العدمية بلا حدود: من أسواق الغرب إلى فضاءات الشرق

-+=

أتذكر تعليق سائق تاكسي على لوحة إعلانية انتخابية ضخمة ظهرت أمامنا على الطريق: “مفيش فايدة… صوتنا ما بيوصلش، والانتخابات ما بتمثلناش”، ثم أكمل طريقه بلا اكتراث، هنا بالضبط تتجلى إحدى صور العدمية اليومية؛ والعدمية هنا لا تعني تبنِّي موقفًا فلسفيًا قائمًا على إنكار جميع القيم، بل تشير إلى حالة يفقد فيها المجتمع إيمانه بالسرديات الكبرى التي تمنح الوجود معنًى شاملاً وتوجّهاً واضحاً. حالة يصير فيها أفراد المجتمع بلا معتقدات راسخة تعطي حياتهم معنى وتوجه أهدافهم. فحتى في المجتمعات التي تمتلئ بها مظاهر التدين في السلوك والعادات، يمكن أن تسود العدمية بمعناها العميق. هنا، يصبح التمسك بهذه المظاهر أشبه بمحاولة للخلاص النفسي، لكنها قد تتحول -دون وعي- إلى غطاء يوارى تحته منطق السوق وقيمه؛ والتنافس الفردي، والسعي وراء المكانة والاستهلاك. في هذه الحالة، لا تكون العدمية نقيضاً للمظاهر المحافظة أو الوطنية، بل تصبح جوهرها الخفي عندما تُفرَّغ تلك المظاهر من معناها وتُختزل إلى إجراءات شكلية. في مثل هذا السياق، يظل الأفراد بلا معتقدات راسخة أو رؤية شاملة للحياة، حتى وإن حافظوا على سلوكيات محافظة، لأن القيم الفعلية التي تحكم سلوكهم وتحدد اختياراتهم هي قيم السوق، لا القيم التي تدَّعي تلك المظاهر تمثيلها. 

من تلك المظاهر، انتخابات شكلية تُؤدَّى فيها الطقوس السياسية، وتديُّنٌ يغلب فيه الاهتمام بالمظهر الطقوسي على الجوهر الأخلاقي، وتعليمٌ مفرغ يُمارَس كما لو كان ينتج معرفة، واحتفالات وطنية تُرفع فيها الشعارات الحماسية بينما الواقع السياسي يناقضها، وخطط تنمية بأرقام براقة لا تغيِّر شروط الحياة الفعلية، ومؤتمرات ثقافية تعيد الكلام المألوف بلا أثر في الفكر أو الإبداع، ومبادرات خيرية تُلتقط لها الصور أكثر مما تغيُّر أوضاع الفقراء، وقوانين تُسنُّ لتجميل صورة العدالة، بينما تخدم ذات البنى القائمة. تبدو جميعها أحداثاً منفصلة، لكن إذا نظرنا إليها بتمعن نجد أنها ليست سوى أجزاء من كلٍّ واحد، أجزاء تتغذى من البنية نفسها وتحافظ على بقائها. كلها إجراءات أشبه بغطاء مصقول يخفي خواء الداخل، وتحافظ على القالب الخارجي بينما يظل الجوهر خالياً من المعنى. بينما هذا الخواء المقنَّع هو ذاته جوهر العدمية، حتى لو غمرته مظاهر التدين والخطاب الروحي.

ورغم ما يبدو من حضورٍ طاغٍ للمحافظة في المجال العام، تظل البنية الوجودية للمجتمع أسيرة آليات دنيوية بلا سندٍ من المقدّس؛ أي أنّ السردية المحافظة انحسرت عن كونها الأفق الكوني الذي يمنح المجتمع معنى مشتركاً، لتغدو في معظم تجلياتها هويةً رمزية أو ممارسةً طقسية متكررة. ومثلما فعل أفلاطون مع سقراطه الخاص -لا بأن يعيش حياته الفعلية المليئة بالمواجهة والاضطراب، بل بأن يكتبها وكأنه هو من عاشها- يحاول كثيرون اليوم أن يمنحوا حياتهم معنى عبر إعادة ممارسة السياسة وطقوس التدين والثقافة لا باعتبارها أفعالاً حقيقية ذات مضمون، بل باعتبارها أصداءً باهتة لزمن ماض أو مُتخيل يُظنُّ أنه يحمل معنى، حتى وإن كان هذا المعنى ذاته موضع شك. إنها علاقة مؤجلة مع المعنى، ومحاولة لملء الفراغ عبر محاكاة حياة لم تُعَش حقًّا.

