
القضية الفلسطينية في الجغرافيا السياسية للجنوب العالمي
غدت المقاومة الفلسطينية اليوم رمزاً عالمياً للكرامة. إن غزة، ذلك السجن المفتوح، تمثل المركز الأخلاقي والسياسي لنضالات الجنوب العالمي
لنفترض جدلاً وجود ظالمين يتقاتلان ويتبادلان إطلاق النار في الحي الذي تسكن فيه، فوق رؤوس أطفالك، وسقف منزلك، وإمدادات الكهرباء والماء والصرف الصحي. السيناريو الوحيد الذي تتخيل فيه أنك ستخرج من بينهم سالماً، بلا خدش أو أثر، هو أنك، بشكل أو بآخر، غارق في وهم، تعيش حالة من الانفصال عن الواقع، مقتنع بأن منزلك يقع في بعد زمني ومكاني آخر، يعصمك من الأحداث التي تدور حولك. كأنك تتابع ما يجري بعدسة وبوابة زمنية منفصلة عن واقعك، من عالم موازٍ لا يتقاطع مع خط النار. هذا الوهم، أو بالأحرى هذا الانفصال الذهني، هو ما يسمح لأحدهم بأن يقف بكل برود، وكأنما نطق بالحكمة في خضم الجنون، ليقول: “اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين”. فهو حقاً يظن أن شاشة التلفاز أو الجوال، عدسة لعالم مواز هو بعيد عنه.
من يقول “أخرجنا من بينهم سالمين” إنما يكذب على نفسه، كذبة بحجم الجريمة، كذبة تهين العقل والكرامة والدماء، ومحرجة بشكل يقشعر له البدن بمجرّد أن تفكر فيها قليلاً.
الأسوأ من كل ذلك أن الواقع الفاقع، الملموس، الموثق بالدم والصور، هو أننا لسنا “من بين”، بل نحن تحديداً الهدف، نحن الأرض التي تدور عليها المعركة، واللحم الذي يتناثر على جوانبها، والرقم الذي يرتفع في عداد الشهداء. نحن الذين نتعرض للإبادة، نحن الذين يُقصف أطفالنا، وتُهدم بيوتنا، وتُقطع عنا الماء والدواء. فمن يقول “أخرجنا من بينهم سالمين” إنما يكذب على نفسه، كذبة بحجم الجريمة، كذبة تهين العقل والكرامة والدماء، ومحرجة بشكل يقشعر له البدن بمجرّد أن تفكر فيها قليلاً.
وحتى لا نكذب على أنفسنا أيضاً، فهذه العبارة ليست خروجاً من تموضع بين طرفين، بل إن المروّج يقولها لأنه مع الطرف الإسرائيلي ويميل له. ولكن، لنتحدث عن أولئك الذين يقولونها بسذاجة “ومع الخيل يا شقرا”، ولنجب على سؤال لماذا يقولها إنسان وإنسانة عربيان، رغم هذا التهافت المنطقي البائن. والإجابة هي لأن هذا الإنسان يعيش في بيئة تنفي عنه صفة الكائن السياسي بحيث يكون “ساقط الأهلية”. ويتحول حتى في عقله الباطن إلى معلق لا علاقة له بمحيطه، وليس فاعلاً سياسياً يقرر ويفكر وله استقلال بذاته في بلاده. وهنا تحديداً المسألة، فعندما تقولها فأنت تعترف بشكل مباشر أنك قاصر سياسياً ومعطل عن اتخاذ القرارات ومسيّر. فكل الكرة الأرضية وفواعلها السياسية من أمم ومجتمعات لها مصالح وأمن وخيارات استراتيجية تؤثر عليها وتتأثر بها في كل حدث في العالم رغم البعد الجغرافي فما بالك في حرب ترمى فيها مفردات التدمير النووي كالسلام عليكم؟ وأنت في منتصفها تقول “أخرجنا سالمين”.
