التحول نحو الدعم النقدي في سورية: إعدام لمنظومة الدعم

يزخر تاريخ الدعم الاجتماعي الحكومي في سورية بالتطورات والتغيرات التي عكست التحولات السياسية والاقتصادية في البلاد. ومن الصعب تحديد تاريخ بدء الدعم الحكومي بدقة، لكن ما نعرفه أنه كان موجوداً منذ نالت سورية استقلالها عن الاحتلال الفرنسي عام 1946، وفي أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، شهدت سورية توسعاً ملحوظاً في سياسات الدعم الحكومي، حيث سعت الحكومات السورية إلى التركيز على دعم المواد الأساسية مثل الخبز والمحروقات، بالإضافة إلى تعزيز الخدمات الصحية والتعليمية.

ومع مطلع الألفية الثانية، سرّعت الحكومة السورية العمليات الرامية إلى إلغاء الدعم التدريجي، مبررة ذلك بضرورة “لإصلاح الاقتصادي” والتكيف مع المتغيرات العالمية. ولكن مع انفجار الأزمة السورية في عام 2011، تسارعت هذه العمليات بشكل أكبر، حيث اتبعت الحكومة استراتيجيات وأساليب مختلفة لتقليص الدعم الاجتماعي، تحت شعارات زائفة مثل “عقلنة الدعم” و”توجيه الدعم لمستحقيه” وغيرها من المصطلحات التضليلية التي يكثر استخدامها في وصفات صندوق النقد الدولي لتجميل عمليات انسحاب الدولة من لعب دورها الاجتماعي.

وأحدث هذه التوجهات اليوم هو إعلان الحكومة السورية مؤخراً نيتها التحول نحو “الدعم النقدي” بدلاً من الدعم الاستهلاكي.

مفتاحان رئيسيان لفهم مسألة الدعم

  • يشير الدعم الحكومي في جوهره إلى وجود خلل في التوازن بين الأجور التي يتقاضاها الأفراد وتكاليف معيشتهم الضرورية التي تضمن استمرار قدرتهم على العمل. وبناءً عليه، تنبع فكرة الدعم من اعتراف ضمني من الدولة بأن الأجور التي تقدمها للعاملين لا تكفي لتغطية تكاليف الحياة الضرورية. لذلك، تتدخل الدولة لتقليص هذه الفجوة أو جزء منها على الأقل.
  • يعكس الدعم خللاً في توزيع الدخل الوطني بين الأجور والأرباح. ففي سورية، وبحسب “الاستعراض الوطني الطوعي الثاني عن أهداف التنمية المستدامة” الصادر عن هيئة التخطيط والتعاون الدولي الحكومية، بلغت حصة قوة العمل من الناتج المحلي الإجمالي أقل من 14.9% في عام 2021، مما يعني أن حصة أصحاب الأرباح تتجاوز 85% من الناتج المحلي!

ما هو الدعم الاستهلاكي والدعم النقدي؟

نظرياً، كان الدعم القائم في سورية يصنف كدعم استهلاكي، حيث تُخصص الحكومة جزءاً من موازنتها العامة السنوية لتخفيض أسعار سلع وخدمات معينة. ومع ذلك، كانت تتناقص قيمة هذا الدعم سنوياً، حيث انخفضت تقديرات فاتورة الدعم من حوالي 5.5 مليار دولار في عام 2012 إلى أقل من 0.5 مليار دولار في عام 2024. وكانت الضربة الأكبر لنظام الدعم المتآكل قد حدثت في بداية عام 2022، عندما تم رفع الدعم عن نحو 3 ملايين مواطن سوري (على الأقل).

والتحول اليوم إلى الدعم النقدي يعني عملياً توقف الدولة عن التزامها بالحفاظ على أسعار سلع محددة عند مستويات معينة، والانتقال نحو تحرير أسعار السلع في سورية. وبطبيعة الحال، سيؤدي هذا التوجه إلى ارتفاع كبير في الأسعار، مقابل تقديم الدولة مبلغاً مالياً يُفترض أن يكون “تعويضاً” للأجر.

عودة إلى جوهر الدعم

لم تكن فكرة الدعم الاجتماعي منذ نشوئها تهدف إلى تأمين الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة فقط، بل محاولة لتلبية مستوى المعيشة الضروري للمواطن. 

على سبيل المثال، في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، كان متوسط إيجار شقة في العاصمة دمشق يمثل نسبة تتراوح بين (20% إلى 38%) من الحد الأدنى الرسمي للأجور في تلك الفترة، ومع ذلك كانت الأجور مدعومة. أما اليوم، فإن إيجار أي شقة في العشوائيات يعادل في أفضل الحالات ضعفين إلى ثلاثة أضعاف الحد الأدنى الرسمي للأجور كاملاً (يبلغ الحد الأدنى الرسمي للأجور 278,910 ليرة سورية، أي أقل من 19$ في الشهر).