ثم يأتي أحدهم ليقول بثقة إن الشرق ما زال يحتفظ بغاية ومعنى روحي راسخ، بينما الغرب قد غرق في التيه والعدمية، لكن هذه الثقة الساذجة تتجاهل أن ما يُقدَّم على أنه “معنى روحيٌ راسخٌ” ليس إلا إعادة تدوير للخواء ذاته، مغلَّفاً بأشكال مألوفة من طقوس التدين أو القومية أو التقاليد. فالعدمية هنا ليست غربية ولا شرقية، بل هي حالة بنيوية يمكن أن تتخذ أي لون ثقافي أو محافظ أو وطني، وتتكيف مع أي خطاب ظاهري. قد تلبس ثوب السوق في الغرب، أو ثوب المحافظة والقومية في الشرق، لكن جوهرها واحد: فقدان الإيمان بسردية كبرى تمنح الوجود هدفاً، واستبدالها بطقوس وممارسات تحفظ الشكل وتجهض المضمون. في هذا السياق، يمكن فهم العدمية بوصفها نتيجة بنيوية مرتبطة بالنظام العالمي الرأسمالي/الإمبريالي، وفي ظل هذا النظام، لا تقتصر على كونها شعوراً باللا-جدوى، بل تُستَخدم باعتبارها آليةً سياسية/ ثقافية تعمل على:

  1. إفراغ القيم والمعاني من مضمونها.
  2. تحويل الأفراد إلى ذرات منعزلة، غير قادرة على بناء مشروع جماعي.
  3. إضعاف أي مقاومة منظَّمة من خلال زرع الإيمان بعدم جدوى التغيير.

وكما يعمل الاستبداد على منع اتخاذ القرار السياسي المستقل، تعمل العدمية على منع تشكُّل الإرادة التاريخية المشتركة. على سبيل المثال، في كثير من الدول الغربية، يُقدَّم للمواطن حرية اختيار واسعة في الاستهلاك، وحريات شخصية في نمط الحياة، لكن تظل القرارات الكبرى التي تحدد مستقبل الاقتصاد أو البيئة أو السياسة الخارجية خارج متناول الإرادة الشعبية الفعلية (مثال ذلك الحزبين الرئيسيين في أميركا). تكون النتيجة أن المواطن، رغم تمتعه بـ “حرية فردية قصوى”، يشعر أن مشاركته السياسية لا تغيِّر شيئاً، فتصبح السياسة مجرَّد متابعة لعروض إعلامية أو حملات انتخابية تمثيلية، لا وسيلة للتغيير الفعلي. 

وعلى هذا المنوال، يولِّد القمع المستمر لأي نشاط سياسي مستقل، مع السيطرة الصارمة على الإعلام في بعض الدول التي يحكمها نظام سلطوي، شعوراً عاماً بأن أي محاولة للاعتراض أو التنظيم ستنتهي بالفشل أو العقاب. هذا الإحساس بفقدان الأمل يتحوَّل مع الوقت إلى مبرِّر للانسحاب من الفعل العام والاكتفاء بالانشغال بالشؤون الخاصة أو الهجرة الذهنية عن قضايا المجتمع.

وفي هذا السياق، يطرح لوكاش في كتابه “التاريخ والوعي الطبقي” معالجة جدلية؛ فيمهد قائلاً عما يسميه العلم البرجوازي: أنه “ينسب، سواء أكان بواقعية ساذجة (موضوعية)، وسواء أكان بطريقة (نقدية) لاستقلال التجريديات -الضرورية والنافعة من وجهة نظر منهجية نسبة للعلوم الخاصة- الناجمة من جهة عن الفصل بالنسبة لمواضع البحث، ومن جهة ثانية عن قسمة العمل والتخصص العلميين”، ثم يضيف حقيقة “إن عزل العناصر، على نحو تجريدي، عن قطاع بحث أو عن مجموعات خاصة من القضايا أو المفاهيم، داخل قطاع بحث، لا يمكن تجنبه. على أن ما يظل مع ذلك فاصلاً، هو معرفة ما إذا كان هذا العزل هو فقط وسيلة لمعرفة الكل، أي إذا كان يتحدد دائماً في مضمون كلي صحيح، يفترض وجوده ويدعوه، أو إذا كانت المعرفة -المجردة- لأي قطاع معزول مُحتفظ باستقلالها، وتظل هدفاً لذاتها”. إن وجهة نظر لوكاش فيما يخص الفصل بين التخصصات العلمية هي أنه يجب أن يجري تجاوز “هذا الفصل بالارتفاع والانحدار به إلى مستوى المفاهيم الجدلية”، بهذه الطريقة، فإنه “لا يوجد هناك إذن، في نهاية التحليل، علم قانوني أو علم للاقتصاد السياسي والتاريخ، إلخ… مستقل؛ هناك فقط علم تاريخي وجدلي، فريد وموحد، لتطور المجتمع ككلية”.(1)

