
العدمية بلا حدود: من أسواق الغرب إلى فضاءات الشرق
وكما يعمل الاستبداد على منع اتخاذ القرار السياسي المستقل، تعمل العدمية على منع تشكُّل الإرادة التاريخية المشتركة
في إطار محاولات دعم ثقافة الصحة النفسية وتعزيز الوعي بأهميتها في المجتمع، نجد للأسف تصريحات تُكرس النظرة الدونية تجاه العلاج النفسي وكأن من يطلب المساعدة أو يراجع الطبيب النفسي هو موضع شبهة أو خطر على المجتمع، بل الأخطر من ذلك ما أثاره أحد النواب السابقين قبل ثلاث سنوات، تقريباً، من تصوير الوافد الذي يراجع الطبّ النفسي وكأنه يشكل خطراً على المجتمع والوطن، في تمييز صريح لا يستند إلى منطقٍ علميّ ولا إنساني، بل يرسّخ الخوف والوصمة، وينفِّر الناس من طلب العلاج . بدورنا نؤكد أن من يراجع الطب النفسي ليس خطراً على المجتمع، بل إن المجتمع الذي يخاف من العلاج هو الخطر الحقيقي… فالعلاج النفسي ليس ترفاً أو خطراً، بل هو صيانة للعقل والصحة النفسية، مثلما يُعتبر فحص القلب صيانة للجسد والصحة البدنية. ومن الخطأ أن تتم محاكمة الإنسان كونه يحاول أن يُشفى نفسياً، أو كما صدر مؤخراً من أحد الوزراء المعنيين بالمؤسسات التربوية والتعليمية، عبر المنصات الإعلامية وأمام الجمهور، من حديثٍ يبرر عدم استحقاق بعض الأفراد للمناصب الإشرافية، بالإشارة إلى لقائه بشخص بحسب كلامه “كان يصارخ عليَّ” ثم اكتشف “أن لديه (ورقة) من الطب النفسي”، فتساءل مستنكراً “هل هذا أنا أسلمه؟”. ومثل هذا الطرح قد يحمِل دلالات خطيرة، بحيث يقع المتلقي في مغالطة “بأن من يراجع الطب النفسي لا يصلح لمناصب إشرافية” وهنا نجد أنه من المفترض التوعية على علاج الحالات النفسية وتشجيعها على الانخراط في المجتمع بعد خضوعها للعلاج والإرشاد النفسي، وعكس ذلك، لا يُهدد المرضى فقط، بل يُهدد كل سُبل الوعي العام ويعيدنا إلى زمن كانت فيه المعاناة النفسية تُقابَل بالسخرية أو الاتهام، بدل أن تُقابَل بالعلاج والرعاية، وبهذا الخطاب يترسخ في الوعي الجمعي أن الصحة النفسية نقيض الكفاءة، بينما الحقيقة العلمية والإنسانية تقول العكس تماماً: أن من يعالج نفسه هو أكثر وعياً واستبصاراً، واتزاناً في اتخاذ القرار.
ولذا علينا الإشارة إلى إن تصريحات كهذه حين تصدر من قبل مسؤولين فإنها تؤدي إلى نتائج سلبية، منها:
فإذا كانت الدولة جادة في إصلاح التعليم والإدارة، فالأولى أن تكرِس ثقافة الصحة النفسية في التربية والتعليم والحياة الاجتماعية لا أن تتجاهلها. يُفترض أن يكون الطب النفسي جزءاً من الفحص الدوري الإيجابي للموظفين والطلبة لا وصمة تُلاحقهم، وأن تتم توعية المعنيين بأن العلاج النفسي لا يُنقص من القدرات، بل يزيدها وضوحاً وثباتاً، فالمطلوب من وزارة الصحة والتربية والإعلام تكريس المفهوم الإيجابي للعلاج النفسي ومنع أي إزدراء أو إساءة لهذا المفهوم.
وأن تقوم كذلِك الجمعيات والنقابات المعنية بالطب والعلاج النفسي بدورها في التوعية والدفاع عن كرامة المهنة ومراجعيها، وأن تُسهِم في التوعية على أهمية العلاج النفسي ومنع تشويهه في الرأي العام، وتشوّه صورة الطب النفسي في الوعي العام. فالمسؤولية هنا لا تقع على الدولة وحدها، بل على المجتمع المهني والمدني الذي يجب أن يُعلن موقفه بوضوح، دفاعاً عن حقّ الإنسان في العلاج، وعن قيمة التوازن النفسي كركيزة من ركائز الكفاءة والإنتاج.
إنَّ الصمت أمام هذا الواقع قد يعني القبول الضمني به، ويُحوِل الوصمة إلى ” ثقافة “، والخوف إلى قاعدة، في حين أن واجب المؤسسات المهنية والإعلامية والأكاديمية هو تحصين الوعي العام من الانحدار نحو الجهل الطبي والاجتماعي.

وكما يعمل الاستبداد على منع اتخاذ القرار السياسي المستقل، تعمل العدمية على منع تشكُّل الإرادة التاريخية المشتركة

إننا اليوم نعيش في عصر السرعة والاختصار، حيث تراجع الصبر الدرامي أمام إغراء “المشهد السريع” و”المعلومة المختصرة”.

إن تحويل الصدمة من أداة شلل إلى وقود للنضال يعني استعادة القدرة على تفسير الجراح بوصفها دلائل على بنية استغلال عالمي. حينها تصبح الصدمة بذرة مقاومة جديدة، تنبثق من داخل الألم لتقلب معادلة الهيمنة وتعيد ربط الذاكرة بالمستقبل بدل دفنها في مقبرة النسيان الإمبريالي

كابرال كان لا يُفصل بين الجيولوجيا والتاريخ البشري؛ بالنسبة له كانت التربة ليست أرضاً جامدة، بل هي جزء من علاقات ديناميكية مع البنى الاجتماعية، ويتضح ذلك في استجابتها المختلفة لشكل الاستغلال الاستعماري.



