبي لاحتلالها لأنها كانت بمثابة مستعمرة تابعة للولايات المتحدة الأميركية ابتداء من عام 1820 عندما استعمر المنطقة السود المحررون من الولايات المتحدة. القصة بدأت في عام 1816، حين أسس مجموعة من الأميركيين البيض جمعية الاستعمار، بهدف التعامل مع “إشكالية” العدد المتزايد من السود الأحرار من خلال إعادة توطينهم في أفريقيا. وبعد إنجاز المهمة أصبحت دولة ليبيريا ثاني جمهورية سوداء بعد هايتي في العالم. فكرة تأسيس جمعية الاستعمار الأميركي ترجع إلى قس من نيو جيرسي يدعى روبرت فينلي، بادر في دعم ومساندة هذه الجمعية بعض الشخصيات ذات النفوذ الكبير في البلاد بالإضافة إلى رؤساء الولايات المتحدة الذين رأوا في إعادة توطين السود المحررين في أفريقيا كبح لتمرد باقي السود. قضت السنوات الـ 20 الأولى من عمر المستعمرة تحت سلطة حاكم أميركي أبيض، ثم جاء بعده “جوزي روبرتس” أول حاكم أسود. ثم أصبحت ليبيريا محمية للولايات المتحدة، وهو ما أدى إلى ثني القوى الأوروبية عن محاولة استعمارها، تمت صياغة دستور ليبيريا بشكل كبير على غرار دستور أميركا، وتم تصميم علمها على غرار علم أميركا، وتم تسمية عاصمتهم على اسم جيمس مونرو، الرئيس الخامس للولايات المتحدة الأميركية.

 ظلت ليبيريا تحت سيطرة الولايات المتحدة الأميركية حتى أعلنت استقلالها عام 1847، لتصبح أول جمهورية في أفريقيا، طوال 120عاماً كانت تحت حكم حزب الحقيقة اليميني، القادمين من أميركا وأحفادهم هيمنوا على مقاليد الحكم كقوة فاسدة للنخبة الليبيرية احتكرت السلطة وتجاهلت مصالح الجماعات المحلية التي تشكل غالبية السكان. فقد أنكر الدستور الليبيري أية حقوق لهم حيث حرمهم من حق انتخاب الرئيس، كما نص على عدم المساواة بين المحليين وطبقة المهاجرين الأوائل التي حظيت بكل الحقوق السياسية والاقتصادية، بالمقابل، عانى السكان المحليين من الظلم، والإخضاع للأعمال الشاقة، خاصة في الشركات الأميركية التي كانت تنشط بالبلاد، وذلك حتى العام 1936. وكانت تُفرض عليهم ضرائب كبيرة تُشكل قيمتها المالية في بداية القرن الماضي (1900) ثلث خزينة الدولة، ما جعلهم يقومون بانتفاضات عديدة، واجهتها الطبقة الحاكمة وأخمدتها بالعنف، مما أدى إلى تكريس ليبيريا لنظام أشبه بنظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا وزيمبابوي.

الصراعات بالوكالة والحروب الأهلية

دفعت تلك الممارسات ضابط الجيش صمويل دو الذي ينتمي لقبيلة “كران” إلى تدبير انقلاب عسكري في عام 1980 ليطيح بسيطرة الأفرو- أميركيين. عرفت فترة حكم دو ديكتاتورية وتمييزاً من نوع آخر، إذ انفرد بالسلطة أبناء قبيلة “كران”، ذلك خلق توترات جديدة بين باقي العرقيات، التي تشكل النسيج الاجتماعي لليبيريا وبدأ يمارس البطش ضد المعارضين سواء أكانوا طبقة الأفرو- أميركيين أو حتى الجماعات الإثنية الأخرى. صامويل دو كان محسوباً على المعسكر الغربي أثناء سنوات الحرب الباردة وقد سمح بإنشاء قواعد للولايات المتحدة من أجل الإشراف الاستراتيجي على الأطلسي، حيث كانت توجد محطة الراديو التي تبث “صوت أميركا” ومركز جميع أجهزة اتصالات واشنطن في أفريقيا.

