المعلم من الرسالة إلى التهميش

-+=

في زمنٍ لم تكُن فيه المِهنة مُجرد مصدر دخل، كان المُعلِم في الكويت، وبالأخص الفلسطيني القادِم إلى الكويت والخليج، يحمِل التعليم بوصفهِ فعلاً نِضالياً ورسالة قومية، لم يأتِ ليُدرِس فقط، بل جاء لأنهُ مؤمن بأن كل طالب عربي هو امتداد لقضيته ومشروعه ورسالته التحررية والتقدمية، فقد كان يرى نفسهُ مسؤولاً عن بناء وعي جماعي لا فردي، لتشكيل جيل ناقِد ومنتِج غير مكرّس لخدمة السوق، لتنشئة جيل من الطلاب يؤمنون بأن التعليم بوابة التحرر لا مُجرد أداة وظيفية… فهذا المعلم لم يكن يُدرِس بمعزل عن وعيه الطبقي أو انتمائه القومي، بل كان يرى في التعليم وسيلة لتحرير الطالب من الجهل والفقر، وأداة لتمكين الأمة من استعادة كرامتها وموقعها، ومساراً نحو تحقيق العدالة والتحرر لا نحو التنافس الفردي الخاوي، حيث كان يرى طلابه مشروع مجتمع لا مُجرد موارد بشرية في سباق التقييمات.

وأما الآن نشهد تحول التعليم من أجل النهضة إلى التعليم من أجل السوق، حيث أنه في ظل صعود النيوليبرالية، وسياسات الخصخصة وتمكين القطاع الخاص، فَقَدَ التعليم العربي كثيراً من روحه، وتحول من مشروع جماعي للنهضة إلى خدمة فردية تُقاس بمعايير المال، وأصبح المُعلِم جزءاً من هذهِ الآلة الجديدة، لا بصفتهِ مرشداً ومربياً، بل كموظف إداري يُنجِز مهاماً، ويُقيِّم بنماذج وتقارير رقمية، بمنظور حلل معاشك وتوكل!!

وهنا غابت الرسالة، وانهار البُعد القومي والتقدمي والنهضوي، ليحِل محله ثقافة الإنجاز الفردي، وهاجِس التصنيفات والتقييمات الشكلية، والخضوع لمنظومة بيروقراطية تُقصيه عن روح العملية التعليمية.

الواقع التعليمي وتقييد دور المعلم التربوي

في الواقع التعليمي الراهن، لم تعُد أزمة المعلم نابعة فقط من غياب الدعم أو التقدير، بل من تقييد دوره التربوي الأصيل عبر منظومة قانونية وبيروقراطية تعطّل قدرته على توجيه الطالب أو ضبطه سلوكياً… فكل محاولة للتقويم قد تتحول إلى قضية إدارية أو شكوى قانونية من قِبل ولي أمر الطالب، في بيئة تُعامِل المعلم كما لو كان طرفاً في صراع وليس شريكاً في بناء الرسالة التربوية.

هذا الواقع أنتج مفارقة خطيرة، حيث أصبح المعلم يحرص على “السلامة القانونية” أكثر من “الرسالة التربوية”، يُتقن ملء التقارير والانضباط في الجداول، لكنهُ يتجنب التدخل التربوي خوفاً من المساءلة، بات ينسحب من دوره الأخلاقي خوفاً من أن يُساء فهمه أو يُلاحَق. وبذلك أصبحت النتيجة: نظام تعليمي يخنق معلميه بلائحة عقوبات، لا برسالة تربية.

ومع السياسات الإدارية الحديثة، التي تتبنّى فلسفة الرقابة الرقمية والانضباط الميكانيكي، جاء قرار إدراج المعلمين في نظام “البصمة” في لحظة كان المعلمون يرفعون فيها مطالبهم المشروعة لتحسين أوضاعهم الوظيفية والمادية والمعنوية… ولكن بدلاً من أن تُقابل هذه المطالب بحوار جاد أو إصلاحات تُنصف المعلم، جاءت الاستجابة بصيغة إدارية رقابية، تُكرّس الشعور بأن (المعلّم لا يُقدَّر… بل يُشكَّك فيه) فالقرار لا يبدو فقط إجراء تنظيمياً، بل إشارة ضمنية بعدم الثقة، وكأن المعلم المتفاني في رسالته يُعامل كمتهم محتمل يحتاج إلى إثبات حضوره… لا إلى الاعتراف بحضوره الرمزي والتاريخي في الوعي المجتمعي.

وفي سطوة ارتفاع تكاليف المعيشة، وثبات الرواتب عند حدودٍ زهيدة، وغياب العدالة في الامتيازات، والتهميش؛ يجد المعلم المغترب نفسه في موقع هش، أفقده دوره الحقيقي ومسؤوليته، ذلِك الموقع الذي يتقاطع فيه الشعور بالغربة، مع الضيق المادي المزمن، ومع ما يشبه التهميش الإداري المقنع، حيث يُعامل ككائن قابل للاستبدال لا كركيزة في النظام التعليمي. فالمنظومة التي لا تؤمن بعدالة المعلم، لا تنتج عدالة في التعليم.

وحين يُدفع المعلم من التعليم العام إلى التعليم الخصوصي هرباً من الجوع، فنحن لا نفقد معلماً فقط، بل نعلن إفلاسنا التربوي رسمياً.

كنا نُردِد قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا … كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا

وأما اليوم أصبح المُعَلِّمُ “مخذولاً”.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

استرداد الصدمة من قبضة الإمبريالية .. من الشلل إلى النضال

إن تحويل الصدمة من أداة شلل إلى وقود للنضال يعني استعادة القدرة على تفسير الجراح بوصفها دلائل على بنية استغلال عالمي. حينها تصبح الصدمة بذرة مقاومة جديدة، تنبثق من داخل الألم لتقلب معادلة الهيمنة وتعيد ربط الذاكرة بالمستقبل بدل دفنها في مقبرة النسيان الإمبريالي

الزراعة والتربة في مشروع أميليكار كابرال التحرري

كابرال كان لا يُفصل بين الجيولوجيا والتاريخ البشري؛ بالنسبة له كانت التربة ليست أرضاً جامدة، بل هي جزء من علاقات ديناميكية مع البنى الاجتماعية، ويتضح ذلك في استجابتها المختلفة لشكل الاستغلال الاستعماري.

السفينة الخليجية لكسر الحصار عن غزة

منذ أكتوبر العام 2023، إلى يومنا هذا، والعدو الصهيوني يمعن في عدوانه النازي على قطاع غزة، ويرتكب، يوميا، المجازر ضد المدنيين، في محاولة يائسة منه