هذا الموقف الكارثي يعكس الأزمة السياسية للإنسان العربي، فهو إنسان معطل سياسياً، لا حول ولا قوة له، بلا حقوق أو “كرامة” أو “عزة نفس” أو حتى أدنى بديهيات المصالح الاستراتيجية له وللأجيال التي تليه. فأول سؤال في وضع كالحرب، هو كيف نحرص على تقليل تداعياتها علينا، واستغلالها لتحصيل مكاسب سياسية لنا؟ استيقظت شعوب الأرض من الصين وباكستان والبرازيل وجنوب أفريقيا واستنفرت مؤسساتها السياسية وعقولها للإجابة على هذه السؤال. بينما هنالك من العرب (وليس كلهم حيث أن منظري طوفان الأقصى والفلسطينيين واليمنيين هم في صلب الاستنفار)، وهم في مؤسسة “صنع اللا قرار” العربية في المجالس على الكنب أمام التلفاز يقولون بين بعضهم أخرجنا سالمين؟
للمأساة طبقة أخرى، فهذا الإنسان ليس معطلاً سياسياً فحسب، بل يعيش على أرض ساقطة وتحت سماء ساقطة بالمعنى السياسي. فهي ملعب لكل الأطراف إلا العربي الذي فيها، وتمارس فيها الأمم والغزاة مصالحها، وتحلق فيها وعبرها طائرات لتقصف جيرانهم. في تخلٍ عن بديهيات وأسس القيم العربية في سابقة لم تحدث منذ آلاف السنين، نعم آلاف السنين ومن قبل البعثة النبوية لم يسبق للعرب التخلي عن حميتهم وقيم منظومتهم الأخلاقية حول الجيرة والشرف والمروءة بهذا الشكل.
إن أصل المشكلة ليس فقط في ضرورة أن تقف مع جارك المسلم المظلوم ضد الكيان الاستعماري الإبادي المحتل لأقدس مقدساتك ويقتل الأطفال بمعدل فصل مدرسي كل ساعة، فحتى هذه البديهية أصبحت صعبة الفهم عند البعض. وإنما الأصل في المأساة يكمن في أننا بحاجة إلى أن نستعيد شرط الأهلية السياسية أولاً، أن نعيد للإنسان العربي قدرته على الفعل، على التفكير، على اتخاذ القرار بشأن مستقبله ومصالحه، على أن يكون جزءًا من الحاضر ومن التاريخ.
فإذا استعدنا هذه الأهلية، إذا وعينا أنفسنا ككائنات سياسية لها الحق والقدرة والواجب، سيتضح بعدها كم كانت عبارة “أخرجنا من بينهم سالمين” مجرد نكتة سمجة، في مشهد دامٍ ومصيرٍ لا يحتمل الهروب من المسؤولية.
غدت المقاومة الفلسطينية اليوم رمزاً عالمياً للكرامة. إن غزة، ذلك السجن المفتوح، تمثل المركز الأخلاقي والسياسي لنضالات الجنوب العالمي
يشكل واقع الشباب المغربي اليوم مرآة حقيقية لانهيار المشروع النيوليبرالي الذي تبنته الدولة منذ عقود. ففي الوقت الذي تروج فيه الحكومة لـ “الاستقرار” و”التحول الاقتصادي”، يجد الملايين من الشباب أنفسهم في مواجهة بطالة مزمنة، وتدهور خدمات التعليم والصحة، وغياب أفق سياسي حقيقي يسمح بالمشاركة والتغيير
تُعيد التحولات المتسارعة في النظام العالمي، خصوصاً في هذا العقد، إنتاج مفهوم القوة والتأثير خارج الإطار التقليدي القائم على مركزية الدول الصناعية الكبرى.
هذا المقال يناقش التجويع كأداة استعمارية مركبة تُستخدم ضد الفلسطينيين في غزة، لا لضبط الغذاء فحسب بل لإخضاع الوعي والسلوك. بالاعتماد على وثائق رسمية وشهادات