في هذه الفترة بدأ يتردد اسم “تشارلز تايلور” الذي كان حينها من ضمن الركائز العسكرية الأساسية التي اتخذها نظام “صمويل دو” بليبيريا من أجل تصفية الآلاف من جماعتي “جيو ومانو” الإثنية برغم أنه كان من نسل المهاجرين الأوائل من الأميركيين. تايلور كان على رأس الضباط الذين أشرفوا على مذبحة أحد الكنائس اللوثرية التي راح ضحيتها المئات. العديد من جرائمه أجبرت الولايات المتحدة الأميركية حليفة نظام “صمويل دو” على ارغامه اعفاء “تايلور” من منصبه العسكري وأعطاه منصبا إداريا: الرقابة على الممتلكات العامة للدولة. تمكن تايلور من خلال هذا المنصب تحقيق ثروة هائلة. بعد فترة زمنية دب خلاف بينه وبين “صمويل دو”، طُرد بسببه تايلور من وظيفته بعد اتهامه باختلاس أكثر من 3 مليون دولار دون الرجوع الى “دو”، مما دفعه للهرب إلى الولايات المتحدة خوفاً من الاغتيال الجسدي. هناك ألقي القبض عليه لكنه تمكن من الهرب والعودة إلى بعض الدول الأفريقية ثم إلى ليبيريا وسط غموض وتكهنات متباينة حول كيفية هروبه. آنذاك في ليبيريا قامت ثورة عارمة بسبب انهيار الاقتصاد بسبب استشراء الفساد، الحرب الأهلية، واحتكار فئة معينة لموارد البلاد. فرغم الثروات الطبيعية الضخمة فإن مستوى دخل الفرد ضئيل جداً وهذا ما دفع قطاع كبير من الشباب إلى الهجرة كعمالة رخيصة في البلاد المجاورة. كل هذه الأسباب أدت إلى إشعال فتيل من الاحتجاجات استغلها “تشارلز تايلور” بتكوين جبهة  (NPP) التي اتخذت من سيراليون وساحل العاج مقراً لها وشنت هجماتها على حكومة “دو” منذ عام 1989. سقط دو بعد خيانة أحد ضباط جيشه والذي يدعى “برينس غونسون” وسيطر على عاصمة ليبيريا مونروفيا في سنة 1990 وقتل صامويل دو، إلا أن الحرب لم تنتهِ فالقوات الليبيرية انقسمت إلى جانب حركة تايلور (NPP)  ومؤيدين لجونسون وتشابكوا فيما بينهما من أجل السيطرة على العاصمة مونروفيا، ومن أجل السيطرة على مفاصل الدولة، وظل الصراع الدموي إلى أن اتفقوا على وقف إطلاق النار في سنة 1995 إلا أن إطلاق النار عاد مجدداً في سنة 1996 لكنه توقف نهائيا بعد الانهاء على مجموعة جونسون ليظهر تايلور للمجتمع الدولي على أنه الفصيل الوحيد الأجدر لإدارة البلاد بالحديد والنار دون معارضة مدنية أو تمرد مسلح. ولهذا دعمته القوى الإقليمية والدولية على رأسها واشنطن من خلال مساعدته على تنظيم انتخابات صورية فاز بها للحصول على اعتراف دولي بنظامه في الأمم المتحدة 1997. رأى البعض أن سبب اختيار الشعب لتايلور رغم جرائمه هو أن الليبيريين اقتنعوا بأنهم إذا لم يصوتوا لصالحه فسيعود هذا الرجل لإشعال الحرب من جديد. لكن تولي تايلور الحكم لم يوقف الحرب كما لم يساعد في نهوض البلاد، فأكثر من نصف الليبيريين كانوا خلال فترة حكمه تحت خط الفقر، كما قام بتصفية كل رموز المعارضة، ومارس صلاحياته دونما محاسبة، علاوة على الفساد ومحاباة قبائل تحالف معها ضد الماندنيغو والكران. لم يقتصر الأمر على ذلك بل إن ممارسات تايلور اتخذت أبعاداً إقليمية حيث كان يدعم الجبهة المتحدة في سيراليون التي اشتهرت بالممارسات الوحشية مثل الاغتصاب الجماعي وبتر الأعضاء والاسترقاق الجنسي خلال الحرب الأهلية بقيادة “فوداي سايبانا سنكوح” الذي كان يتاجر في الماس مقابل السلاح. مع بدايات عام 1999 اندلع تمرد آخر من شمال البلاد أشعل الحرب الأهلية الليبيرية الثانية التي بدأت عام 1999 مدعومة من حكومات إقليمية ودولية حتى عام 2003. وطوال سنوات النزاع انهارت مفاصل الدولة وقتل واغتصاب الآلاف من النساء والأطفال الرضع والعجائز. واستغلال الأطفال للتجنيد كمقاتلين أو حَمالين للذخيرة. شكلت المخدرات جزءاً مُتمماً من “ثقافة” الحرب الأهلية؛ فقد عُدت وسيلةً من وسائل السيطرة. وعانى الجنود الأطفال وغيرهم من فئات مقاتلي الحرب من الإدمان على الكوكايين وغيرها من أنواع المخدرات. وقد رأى عدد من قادة الفصائل والميليشيات أن المخدرات تزيد الجاهزية للفتك على أرض المعركة.

