عند تناول العلاقات العراقية – الكويتية، فإنّ الاهتمام ينصرف غالباً نحو المشكلات الحدودية والأزمات السياسية والأعمال الحربية، ولكني هنا سأركّز على البعد الثقافي التاريخي للعلاقات بين البلدين الجارين والشعبين الشقيقين، واخترت كنقطة بداية أواسط عقد عشرينات القرن العشرين لارتباطها من جهة بتأسيس الدولة العراقية الحديثة، ولارتباطها من جهة أخرى بانطلاق الحركات الإصلاحية في الكويت في ذلك الوقت، حيث سأتوقف أمام عشر محطات ثقافية تاريخية عراقية – كويتية تبرز أهمية الروابط الثقافية وتنوعها، وهي روابط لم تكن سطحية أو عابرة، وإنما كانت عميقة وواسعة، والأهم أنها كانت علاقات جدلية ذات تأثير تفاعلي متبادل، وكانت تستند إلى أسس موضوعية مادية ملموسة تتمثل في الجوار الجغرافي والصلات التاريخية والروابط الاقتصادية خصوصاً قبل النفط بين العراق والكويت… وبالطبع فقد شهدت هذه العلاقات الثقافية وغيرها ما شهدته من تبدّلات وتناقضات وانقطاعات، وتأثرت سلباً أيما أثر وتأثير جراء الصراعات والأزمات السياسية والحدودية، وكان أشدها خطورة مغامرة نظام صدام في العام ١٩٩٠ بغزو الكويت واحتلالها، وما نجم عنها من تداعيات، بل كوارث على البلدين والمنطقة.
فما هي المحطات الثقافية التاريخية العشر، التي سنتوقف عندها؟
المحطة الأولى: المعلمون العراقيون في الكويت:
بحكم اعتبارات عديدة يقع ضمنها مستوى التطور الثقافي النسبي في العراق، وتحديداً في الحواضر، فمن الطبيعي أن تتم الاستعانة بالمعلمين العراقيين للنهوض بمهام التعليم في الكويت.
ومن أوائل المعلمين الذين وفدوا إلى الكويت من البصرة السيد عبد الجليل الطباطبائي، حيث استوطن الكويت في العام 1836 وتبعه في المهمة ذاتها ابنه السيد أحمد، وبعدها ومع بدء التعليم شبه النظامي بافتتاح المدرسة المباركية في العام 1911 والأحمدية في العام 1921، توافد عدد من المعلمين من العراق، بينهم الشيخ محمد بن نوري من الموصل، والشيخ محمود الهيتي، فيما تولى محمد العادلي وهو من النجف نظارة المدرسة الوطنية الجعفرية التي افتتحت في العام 1939 واستمر كذلك حتى العام 1944.
نازك الملائكة
إلا أنّ التطور الأهم حدث بعد تأسيس جامعة الكويت في العام 1966، حيث شارك عدد من أبرز القامات الأكاديمية العراقية في انطلاقتها كأعضاء في هيئة التدريس، وتولى بعضهم مناصب العمادة في عدد من كليات الجامعة، وبينهم: رائدة الشعر الحديث د. نازك الملائكة، والفيلسوف العراقي د. حسام الآلوسي، والجغرافي البارز د. محمد رشيد الفيل، والتربوي الكبير د. محمد جواد رضا، د. وديعة طه النجم، والشاعر د. عبد الواحد لؤلؤة.
محمد جواد رضا
وقد تولى الدكتور محمد جواد رضا عمادة كلية الآداب والتربية بين العامين 1975 و1978، فيما تولت الدكتورة وديعة طه النجم عمادة كلية البنات الجامعية لفترة ليست قصيرة.
وألّف الأساتذة العراقيون في جامعة الكويت العديد من الكتب والدراسات العلمية خلال إقامتهم في الكويت، فقد نشر د. حسام الآلوسي كتابه “من الميثولوجيا إلى الفلسفة أو بواكير الفلسفة قبل طاليس” في الكويت عام 1973، فيما نشر د. محمد رشيد الفيل، وهو من الموصل وأحد رواد المدرسة الجغرافية العراقية، العديد من كتبه في الكويت وبينها: “الحدود العراقية – الكويتية”، “سكان الكويت”، و”الجغرافيا التاريخية للكويت”، كما نشرت د. وديعة طه النجم كتباً عديدة خلال عملها في الكويت من بينها: “الشعر في الحاضرة العباسية”، “الجاحظ والنقد الأدبي”، و”القصص والقصاص في الأدب الإسلامي”.
