للحرب وجه آخر: (ميراث الاستعمار، مسار الرأسمالية، خراب الكوكب)

-+=

صدر عن منشورات تكوين كتاب “للحرب وجه آخر. ميراث الاستعمار، مسار الرأسمالية، خراب الكوكب” تأليف: أميتاف غوش. ترجمة: د. إيمان معروف. تقديم: د. سنان أنطون. 

مقدّمة

وأنا أكتب هذه المقدّمة تتوالى عناوين الأخبار العاجلة التي تتحدّث عن تسجيل أرقام حرارة قياسيّة في بقاع مختلفة من العالم، وعن حرائق وكوارث بيئيّة. هناك إجماع بين العقلاء والخبراء على أن الكوكب الذي نعيش عليه يعاني من أزمة خطيرة. وأن “تغيّر المناخ” يشكّل خطراً مميتاً للحياة بكافة تمظهراتها وأشكالها، ولكل الكائنات. لا شك أن الوعي الجمعي بالأزمة ازداد في السنين الأخيرة، كما ازداد النشاط السياسي والمجتمعي لمواجهة الكارثة وتبعاتها. وازدادت، بالطبع، وتيرة الاشتباك المعرفي مع تاريخها وجذورها. فأصبحنا نرى المزيد من الكتب التي تتصدى لأزمة الكوكب بحثاً وتحليلاً. ولعل أحد المساهمات المهمّة في السجال الدائر في السنين الأخيرة هو هذا الكتاب الذي أصبح الآن متاحاً بالعربيّة. سبق للروائي والباحث الهندي أميتاڤ غوش أن تعامل مع أزمة المناخ وتبعاتها وجذورها في كتابه “الجنون العظيم: تغيّر المناخ واللامعقول” (٢٠١٦). إذ انتقد بشدّة الإخفاق الجمعي في استيعاب فداحة الأزمة وفي مواجهتها بما يناسب خطورتها على كافة الصعد، وهو ما ستعدّه الأجيال المقبلة ضرباً من الجنون. كما تطرّق فيه إلى قصور المخيّلة السياسية وتقصير الرواية الحديثة عموماً في تصوير أزمة الكوكب ودور الاستعمار فيها. فانتقد واقعيتها التي تخفي الواقع. كما انتقد الناشطين الذين يعزون الأزمة إلى الرأسمالية فحسب، ويهملون الدور الذي لعبه الاستعمار في إحداث أزمة الكوكب. وبذلك يعتبر هذا الكتاب الذي بين يدينا بمثابة تتمة وإضافة للمشروع الذي كان قد بدأه. 

إن الغالبية العظمى من الكتب التي تشتبك مع أزمة الكوكب وتحاول تحديد جذورها والعوامل التي أثّرت عليها وفاقمتها، تبدأ سرديتها من حقبة صعود الرأسمالية، أو الثورة الصناعية. وما يميّز مقاربة غوش أنه لا يكتفي بذلك، بل يعود إلى حقبة الاستعمار الاستيطاني وبدايات الحداثة الاستعمارية لفهم أعمق لسلسلة التغيّرات العنيفة التي أحدثتها في العالم. من إعادة تشكيل الأرض وتسليعها، وتحويل العلاقة بها إلى علاقة احتكاريّة استهلاكية، وشن حرب إبادة ضد السكّان الأصليّين، أو على منظومة حياتهم وتدمير ثقافاتهم، التي كانت علاقتها بالأرض علاقة تعايش وتقديس، لا علاقة استحواذ. إذ كانت الأرض وشبكة الكائنات والنباتات المرتبطة بها، ولا زالت، في معتقداتهم وممارساتهم منظومة حيّة، لا حيزاً للاستغلال والربح والاستنزاف، ومحض مورد لمراكمة رأس المال، كما هو الحال في منظار الحداثة الاستعماريّة. 

ويستخدم حكاية جوز الطيب وتحولّاتها ومسارها كسلعة واستعمار جزر الباندا كأمثولة تهيكل أطروحة الكتاب وتربط ممارسات وأيديولوجيا الاستعمار الاستيطاني والحداثة والرأسمالية التي خلقت وفاقمت، متضافرة، أزمة الكوكب. وينتقل غوش من أرخبيل جزر الباندا وما اقترفه المستعمرون الهولنديون وشركة الهند الشرقية الهولندية، التي تعتبر من رواد الرأسمالية، إلى شمال أمريكا ليتابع ما يسمّيه “الحروب الدائمة” (والتي تستمر تبعاتها إلى اليوم حيث النفايات السامة الملقاة في أراض المحميّات) ضد الشعوب الأصليّة في القرن السابع عشر وبعدها، التي لم تكن حروباً ضد الأجساد فحسب، بل ضد منظومة الحياة وكانت حروباً “بيولوجية سياسية”. “الاستعمار والإبادة الجماعية وهياكل العنف المنظَّم هي الأسسُ التي بُنيت عليها الحداثة الصناعية”.