طوال الحربين الأهليتين في ليبيريا اللتين أدتا إلى سقوط حوالي مليون قتيل بين عاميْ 1989 إلى 2003. اتخذ المجتمع الدولي وبالأخص الولايات المتحدة الأميركية خطاً ثابتاً هو عدم التورط في الصراع بشكل مباشر للحفاظ على مصالحها المتمثلة في مطار روبرتس الدولي الذي يستخدم قاعدة رئيسية لإعادة تموين الطائرات العسكرية الأميركية بالوقود في المحيط الأطلنطي، كما أن ليبيريا بها محطة إرسال تابعة للسي آي إيه لالتقاط كل ما يبث في القارة، إضافة إلى وجود قاعدة أوميجا إحدى أكبر ست قواعد بحرية أميركية خارج الولايات المتحدة. هذا إلى جانب وجود مزرعة المطاط اليابانية – الأميركية قرب مطار ليبيريا الدولي وهي أكبر مزرعة من نوعها في العالم ويقيم بها 100 ألف نسمة. كما كانت ليبيريا محطة أميركية لدعم المتمردين ضد الأنظمة الشيوعية في أفريقيا، وعلى سبيل المثال كانت الأسلحة تصل لحركة يونيتا الأنغولية التي تدعمها أميركا عبر ليبيريا. قد بدأ تدخل المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لعزل تشارلز تايلور بعد أن هددت المشروعات الأميركية النفطية خاصة خليج غينيا وهو شريط ساحلي مليء بالنفط وإنتاجه يتعدى 5.4 ملايين برميل يومياً. اضطر تايلور للتخلي عن منصبه ومغادرة البلاد في 11 أغسطس 2003 ليقيم في نيجيريا.

صحيح أن الليبريين نجحوا في تخطي هذه الفترات العصيبة لكن تناول تاريخ الصراع الاجتماعي لبلادهم هو محاولة لاستقراء الماضي والوقوف على أهم الإخفاقات لأننا كلنا مهددون بنفس المخاطر طالما مصيرنا مرتبط بطبقة تتبنى وتعيد إنتاج سياسات بعيدة عن طموح الشعوب، ومعارضة تمتلك ثقافة سطحية تهتم بالقشور والتربح الفردي والسمسرة والمؤامرات الضيقة ليس لديها المبادرة الحقيقة لتغليب أولوية المصلحة العامة أو مشروع حقيقي يساهم في الحد من التفاوتات الاجتماعية والتحرر السياسي والاقتصادي الحقيقي.

قراءات ومصادر:

“Black Imperialism: America-Liberian Rule over the African Peoples in Liberia 1841-1964” M.B. Akpan.

“Another America: The Story of Liberia and the Former Slaves Who Ruled It” James D. Ciment.

“The Mask of Anarchy Updated Edition: The Destruction of Liberia and the Religious Dimension of an African Civil War” Stephen Ellis.

“The War Machines: Young Men and Violence in Sierra Leone and Liberia” Danny Hoffman.

“Liberia: Portrait of a Failed State” John-Peter Pham.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

في الكيان الصهيوني.. الأندية الرياضية معامل لتفريخ الفاشية والعنصرية

لمن يمتلك معرفة، ولو محدودة، لواقع أندية كرة القدم ومشجعيهم الصهاينة، لكان لن يُفاجأ بما فعله مشجعو (مكابي تل أبيب) في أمستردام، بالعكس، لفوجئ كيف يمكن للسلطات الهولندية أن تسمح للآلاف من هؤلاء بالدخول لهولندا، وهم المعروفون بسلوكهم الغوغائي والعنصري والهمجي.

نظام الانتخابات الرئاسية الأميركية: هيمنة رؤوس الأموال وضرب لمفهوم التعددية الحزبية والديمقراطية الحقيقية وحقوق الطبقة العاملة

تتغنى الولايات المتحدة الأميركية بنظامها “الديمقراطي” وحرية الانتخابات فيها، والحريات والدفاع عن حقوق الإنسان فأين تلك الادعاءات والولايات المتحدة الأميركية حامية للاحتلال الصهيوني ومشاركة في حربه العدوانية على قطاع غزة ولبنان.

تصويت تاريخي: 187 دولة في الأمم المتحدة تطالب بإنهاء الحصار الأميركي الجائر على كوبا

صوتت الأمم المتحدة يوم الأربعاء 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي على مشروع القرار المعنون ”ضرورة إنهاء الحصار الاقتصادي والتجاري والمالي الذي تفرضه حكومة الولايات المتحدة ضد كوبا“، حيث صوتت 187 دولة لصالح إلغاء هذه السياسة الأميركية المعادية .

احتدام حرب الجنرالات في السودان

تجددت الاشتباكات بين جنرالات الحرب في السودان الجنرال “حميدتي” قائد ميليشيا الدعم السريع، والجنرال البرهان قائد الجيش المختطف من الحركة الإسلامية، بشكل أكثر شراسة خلال شهر أكتوبر المنصرم على جميع محاور القتال، بخاصة في محوري الخرطوم وولاية الجزيرة.

[zeno_font_resizer]