أما الدكتور محمد جواد رضا فقد كان شديد التفاعل مع المجتمع الكويتي وقضاياه، وله ثلاثة كتب مهمة أولها “معركة الاختلاط في جامعة الكويت – دراسة في الفكر الاجتماعي الكويتي” الذي نشرته شركة الربيعان للنشر والتوزيع في الكويت عام 1984، والكتاب الآخر هو “صراع الدولة والقبيلة في الخليج العربي” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام 1992، والثالث هو كتاب “الخروج من زمن البراءة: التجربة الكويتية 1961-1991″، الصادر عن دار قرطاس في الكويت عام 2000، الذي رصد فيه ما شهده المجتمع الكويتي من تحولات عاصفة وأزمات محتدمة… بالإضافة إلى ما ألّفه د. محمد جواد رضا من كتب متصلة بتخصصه الأكاديمي في الشأن التربوي، وهي كثيرة، بينها: “التربية والتبدل الاجتماعي في الكويت والخليج العربي” الصادر عن وكالة المطبوعات في الكويت عام 1975، و”الإصلاح الجامعي في الخليج العربي” الصادر عن شركة الربيعان في الكويت عام 1984.
فيما تعرّض الفيلسوف العراقي د. حسام الآلوسي في بداية عمله بجامعة الكويت إلى هجمة تكفير من مجلة “المجتمع” التي تصدرها “جمعية الإصلاح الاجتماعي” المحسوبة على تيار الإخوان المسلمين في الكويت اتهمته فيها بالعداء للدين الإسلامي، وهذا ما نجده في العدد 65 من المجلة الصادر في 22 يونيو/ حزيران 1971 تحت عنوان “كافرون في جامعة الكويت” ورد وزير التربية الرئيس الأعلى لجامعة الكويت جاسم المرزوق على اتهامات مجلة “المجتمع” المنشور في العدد 67 من المجلة في العدد 67 الصادر في 6 يوليو/ تموز 1971.
المحطة الثانية: البعثات التعليمية الطلابية الكويتية إلى العراق:
غادرت أولى البعثات التعليمية الكويت للدراسة في العراق عام 1924 مع بداية تشكّل الدولة العراقية الحديثة، وكانت مكونة من سبعة طلاب للدراسة في “الكلية الأعظمية” وهؤلاء الطلاب هم: الشيخ فهد السالم الصباح، أحمد بن عمر العلي، عبد الله عبد اللطيف العبد الجليل، عبدالكريم محمد البدر، محمود عبد الرزاق الدوسري، خالد بن سليمان العدساني، وسليمان العنيزي.
وكانت مخصصات كل طالب من أفراد البعثة خمس روبيات هندية شهرياً لمصروفاتهم ومواصلاتهم ودفاترها، وعادت البعثة إلى الكويت في العام 1926.
وفي العام 1938 وبمبادرة من مجلس المعارف في الكويت، وهو مجلس منتخب، وبعد تنفيذ اقتراح زيادة الضريبة الجمركية بنسبة نصف في المئة لتمويل التعليم، جرى إرسال بعثة تعليمية للدراسة في “دار المعلمين الريفية” ببغداد ضمت خمسة طلاب هم: صالح عبد الملك الصالح، خالد عبد اللطيف المسلم، بدر السيد رجب الرفاعي، عبد العزيز سليمان الدوسري، وعبد الله عبد اللطيف المطوع. وعادت البعثة إلى الكويت في العام 1942.
خالد عبد اللطيف المسلم أحد طلبة الكويت في العراق نهاية ثلاثينات القرن العشرين
فيما درس في كلية الحقوق ببغداد عام 1939 جاسم حمد الصقر وذلك على النفقة الخاصة لأهله، ولعله أول خريج جامعي كويتي.
ومن اللافت للاهتمام أنّ الطلبة الكويتيين المبعوثين إلى العراق وكذلك بعض الطلبة الكويتيين الذين كانوا يدرسون هناك على نفقتهم الخاصة، قد شاركوا في دعم حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 وهذا ما يشير إليه عبد العزيز سليمان الدوسري في حديثه المنشور ضمن كتاب “رجال في تاريخ الكويت” الجزء الثالث، حيث يقول: “انخرطنا في التدريبات العسكرية ضمن صفوف الطلبة، ووزعت علينا ملابس عسكري، بل وشاركنا كطلاب بعثة كويتية في العديد من المناسبات الوطنية بالعراق في ذلك الوقت – لا تتعجب… فقد كانت الروح القومية كبيرة في نفوسنا والحماس الوطني كان يدفعنا إلى هذه التدريبات”… ويضيف “بل شاركنا بالدفاع المدني”… و”كانت مشاركتنا من خلال نقل العتاد والمؤن من المخازن إلى جهات أخرى معينة ومحددة لنا، وبقينا نؤدي هذا الدور لمدة شهر تقريباً”.
أما أحمد السيد عمر، الذي لم يكن ضمن طلاب البعثة وإنما كان يدرس في العراق على نفقته الخاصة، فيشير في حديثه المنشور ضمن الكتاب ذاته إلى اعتقاله في العراق هو ومجموعة من زملائه الطلبة المشاركين في دعم حركة رشيد عالي الكيلاني لمدة خمسة أشهر بعد فشل تلك الحركة.