 نفهم من ذلك أن الاقتصار على معالجة هذه الأجزاء والظواهر كلٌّ منها على حدة، دون ربطها بالبنية الكلية، تجعلنا مثل من يحاول إصلاح حجرة في بيت آيل للسقوط، أو كمن يتعامل مع “البلدية المحلية” دون إدراك أن تصورنا لا يكتمل إلا إذا نظرنا إلى المجتمع باعتباره تشكيلة واحدة. من هنا، فالغاية الكلية ليست نزعة متعالية، كما يعتقد البعض من مناصري المادية المبتذلة، بل شرط موضوعي لفهم الترابط العضوي بين هذه الأجزاء، ولتحويل أي إصلاح جزئي إلى خطوة داخل مشروع تغييري شامل، لا إلى طقس شكلي يعيد إنتاج نفس الخواء. بالتالي، العدمية اليومية ليست مجرد عرَض جانبي، بل غياب المشروع الشامل الذي يمنح الأفعال اليومية معناها.

لكن إذا كانت الغاية الكلية عند لوكاش هي الحل الممكن لفقدان المعنى، فإن ألتوسير كان أكثر تشككاً. بالنسبة له، “في التحليل الأخير” لا نصل أبداً إلى هذه اللحظة الحاسمة التي تكشف البنية في صفائها؛ فحين يتحدث عن أن التحليل الأخير لا يأتي أبداً the last instance never comes، فهو يشدد على أن البنية الاجتماعية مفرطة التحديد overdetermined، وأن لا لحظة حسم واحدة تُختزل فيها كل العوامل الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية؛ أي أننا لا نصل إلى لحظة يمكن فيها أن نرى الحسم الاقتصادي “خالياً” من بقية العوامل. فالبنية الاجتماعية عنده مفرطة التحديد حيث تتشابك السياسة، الإيديولوجيا، والاقتصاد بشكل معقد، بحيث لا يمكن عزو أي ظاهرة إلى عامل واحد بشكل ميكانيكي. ولهذا فإن “التحليل الأخير” عنده ليس لحظة وصول، بل أفق يبتعد كلما اقتربنا منه، ما يجعل أي حديث عن “معنى كلي” أمراً مشبوهاً ما لم يُدرك ضمن هذه الشبكة المعقدة من التحديدات المتبادلة. 

بذلك، يلتقي الاثنان في نقد الخواء المعاصر، لكنهما يفترقان في الإجابة: لوكاش يراهن على إعادة بناء المعنى عبر غاية كلية تاريخية، بينما ألتوسير يتركنا داخل حقل صراع بلا مركز نهائي، حيث إعادة الإنتاج البنيوي للعدمية ممكنة حتى وسط أشدُّ المظاهر الروحية أو الثورية صخباً. فالعدمية التي نراها في المشهد المصري والعربي ليست مجرد فقدان القيم، بل فقدان الغاية الكلية التي تربط هذه القيم وتمنحها حياة. والخواء والشعور “باللا-فائدة” ليس سوى شكلها الملموس؛ طقوس بلا إيمان، وتعليم بلا معرفة، وسياسات بلا تمثيل، وسردية محافظة بلا مشروع اجتماعي حي. 

  1. – جورج لوكاش، التاريخ والوعي الطبقي، ت: حنَّا الشاعر، دار الأندلس (بيروت-لبنان)، ط2، 1982، ص 34.  

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

استرداد الصدمة من قبضة الإمبريالية .. من الشلل إلى النضال

إن تحويل الصدمة من أداة شلل إلى وقود للنضال يعني استعادة القدرة على تفسير الجراح بوصفها دلائل على بنية استغلال عالمي. حينها تصبح الصدمة بذرة مقاومة جديدة، تنبثق من داخل الألم لتقلب معادلة الهيمنة وتعيد ربط الذاكرة بالمستقبل بدل دفنها في مقبرة النسيان الإمبريالي

الزراعة والتربة في مشروع أميليكار كابرال التحرري

كابرال كان لا يُفصل بين الجيولوجيا والتاريخ البشري؛ بالنسبة له كانت التربة ليست أرضاً جامدة، بل هي جزء من علاقات ديناميكية مع البنى الاجتماعية، ويتضح ذلك في استجابتها المختلفة لشكل الاستغلال الاستعماري.