ويركّز غوش في فصول الكتاب على الاستمرارية بين الماضي والحاضر ويبيّن أوجهُ التشابه بين أزمة الكوكب الحالية والاضطرابات البيئية التي دمرت عوالم حياةِ أعدادٍ لا تحصى من الشعوب الأصلية في أمريكا وأستراليا. وكيف يستمر حجب المسؤولية البشرية التي يتحمّلها الأغنياء والنخب الحضرية. ويشير إلى صلة غير مباشرة بين تغير المناخ وجائحة الكورونا لأن تفشي الأمراض المعدية هو لثمن التنمية الاقتصادية وتغيير استخدام الأراضي والتدخلات البشرية والتدهور البيئي في العقود الأخيرة. ويربط بين تغيّر المناخ وأزمة المهاجرين الذين تزداد أعدادهم والذين يهربون من مناطق منكوبة بتبعات التغير المناخي والحروب. يستشهد غوش بمقولة هرقليطس عن كون “الحرب هي أب كل شيء”. يقارن تجربة اللاجئين المعاصرين بالصراعات البيولوجية – السياسية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ومثلما لم تكن غزوات المستعمرين أحداثاً منفصلة بل “بنى” تستمر تبعاتها ويعاد إنتاج عنفها فإن الحروب في أفغانستان والعراق والصومال، هي الأخرى، ليست أحداثاً انتهت، بل بنى أو هياكل عنف مستمر.

إذا كان الاستعمار الحداثي بعنفه ومنظومته المعرفية وترسانته قد كتم صوت الأرض وأخرس الكائنات وغير البشر، فإن كل هذه لم تعد صامتة، بحسب غوش. إن “الكائنات والقوى الأخرى -البكتيريا والفيروسات والأنهار الجليدية والغابات والتيار النفاث- استعادت صوتها، وهي الآنَ تفرطُ بإظهارِ نفسِها للفت انتباهنا؛ بحيث لم يعدْ ممكنًا تجاهلُها أو معاملتُها معاملةَ عناصرِ من الأرض الخاملة”.

إذا كان لنا أن ننصت من جديد إلى صوت الأرض وأصوات غير البشر، فإن للأدب دوره. يقول غوش “إنَّها مهمة جمالية وسياسيةٌ في آنٍ واحد، وبسبب حجم الأزمة التي تعصف بالكوكب، فإنَّها تضافُ، اليومَ، إلى جعبة المطالب الأخلاقية الأكثر إلحاحًا”.

تذكّرت وأنا أقرأ هذا الكتاب قصيدة محمود درويش الملحميّة العظيمة “خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض” (1) التي استوعب فيها الشاعر بعبقرية ثقافات السكان الأصليين في أمريكا الشمالية وتقمّص أصوات وأرواح البشر وغير البشر. نقرأ فيها الأنين الجمعي ضد الخراب الذي تجر إليه العالم منظومة الحداثة الاستعمارية:

    “إلى أين، يا سيد البيض، تأخذ شعبي. . . وشعبك؟

إلى أي هاوية يأخذ الأرض هذا الروبوت المدجّج بالطائرات

وحاملة الطائرات، إلى أي هاوية رحبة تصعدون؟

لكم ما تشاؤون: روما الجديدة، إسبارطة التكنولوجيا 

و

أيديولوجيا الجنون

. . .

فلتمهلوا الأرض حتى تقول الحقيقة، كلّ الحقيقة،

عنكم

وعنّا

وعنّا

وعنكم!”

تتكرر عبارة “الشعب الأبيض” في الكتاب. ويقول غوش في إشارة مهمّة، إنها لا تشير إلى مجموعة معيّنة بقدر ما تشير إلى مشروع “يتبنّاه عددٌ كبير من غير “البِيض”، المنحدرينَ من أصولٍ أوروبية. في الواقع، إنَّ أكثر العملاء نهمًا للرأسمالية الاستخراجية اليومَ، هم على الأرجح الذين وصلوا متأخرين إلى الاستعمار الاستيطاني، مثل نُخب العديد من البلدان الآسيوية والإفريقية”.

يختم غوش كتابة بشيء من الأمل في إمكانية مقاربة أزمة الكوكب بشرط ألا ننسى مسائل العدالة التي يجب أن تكون في الصميم فكراً وممارسة. ويشير إلى أمثلة لانتصارات قانونيّة حققتها الشعوب الأصليّة في السنين الأخيرة بالتأكيد على “قدسية الجبال والأنهار والغابات، وتسليط الضوء على روابط القرابة التي تربطها بالبشر”. 

لكنه يحذر أيضاً أن الكثير منّا ما زالوا يتعاملون مع الأرض مثلما فعل المستعمرون، فما زلنا ننظر إليها كما لو أنّها لم توجد إلا لكي نستغلها. لقد كان السكان الأصليون “على حقٍّ طوال الوقت، [فـ]الأرضَ ليست خاملةً ولا صامتةً، بل مشبعة بالحيوية”. وعلينا أن ننصت إليها. . . إن مصيرنا كبشر ومصير الكوكب يعتمد على الإنصات إلى الأرض وإلى كل الكائنات الحيّة وأقاربنا من غير البشر.

سنان أنطون، شاعر وروائي عراقي

  1. – محمود درويش، أحد عشر كوكباً، (دار توبقال، ١٩٩٢) ص ٧-٣١.

مكتبة ومنشورات تكوين

Author

  • منشورات تكوين

    دار نشر تأسست عام 2017، مقرها الكويت والعراق، متخصصة في نشر الكتب الأدبية والفكرية تأليفاً وترجمة.

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

الثّقافة والهويّة العربيّة

هناك شبه اجماع على أنّ الثّقافة مصنوع فنيّ اجتماعيّ أو أداة تكيف متطورة تعدّل في تفاعلها مع وظيفتها الاجتماعيّة المتطورة التي نشأت اجتماعيّاً لأدائها، وتغدو