المحطة الثالثة: الصراع حول تغيير مناهج التعليم العراقية في الكويت:
يشير كتاب “تاريخ التعليم في دولة الكويت: دراسة توثيقية، المجلد الثاني، الصادر عن مركز البحوث والدراسات الكويتية، 2002، ص 142” إلى أنه خلال مسيرة التعليم في الكويت كان المنهج العراقي وبعض من المنهج الفلسطيني هو المنهج التعليم المطبق في الكويت بين العامين 1936 و1942، إلا أنّه بدءاً من العام 1943 تم التخلي عن المنهجين العراقي والفلسطيني للتعليم في الكويت وتطبيق المنهج التعليمي المصري والاعتماد على الكتب المدرسية المصرية، وتحت ضغط من المستشار البريطاني “وكلن”، وهذا ما أدى إلى اندلاع موجة استياء في صفوف المعلمين والطلبة الكويتيين، بل امتدت موجة الاستياء على تبديل المنهج الدراسي من العراقي إلى المصري إلى صفوف المثقفين الكويتيين عامة، وبرزت حركة احتجاجية كان من أبرز المشاركين فيها: عبد الله زكريا الأنصاري، حمود المقهوي، خالد المسلم، صالح الشهاب، فهد الدويري، عبد الله عبد اللطيف المطوع، سعود الخرجي، عبد الوهاب العدواني، عبد العزيز العنجري، صالح عبد الملك الصالح، وعبد العزيز الدوسري، الذين عقدوا لقاءات في ديوان الأنصاري، وقاموا بكتابة منشورات كانت تلقى ليلاً في الأسواق ليطلع عليها المواطنون في الصباح، وعندما رصدت السلطات تلك الحركة اعتقلت قادتها وتعرضوا للضرب المبرح في إدارة المعارف بمبنى المدرسة المباركية، ثم نُقلوا إلى سجن “بهيتة” وأمضوا فيه نحو أسبوع ، إلى أن تدخل الشيخ يوسف بن عيسى القناعي لدى الشيخ أحمد الجابر فتم الأفراج عنهم… وخلال فترة اعتقالهم أضرب طلبة المدرسة المباركية عن الدراسة (لمزيد من التفاصيل راجع مقالة أحمد الديين عن عبدالله زكريا الأنصاري “الأستاذ… مناضلاً سياسياً” المنشورة في الكتاب الأول الصادر عن مجلة “الكويت” في مايو 2005، وحديث عبد العزيز سليمان الدوسري في كتاب “رجال في تاريخ الكويت” الجزء الثالث، 2000، للأستاذ يوسف الشهاب، ص. ص 255-256) وكذلك حديث فهد الدويري في الكتاب نفسه ص. ص 423-429).
الأديب الأستاذ عبد الله زكريا الأنصاري أحد قادة حركة الاحتجاج على تغيير المناهج في الكويت
المحطة الرابعة: دور د. متى عقراوي المدير الأسبق لجامعة بغداد في تطوير التعليم بالكويت:
ضمن المحاولات الرائدة لتطوير التعليم في الكويت في العام 1954 بعدما تولى الأستاذ عبد العزيز حسين إدارة المعارف، وهو أحد رواد التنوير في الكويت، فقد تمت دعوة اثنين من الخبراء التربويين العرب البارزين إلى الكويت لدراسة وضع التعليم في البلاد وتقديم اقتراحات لتطويره، وهما د. متى عقرواي مدير جامعة بغداد، والأستاذ إسماعيل القباني من مصر، حيث أمضيا فترة من الوقت في الكويت، وأنجزا تقريرهما الشهير، الذي حمل عنوان “تقرير عن التعليم في الكويت” المؤرخ في 16 مارس/ آذار من العام 1955، وهو يقع في 122 صفحة، وتمت طباعته في مطابع “دار الكتاب العربي بمصر – محمد حلمي المنياوي”، ويعد التقرير أحد أهم الوثائق التربوية في تاريخ التعليم بالكويت.
متى عقراوي مدير جامعة بغداد في الخمسينات
إذ اقترح الخبيران التربويان عقراوي وقباني ثمانية أهداف للتعليم في الكويت، من أبرزها: إزالة الأمية عن المجتمع، وبث روح المواطنة للكويت خاصة وللعروبة عامة والروح القومية، وبث روح الديمقراطية وتعودها في العمل، وتنمية مواهب الإبداع والابتكار وتشجيع التعبير عنها بالفن، وكل ما من شأنه إثراء الحياة الثقافية للفرد والمجتمع… كما حدد الخبيران عقرواي وقباني ثلاثة مبادئ للتعليم في الكويت، وهي: إلزامية التعليم حتى الرابعة عشرة، ولا فرق بين كويتي وغير كويتي، وأن يكون مجانياً، القيام بحملة لمحو الأمية، إتاحة الفرصة لجميع المواطنين في الكويت الراغبين في الاستزادة من التعليم.
كما اقترح الخبيران التربويان عقراوي وقباني وضع ثلاثة مراحل للسلم التعليمي في الكويت: ابتدائية ومتوسطة وثانوية، مدة كل منها أربع سنوات.
كما اقترحا أن تنقسم الدراسة في المرحلة الثانوية إلى فروع أكاديمية أدبية وعلمية وصناعية وإعداد المعلمين، بالإضافة إلى اقتراحهما افتتاح مرحلة لرياض الأطفال بين الرابعة والسادسة.
