مشهدا العودة… وملامح أزمة الوجود الصهيوني

لئن كان مشهدا الزحفين الشعبيين الحاشدين الفلسطيني واللبناني إلى شمالي غزة وجنوبي لبنان يمثلان أبلغ تعبير حيّ وملموس عن مدى صلابة إرادة الصمود لدى الشعبين الشقيقين في مواجهة العدوان الصهيوني وعمق تمسكهما بالأرض، فإنّ هذين المشهدين الرائعين المعمّدين بالدماء والشهداء والمعاناة والتضحيات يؤكدان كذلك حقيقة أنّ الصراع مع العدو الصهيوني ليس صراع حدود عابر يمكن تهدئته أو تسويته، وإنما هو صراع وجودي قائم ودائم لا يمكن أن تنهيه اتفاقات وقف إطلاق النار أو الهدن الوقتية الهشّة، ناهيك عن الفشل الحتمي لأي تسويات استسلامية من شاكلة أوسلو وأخواتها. 

ونحن عندما ننظر بإكبار وإعجاب إلى مشهد الزحف الشعبي اللبناني نحو قراه وبلداته على الرغم من استمرار الوجود العسكري البغيض للمحتل الصهيوني في عدد منها، فإنّنا نرى في مشهد الزحف الشعبي الفلسطيني دلالات ومعاني بالغة العمق والعظمة تبدد وإلى الأبد صور الذلّ والهوان، التي ارتبطت بنزوح اللاجئين الفلسطينيين من الأراضي المحتلة في نكبة العام ١٩٤٨ والنزوح اللاحق من القدس والضفة الغربية المحتلة بعد نكسة العام ١٩٦٧، بحيث يمكننا القول إنّ “العودة الصغرى” إلى شمالي غزة إنما هي مقدمة تاريخية واعدة للعودة الكبرى إلى فلسطين المحتلة طال الزمان أم قصر.

وفي المقابل، فربما تتضح الصورة أكثر لمدى عمق الأزمة الوجودية في الكيان الصهيوني عندما نجد أنّ الغالبية الساحقة من المستوطنين الصهاينة في شمالي فلسطين المحتلة، الذين أجبرتهم المقاومة اللبنانية على مغادرة “مساكنهم” المغتصبة، التي لما يعودوا إليها بعد، رغم الهدنة ورغم جاهزيتها التامة للسكن… لسبب بسيط، وهو أنّ الأرض التي اغتصبوها ليست أرضهم، وارتباطهم بها يبقى عابراً ومؤقتاً.

وغير هذا، فإنّه من دون تجاهل لحجم الإجرام الصهيوني في حرب الإبادة والدمار في غزة، ومن دون استخفاف بشراسة العدوان الصهيوني على جنوبي لبنان والضاحية، ومع كل الدعم الإمبريالي الغربي غير المحدود للعدو الصهيوني بالسلاح والمال والإسناد اللوجستي والاستخباري والتقني وتوفير الغطائين السياسي والإعلامي لحربه المدمرة، إلا أنّ الحقيقة الماثلة أمام العيان هي الفشل الذريع للقادة الصهاينة في تحقيق أهدافهم المعلنة من الحرب، بدءاً من الفشل الفاضح في القضاء على المقاومة واضطرارهم للتفاوض غير المباشر معها، مروراً بالفشل البائن في استرداد أيٍّ من أسراهم بالقوة، مثلما كانوا يتوعدون، وصولاً إلى فشل مخططاتهم لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وتهجيرهم إلى مصر والأردن… وهذا الفشل يعني باختصار، أنّ الكيان الصهيوني وداعميه الإمبرياليين ليسوا مطلقي القوة والبأس ما دامت هناك مقاومة تتصدى وما دام هناك صمود شعبي لا يتزعزع.

ولكن الدلالة الأهم مما حدث ويحدث تتمثّل في واقع ما شهده الكيان الصهيوني من تحجيم، بحيث أصبحت المشاريع التوسعية الأسطورية من شاكلة “إسرائيل الكبرى” وهماً فارغاً، وسقط ويسقط معها المشروع الإمبريالي الصهيوني لإدماج الكيان في المنطقة وتسيّده عليها، بل أنّ هذا الكيان لم يعد اليوم “الوطن الآمن” المزعوم لليهود، وغير هذا، فقد غدت كلفة الحفاظ عليه وحمايته مرهقة وعبئاً ثقيلاً لا يُطاق عسكرياً ومالياً وسياسياً ومعنوياً وأخلاقياً، في ظل وعي متزايد بحقيقة الصهيونية لدى قطاعات واسعة من الرأي العام الشعبي العالمي، والغربي على نحوٍ أخص… وهذه تحديداً أخطر مؤشرات الأزمة الوجودية لهذا الكيان المصطنع.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

كان الله في عون أصحاب الدخول المتدنية

إنّ هذا التوجيه في حال تنفيذه يعني بالضرورة رفع أسعار السلع والخدمات العامة، التي تقدّمها الجهات الحكومية والشركات المملوكة لها، وهذا ما سيثقل كاهل المواطن والمقيم بأعباء معيشية مرهقة

جريمة صهيونية جديدة في جنين

تأتي الجريمة الصهيونية الجديدة اليوم بتفجير مربع سكني كامل في مخيم جنين بالضفة الغربية لتضاف إلى سجل جرائم الحرب، التي يقترفها الكيان الصهيوني الغاصب ضد

كأس الخليج ٢٦ تحت المجهر

يبدو أن “ردة الفعل” بعد الكارثة التنظيمية في إحدى مباريات تصفيات آسيا لنهائيات كأس العالم، شكلت تحدياً للحكومة ودافعاً للنجاح، وليس كمشروع رياضي استراتيجي جدي لتطوير المجال الرياضي، الذي شهد تراجعاً بل انحدر في السنوات الأخيرة، حيث آن الأوان لتطوير جذري للمنظومة الرياضية في الكويت.