الفكرة الأساسية من الدعم إذن هي تعويض الأجر حتى يتناسب مع مستوى المعيشة الضروري. والآن، مع إعلان التوجه الحكومي لإلغاء دعم المواد الأساسية والانتقال نحو “الدعم النقدي”، فإن قبول الناس بهذا الدعم النقدي يعتمد على اعتراف رسمي بمستوى المعيشة الضروري، وإلا فلن يعترف به أحد. ليس فقط لأنه لن يعالج فقر الأجور في سورية، بل لأنه سيخفض القيمة الحقيقية لهذه الأجور وقدرتها الشرائية وسيزيد من فقرها فقراً. 

وإذا كان دعم المواد الأساسية تاريخياً يُعد تعويضاً عن فقر الأجور، فإن إلغاء الدعم اليوم يجب أن يترافق مع إلغاء فقر الأجور. وفقر الأجور لا يمكن إلغاؤه إلّا بالاعتراف الرسمي بمستوى المعيشة الضروري للمواطن. 

والدعم النقدي الذي تتحدث عنه الحكومة اليوم لن يكون له قيمة إذا كان هو والأجر معاً لا يغطيان مستوى المعيشة الضروري (للمقارنة، يكفي أن نذكر أنه وفق آخر حساب لمؤشر جريدة “قاسيون” لتكاليف المعيشة عن أشهر نيسان/ أبريل وأيار/ مايو وحزيران/ يونيو من العام 2024، فإن الحد الأدنى للأجور في البلاد لا يشكل سوى 2.1% من الحد الأدنى لتكاليف معيشة الأسرة المكونة من 5 أفراد والذي يبلغ 8,148,347 ليرة سورية أي أكثر من 550 دولار شهرياً).

حجتان واهيتان: الفساد وعجز الموازنة

في جميع العمليات التي يقودها أصحاب القرار في البلاد للمضي قدماً في مسيرة إلغاء الدعم، بما في ذلك تحويله إلى “دعم نقدي” اليوم، يتذرعون دائماً بذريعتين: أولاً، ارتفاع تكاليف الدعم الذي يعزز من عجز الموازنة، وثانياً، ضرورة “إيجاد أشكال أخرى” للدعم بهدف وضع حد للفساد المستشري في منظومة الدعم. 

وفي الحالتين، يتجاهل هؤلاء مسألتين أساسيتين: أولاً، أن الفساد يبدأ من المرحلة التي يتم فيها احتساب تكلفة المواد المدعومة، والتي يتم تضخيمها بشكل غير مبرر حتى بتنا نرى تصريحات متناقضة للمسؤولين حول تكلفة دعم بعض المواد وبفروقات شاسعة بين تصريح وآخر. 

وثانياً، أن العديد من الأصوات السورية أشارت منذ وقتٍ بعيد إلى أن تكاليف الدعم الاجتماعي يمكن تمويلها من مصادر إيرادات حقيقية غير تضخمية، وأن هذا ممكن في حال وجود قرار وإرادة سياسية لذلك، لكن رغم ذلك، ظل المسؤولون متمسكين بالذريعة ذاتها متجاهلين تلك الأصوات. هنا يمكننا ذكر مثال واحد من عشرات الأمثلة وهو التهرب الضريبي الذي خصصنا له العديد من المقالات في جريدة قاسيون، ووضحنا كيف أن الضرائب لوحدها (لو جرى ضم قيمة التهرب الضريبي إليها) كانت كافية لتغطية 147% من تكاليف الدعم الاجتماعي في 2010، و143% في 2019، و115% في 2022.

نسبة الضرائب إلى إجمالي الخدمات الاجتماعية بعد ضم قيمة التهرب الضريبي إليها (%)

Author

  • أحمد حسن

    محرر القسم الاقتصادي في جريدة قاسيون الناطقة باسم حزب الإرادة الشعبية/ سورية

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

حرب السودان … مهددات التقسيم

يبدو أن هناك مهددات باتت واضحة لتقسيم السودان أسفرت عنها حرب الجنرالات في السودان التي انطلقت في الخامس عشر من إبريل/ نيسان من العام 2023، والتي تكاد تكمل عامها الثاني.

بين مطرقة نتنياهو وسندّان ترامب: “اتفاقية وقف الأعمال العدوانية” خارج التطبيق

من الواجب رفع الصوت في هذه المرحلة المصيرية والدعوة إلى تكاتف القوى السياسية والشعبية التي لا تزال تعتبر الكيان الصهيوني عدواً لنا. فالمصلحة الوطنية العليا تقتضي، اليوم وأكثر من أي وقت مضى، العمل على استعادة السيادة الحقيقية على أرض الوطن ومياهه وثرواته

‏الكونغو الديمقراطية على حافة الانهيار: تصعيد الحروب بالوكالة وتحولات الخريطة السياسية

سيطرة المتمردين على غونا قد تؤدي إلى انهيار الحكومة المركزية في بعض المناطق، ما قد يخلق فراغاً سياسياً يسمح بتوسع الجماعات المسلحة الأخرى في مناطق أخرى من البلاد.

مستقبل الصراع اليمني – الإسرائيلي

باتت “إسرائيل” ترى في اليمن تهديداً استراتيجياً طويل الأمد، وتقدر أنها في حرب مفتوحة مع اليمن لا تنتهي بمجرد التوصل لاتفاق إطلاق نار مع المقاومة في غزة الذي تحقق مؤخراً.