وبالفعل فقد تم تبني تقرير د. متى عقراوي وإسماعيل القباني وتطبيقه على أرض الواقع، ما أحدث نقلة هامة في مسيرة التعليم في الكويت.
المحطة الخامسة: التاريخ المشترك للطباعة:
تأخر دخول الطباعة إلى الكويت قياساً ببقية البلدان العربية، بل قياساً أيضاً إلى بعض بلدان الخليج والجزيرة العربية مثل اليمن، التي أنشئت فيها أول مطبعة في العام 1877 ومكة المكرمة التي أنشئت فيها أول مطبعة في 1883، والبحرين 1939، ولذلك فقد كانت الكتب التي ألّفها كويتيون تطبع خارج الكويت، ومن بين ذلك كانت تطبع في العراق، فكتاب “المذكرة الفقهية في الأحكام الشرعية” للشيخ يوسف بن عيسى القناعي طبع في مطبعة الفرات ببغداد في عام 1925، وكذلك كتاب “فتح الرحمن في التحذير من شرب الدخان” للشيخ أحمد بن الشيخ عبد الله العوضي الشافعي الكويتي طبع في بغداد عام 1926، وكذلك الطبعة الأولى من كتاب “تاريخ الكويت” للشيخ عبد العزيز الرشيد، وهو أول كتاب لمؤرخ كويتي عن تاريخ الكويت، تمت طباعته في “المطبعة العصرية” في بغداد عام 1926.
بينما تعود المحاولة الأولى لتأسيس أول مطبعة في الكويت إلى العام 1928 لطباعة مجلة كان مقرراً أن تصدر وتحمل اسم “الصباح”، ولكن ذلك المشروع لم يتحقق على أرض الواقع، مع أنّ الباحث د. يعقوب الحجي يشير في كتابه “عبد العزيز الرشيد – سيرة حياته” إلى أنه “كانت هناك بالفعل مطبعة اشتراها الشيخ أحمد الجابر من قس أمريكي للأعمال الرسمية” ولكنه يوضح أنّ تلك المطبعة اقتصرت على طباعة ما تحتاج إليه الحكومة، بالإضافة إلى آلة طباعة ستانسل للمدرسة المباركية، وهناك إشارات غير واضحة في المصادر التاريخية بأن تلك المطبعة كانت حجرية!
ثم بعد مضي نحو عقدين من الزمان وتحديداً في العام 1947 جلب اثنان من المثقفين الكويتيين البارزين، وهما أحمد البشر الرومي وحمود المقهوي، من العراق أول مطبعة إلى الكويت، حيث اشترياها في بغداد وشحناها إلى الكويت، ويشير فؤاد المقهوي في مقالة له منشورة في جريدة “الوطن” الكويتية العدد الصادر في 13 يوليو/ تموز 2005 إلى أنّ حمود المقهوي استعان خلال سفره إلى بغداد بصديقه الناشر العراقي قاسم الرجب للبحث عن مطبعة، فأخبره أن مطبعة “دباس” معروضة للبيع، فاتفق المقهوي والبشر مع صاحبها على شرائها.
والطريف في الأمر أنّ تلك المطبعة كانت بالأساس مطبعة الحزب الشيوعي العراقي أو لعلها هي المطبعة التي كان الحزب الشيوعي العراقي يطبع فيها بعض منشوراته، حيث يروي الأستاذ إبراهيم المقهوي، وهو شقيق حمود المقهوي الذي اشترى المطبعة مع أحمد البشر الرومي، قصة تلك المطبعة، التي باعها إليهما شخص يهودي وتم الاتفاق على أن ينقلها من بغداد إلى البصرة ليتمكنا هما من نقلها إلى الكويت، ويقول: “بالفعل نقلت إلى البصرة، لكن طرأ أمر فيه مساءلة للبائع قد تصل إلى توجيه اتهام له بارتكاب جريمة وبالتالي إنزال أقصى العقوبة به… كانت المطبعة صغيرة الحجم، ولذلك فقد كانت تستخدم لطباعة المنشورات الخاصة بالشيوعيين العراقيين في ذلك الوقت، ومعنى ذلك أن اختفاءها في بغداد وظهورها في البصرة أمر يدعو إلى علامة استفهام بالنسبة للحكومة العراقية في تلك الفترة خاصة وإن الشيوعيين كان لهم موقف يعارض موقف حكومتهم… كان الأمر صعباً لكن الله سهل الطريق وأحضرت الماكينة من البصرة إلى الكويت” (راجع حديث إبراهيم المقهوي المنشور ضمن كتاب “رجال في تاريخ الكويت” الجزء الرابع، الصادر في 2007 ص. ص 28-33).
المحطة السادسة: الصحف والمجلات العراقية – الكويتية المشتركة:
هناك تاريخ لما يمكن أن نسميه الصحافة العراقية – الكويتية المشتركة يمثّل محطة مهمة لا بد من التوقف أمامها، حيث يورد د. خليفة الوقيان في كتابه “الثقافة في الكويت”، الطبعة الرابعة، أكتوبر 2020 ص. ص 83-85 مستنداً إلى مقال للباحث في التاريخ الكويتي الأستاذ يعقوب يوسف الإبراهيم منشور في جريدة “القبس” الكويتية في عددها الصادر في 11 ديسمبر/ كانون الأول 2003 وكذلك إلى ما كتبه سامي رفائيل بطي نقلاً عن والده في كتاب “صحافة العراق” أن الرعيل الأول من الصحافيين والأدباء الكويتيين ساهم في صحافة البصرة، فقد أصدر السيد عبد الوهاب الطبطبائي جريدة “الدستور” عام 1912 بعد أن اشترى امتيازها من الأستاذ عبد الله الزهير، وأعقبها بجريدة “صدى الدستور”، التي توقفت عن الصدور عند احتلال البريطانيين البصرة، وأصدر السيد هاشم الرفاعي جريدة “البصرة” في فبراير/ شباط 1934 واستمرت بالصدور إلى تاريخ احتجابها في يوليو/ تموز 1937، كما ساهم جاسم حمد الصقر بتأسيس دار نشر وطباعة أصدرت جريدة “الناس” في فبراير 1947… هذا ناهيك عن كتابة الصحافيين والكتاب الكويتيين في الصحف والمجلات العراقية وبينهم إلى جانب السيد عبد الوهاب الطبطبائي والسيد هاشم أحمد الرفاعي كل من الشيخ عبد العزيز الرشيد، خالد سليمان العدساني، محمد البراك، عبدالله الجوعان، محمد السيد يوسف الرفاعي، أحمد السيد عمر، وحمد موسى الفارس.
مجلة الكويت و”العراقي”
ومن بين تلك الصحف والمجلات العراقية الكويتية المشتركة مجلة تحمل اسماً طريفاً هو “الكويت والعراقي”، فهو ليس “الكويت والعراق” ولا “الكويتي والعراقي” وإنما اسم المجلة “الكويت والعراقي”، وهي مجلة مشتركة أصدرها في أندونيسيا الشيخ عبد العزيز الرشيد صاحب مجلة “الكويت”، التي كانت أول مجلة كويتية وصدرت أعدادها بين العامين 1928 و1930، ومعه زميله يونس بحري الملقب بالسائح العراقي، وهو شخصية مثيرة، وقد استمدت المجلة اسمها من مجلة “الكويت” ومن لقب يونس بحري “السائح العراقي” فأصبحت “الكويت والعراقي”.
وتعرّف المجلة نفسها بأنها “مجلة دينية أخلاقية تاريخية مصورة لصاحبيها عبد العزيز الرشيد. بحري “السائح العراقي” تصدر غرة كل شهر عربي، حيث صدر العدد الأول منها في جمادى الأولى من العام 1350 هجري، سبتمبر/ أيلول 1931، وربما صدرت منها عشرة أعداد.
(للمزيد من التفاصيل عن مجلة “الكويت والعراقي” راجع كتاب “الشيخ عبد العزيز الرشيد: سيرة حياته، د. يعقوب يوسف الحجي، مركز البحوث والدراسات الكويتية، الكويت 1993 ص. ص 314- 426).
المحطة السابعة: الصراع حول مداخلة د. صلاح خالص في الكويت عام ١٩٥٨:
شهدت الكويت في الفترة بين 20 و28 ديسمبر/ كانون الأول عام 1958 انعقاد الدورة الرابعة لاتحاد الأدباء العرب، وكان موضوعا المؤتمر: بحث نظري هو “البطولة في الأدب العربي” وبحث عملي حول قضايا الكتاب العربي، وشارك في المؤتمر وفود من تسع عشرة دولة عربية.
من المؤتمر الرابع لاتحاد الأدباء العرب في الكويت 1958
ولكن المؤتمر تحول إلى ساحة صراع حول قضايا فكرية وسياسية على خلفية الصراع الذي كان محتدماً في البلاد العربية بين الاتجاهين القومي العربي واليساري، في ظل التأجيج الإمبريالي حينذاك للعداء للشيوعية، الذي انساقت نحوه مع كل أسف تيارات وشخصيات وطنية وأدى إلى انقسام حاد في صفوف حركة التحرر الوطني العربية، وخصوصاً بعد الخلاف بين جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم.
وتفجّر الصراع في المؤتمر بعد مداخلة عضو الوفد العراقي د. صلاح خالص، التي حملت عنوان “حول البطولة في الأدب العربي بعد ظهور الإسلام” وتطرقت إلى حركة القرامطة من بين ما تطرقت إليه، عندما وصفها بالتقدمية.
د. صلاح خالص. والضجة التي أثارتها مداخلته في الكويت عام 1958
وكان الوفد العراقي برئاسة الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، الذي كان رئيساً لاتحاد أدباء العراق بعد ثورة 14 تموز، ويذكر الجواهري في الفصل الثالث من الجزء الثاني من كتابه “مذكراتي” المعنون “ضجة في الكويت” وقائع ذلك المؤتمر وما ثار فيه من صراع، وموجة العداء الحادة للشيوعية والشيوعيين، التي سيطرت على المؤتمر، ويتحدث عن قيام عضو وفد الجمهورية العربية المتحدة، التي كانت تضم مصر وسوريا ذلك الحين محمد حيدر بالرد على مداخلة د. صلاح خالص، حيث يقول “فأطال وأطال أيضاً وبما لا يقل عن الغلظة، بل التهجم في رده إلى أن نفد صبري ودققت على الطاولة مطالباً إياه بإنهاء كلمته إلا أنه بعناد قد يكون مدبراً أو طبيعياً لست أدري استمر في الحديث. دققت على الطاولة ثانية وقلت له: إما أن تكف وتسكت وإما فإن هذه الجلسة ستخرب… وسنسحب من هذه القاعة… فلم يتعظ الرجل. فنهضت… ونهض الوفد العراقي بأكمله معلنين الانسحاب” … ثم يشير الجواهري إلى تدخل رئيس الوفد اللبناني رئيف خوري، الذي طلب من حيدر الاعتذار أو الانسحاب كلنا أيضاً، فاضطر الرجل إلى الاعتذار.
ولكن الصراع الفكري والسياسي، الذي أشعلته مداخلة د. صلاح خالص في مؤتمر الأدباء العرب امتد بعد ذلك في جلسات المؤتمر وأروقته وخارجها.
وحول تلك الواقعة جاء في افتتاحية مجلة “الآداب” البيروتية للأديب سهيل إدريس الصادرة بعد المؤتمر “إنّ الصراع السياسي القائم بين بعض الدول العربية قد تجلى في المؤتمر بشكل لم يكن ينتظر أن يفسح له الأدباء المجال. نحن نؤمن بأن الأدب ليس له أن ينفصل عن السياسة في هذه المرحلة من التاريخ العربي، ولكننا لا نحب له أن ينحدر إلى المهاترة والاستفزاز والتبذل”.
(للاطلاع على نص مداخلة د. صلاح خالص “حول البطولة في الأدب العربي بعد ظهور الإسلام” راجع مجلة “الآداب” العدد الأول يناير/ كانون الثاني 1959، السنة السابعة، ص ص14-17)
المحطة الثامنة: أول معجم للألفاظ الكويتية من تأليف شيخ بغدادي:
زار الكويت في العام 1960 باحث عراقي هو الشيخ جلال الحنفي البغدادي، وشرع خلال فترة قصيرة من الزمن في الإعداد لتأليف معجم للألفاظ الكويتية، وهذا ما حدث، وقد جاء في مقدمة ذلك المعجم على لسان الشيخ البغدادي أنه “في الفترة الواقعة بين أوائل مارس وأوائل تموز من عام 1960 طفقت أدون في الكويت ما استطعت أن أدوّنه من ألفاظ القوم وخطط البلد وبعض ما يتصل بالأنساب والتقاليد وما إلى ذلك من المباحث الشعبية”.
معجم الألفاظ الكويتية من تأليف الشيخ جلال الحنفي البغدادي
ويذكر الشيخ جلال الحنفي البغدادي “كان علي في تلك الأيام القائظة أن أتجوّل كل يوم على قدمي من أول الصباح حتى الظهر، ثم أعيد تجوالي من بعد العصر حتى الثلث الأول من الليل… وكنت خلال ذلك أسأل مَنْ ألقى من الناس عن أسماء ما تقع عليه عيني من المسميات الكثيرة”.
ويعد معجم الألفاظ الكويتية للشيخ جلال الحنفي البغدادي أول معجم لها، وينبّه المؤلف في مقدمة كتابه إلى أنه “لم يسبق لأحد أن وضع معجماً في مثل هذا المعنى، اللهم إلا ما عرض له الأستاذ سيف مرزوق الشملال في كتابه (من تاريخ الكويت) حيث دوّن جمهرة من الأمثال وزمرة ضئيلة من الألفاظ والمفردات”، كما دوّن المؤلف لهجة أهل جزيرة فيلكا، إلا أنّه في المقابل ومن منطلق التواضع العلمي يعترف بنقص معجمه ويبدي في المقدمة أسفه لأنه لم يتمكن من زيارة قرى الكويت وباديتها لتدوين ألفاظها، بحيث يشمل معجمه الألفاظ الكويتية في بيئة البادية، مثلما شمل ألفاظ اللهجة في مدينة الكويت وجزيرة فيلكا.
وقد صدر كتاب “معجم الألفاظ الكويتية – في الخطط واللهجات والبيئة” في العام 1964 وتمت طباعته في مطبعة أسعد ببغداد، وساعدت وزارة التربية والتعليم العراقية على نشره، وتمت طباعة خمسمئة نسخة منه فقط… وبعد كلمة المؤلف في مقدمة الكتاب يورد الكلمات والألفاظ وفق ترتيب الحروف الهجائية، فيما استحدث المؤلف إشارات خاصة لبعض الحروف كما تنطق باللهجة الكويتية، ويقع الكتاب في 424 صفحة، وهو معجم مهم، بل لعله أقرب ما يكون إلى الموسوعة الثقافية التاريخية الاجتماعية الاقتصادية البيئية، ولهذا فهو مصدر رئيسي من مصادر دراسة المجتمع الكويتي.
هناك نموذجان بارزان في التراث الموسيقي والغنائي يمكن القول إنهما مشتركان بين العراق والكويت على نحو أو آخر، أو بدرجة وأخرى.
النموذج الأول يتمثّل في الفنانين الموسيقيين الشقيقين صالح الكويتي وداود الكويتي المولودان من أسرة عزرا بن يعقوب أرزوني، وهي أسرة يهودية كانت مقيمة في الكويت، حيث ولد صالح في العام ١٩٠٨ وداود في العام ١٩١٠، وتتلمذا في صغرهما على يد الموسيقار الكويتي المعروف خالد البكر، وكان صالح عازفاً على آلة الكمان بينما أخوه داود كان يعزف على آلة العود… وفي العام ١٩٢٧ رافقا الفنان الشهير عبد اللطيف الكويتي، وهو من أسرة العبيد الكويتية، في السفر إلى البصرة لتسجيل أسطوانات، ثم انتقل الأخوان الكويتي إلى بغداد في العام ١٩٢٩ وهناك توثقت صلتهم بالفنانين الموسيقيين والمطربين العراقيين، ومن أهم مَنْ تعرف الأخوان عليه رائد المقام العراقي محمد القبنچي، الذي ضمّ الأخوين الكويتي إلى فرقته، وبعدها انطلقت في العراق مسيرتهما الفنيّة الثرية، وقد لحّن صالح الكويتي العديد من الأغاني لأشهر مطربي ومطربات العراق، ويكفينا مثالاً أغاني المطربة العراقية الشهيرة سليمة مراد “گلبك صخر جلمود” و”يا نبعة الريحان”.
صالح الكويتي يعزف الكمان وداود الكويتي يعزف العود
والنموذج الآخر، نموذج عراقي خالص تماماً، وهو المطرب الشهير ناظم الغزالي ذو الصوت الماسي، الذي فقده العراق وفقدته الساحة الغنائية العراقية والعربية مبكراً في العام ١٩٦٣، ولكن المفارقة أنّ مَنْ حفظ أشرطة مصورة لتراثه الغنائي هو تلفزيون الكويت وليس تلفزيون العراق، مع أنّ تلفزيون الكويت تأسس في العام ١٩٦١ وذلك بعد مضي أربع سنوات على تأسيس تلفزيون العراق… حيث سجّل تلفزيون الكويت أشرطة مصوّرة لأغاني الفنان ناظم الغزالي وحفلاته الغنائية التي أقامها خلال وجوده في الكويت في العام ١٩٦٣ قبيل فترة وجيزة من وفاته، بالإضافة إلى تسجيله لقاءً تلفزيونياً نادراً معه، وقد أهدى تلفزيون الكويت تلك الأشرطة المصوّرة إلى تلفزيون العراق لاحقاً.
وبعد ذلك وعلى نحو مقارب ولكن لأسباب مختلفة نجد أن الأمر يتكرر مع ناظم الصغير الفنان فؤاد سالم، الذي لم يسجل له تلفزيون العراق سوى أغنية يتيمة له تم منع بثها بسبب مواقفه السياسية، فيما سجّل له تلفزيون الكويت العديد من أغانيه على أشرطة مصورة وذلك قبل انتشار اليوتيوب، وذلك خلال إقامته في الكويت في النصف الأخير من سبعينات القرن العشرين حتى أواسط الثمانينات.
المحطة العاشرة: أدباء مشتركون:
عرفت الساحتان الأدبيتان في العراق والكويت حالات تستحق التوقف أمامها من الأدباء المشتركين… ولنأخذ هنا مثالين:
الأول: الروائي والقاص إسماعيل فهد إسماعيل، الكويتي الذي نشأ في العراق في بداية حياته وأمضى به ردحاً من شبابه، حيث انطلقت مسيرته الأدبية من العراق عبر روايته الأولى “كانت السماء زرقاء”، وبالتأكيد فإنّ إسماعيل فهد إسماعيل تأثر أيما تأثر بالبيئة الاجتماعية العراقية وبالمحيط الأدبي والنقدي في العراق، وبعدها عند عودته إلى الكويت في النصف الأول من ستينيات القرن العشرين تعاظمت مسيرته الأدبية ولم تنحصر في القصة القصيرة والرواية، بل امتدت إلى الكتابة المسرحية مثل: “النص” و”للحدث بقية (ابن زيدون)”، بالإضافة إلى الكتابات النقدية وكتابة البحوث والدراسات الأدبية مثل: “القصة العربية في الكويت” (١٩٧٧)، والفعل الدرامي ونقيضه” (١٩٧٨)، وأصبح إسماعيل فهد إسماعيل بحق قامة أدبية عربية، بما في ذلك إنتاجه الأدبي، ذلك أنّ هناك العديد من أعماله تتجاوز البيئتين العراقية والكويتية وتنتقل إلى بيئات عربية أخرى مثل روايته “الشياح” عن الحرب الأهلية اللبنانية، وروايته الأخرى “النيل يجري شمالاً”.
إسماعيل فهد إسماعيل في جولة نهرية بشط العرب
وفي الكويت أكمل إسماعيل دراسته الأكاديمية في المعهد العالي للفنون المسرحية، ومن جانب آخر نجده يرعى العديد من الأقلام الأدبية الشابة، ناهيك عن تنظيمه أحد أهم الملتقيات الثقافية النشطة في الكويت، كما شارك “الرفيق” إسماعيل في العمل السياسي من خلال عضويته في “حزب اتحاد الشعب في الكويت” وفي “اللجنة الكويتية للسلم والتضامن” في منتصف سبعينيات القرن العشرين… وعندما تعرضت كوادر الحزب الشيوعي العراقي للملاحقة في العام ١٩٧٨ تولى إسماعيل فهد مهمة تسهيل إقامة وعمل العديد من العراقيين الملاحقين في الكويت أو ترتيب أمور سفرهم إلى الخارج.
زهير الدجيلي
والمثال الآخر زهير الدجيلي، وهو عراقي تماماً، ولكن غالب إبداعه الأدبي والفني الغزير انطلق من الكويت منذ أن انتقل إليها إلى وفاته في العام ٢٠١٦، فقد كان زهير الدجيلي شاعراً غنائياً مبدعاً بما في ذلك الأغنية السياسية، ومؤلفاً للعديد من المسلسلات التلفزيونية والإذاعية، وكان أحد أركان “مؤسسة الخليج للإنتاج البرامجي المشترك” وقد أعدّ الكثير من البرامج الثقافية والتوعوية من بينها البرنامجان الشهيران “افتح يا سمسم” و”سلامتك”، كما كان كاتباً صحافياً مرموقاً نشرت له الصحف والمجلات الكويتية المئات من المقالات والتحليلات التي دافع فيها عن قضايا الشعب العراقي، ناهيك عن الدور المشهود لزهير الدجيلي في تأسيس “لجنة الصداقة الكويتية العراقية” في عقد تسعينات القرن العشرين، التي لعبت دوراً مهماً في تصحيح العلاقة بين الشعبين الشقيقين والبلدين الجارين… وغير هذا فقد كان زهير الدجيلي شخصية اجتماعية محترمة في الكويت، وكانت له علاقاته الواسعة مع الأوساط المختلفة في المجتمع الكويتي، مع شيء من التميّز والحميمية في علاقته مع التقدميين الكويتيين.
***
بعد هذه الوقفات القصيرة والسريعة أمام المحطات الثقافية التاريخية العراقية الكويتية العشر، ربما حقَّ لنا أن نتساءل: ترى، هل يمكن في حال إعادة الاعتبار إلى الصلات الثقافية العراقية الكويتية أن يتم إصلاح حال ما أفسدته السياسة والحروب؟ … وهل تستطيع الروابط الثقافية، إلى جانب عوامل أخرى، أن تسهم في تجاوز ما حدث بحيث تساعد على بناء علاقات سليمة ووثيقة بين البلدين الجارين والشعبين الشقيقين تقوم على أسس حسن الجوار والتعاون وتبادل المنافع والتضامن في مواجهة التحديات المشتركة؟
أجيب: نعم.
وهذه المحاضرة مساهمة متواضعة في هذا المسعى المستحق.
إنَّ الهزيمة التي يتحدثون عنها هي مجرّد خطاب وليست واقعاً، بينما شاهدنا المادي على النصر أننا نستطيع أن نراه لا أن نتخيله، في بنية المقاومة السياسية والعسكرية وحاضنتها الاجتماعية في الساحات وفي المشاهد التاريخية لعودة النازحين إلى شمال غزة.
إنَّ تركز الهجوم على مفهوم الصراع الطبقي، لنفيه بالوهم، هو في أسه سعي لنزع عصب النظرية الماركسية – اللينينية، نظرية التحرر الوطني والثورة، سعي لتشويه الوعي الثوري وحامله الطبقة العاملة حفَّارة قبر النظام الرأسمالي العالمي، لتأبيد علاقات الإنتاج الكولونيالية التبعية.
المقاومة الفلسطينية لم تعد مجرد رد فعل على الاعتداءات المتكررة، بل أصبحت نضالاً شاملاً يرفض الانصياع لأي تسويات تنتقص من الحقوق الوطنية، ويؤكد على ضرورة إنهاء كافة أشكال الاستعمار الاستيطاني وبناء مشروع تحرري وطني شامل.
الشخصية الرئيسية في الرواية هي المرأة الظفارية ”مِثال“، الفتاة الجميلة التي تنتمي لجبال القرا، الحُرّة من أي قيود، العاشقة للطبيعة والقيم الإنسانية العليا كالعدل والمساواة والكرامة. ومن الاسم تتضح رغبة الراوي في الربط الموضوعي بين القدوة والمثال الذي يستحق الاحتذاء وبين المرأة الثائرة.