مهدي عامل الحاضر في زمان هلال بن زيتون ونون حسن حمدان

-+=

ليست الكتابة، في أي حقل من حقول النتاج الإنساني، ترفاً فكرياً وإنْ لبست وجه الترف فإنما تلبسه، بالوهم، في فكر يسعى إلى جعل الكتابة، والنتاج الفكري، فوق الواقع وتناقضاته، ليصور نفسه في نتاجه أنه في موقع “الحياد” وكأنه يحلق في فضاء التجريد، والحياد ليس حياداً إنه موقف عدمي، بامتياز، كما ادعاء اللا أيديولوجية هو موقف أيديولوجي، كلاهما، الحياد واللا أيديولوجية، يقدمان للواقع المسيطر ذرائع تأبيده لتشويه الوعي؛ على الطرف النقيض، أي في الموقع الطبقي النقيض لموقع الطبقة البرجوازية المسيطرة وأيديولوجيتها، الذي هو موقع الطبقة العاملة ونظريتها المادية الثورية، فإن الكتابة، والنتاج الفكري، شكل من أشكال النضال ضد الظلم والاستغلال، وسرقة ثروات شعوب العالَم، ضد الاحتلال. إنها فعل التحام الكلمة / الثقافة الثورية بالممارسة السياسية الثورية في النضال من أجل التحرر الوطني والتحرير، وتحديد الموقع والموقف من القائم واستبداده. مهدي عامل حدَّد مفهوم النضال وأشكاله وشروطه وأداته الأولى  بقوله: “للنضال شروطٌ وأشكالٌ وأدوات. ومن شروطه أن يهتدي بعلم الثورة، أعني بتلك النظرية التي أسّسها ماركس، وأقامت ثورات الشعوب المضطهدة على صحتها البرهانَ، بالملموس التاريخي. ومن أشكاله ما تمارسه قوى المقاومة الوطنية في كفاحها ضد الاحتلال، وضد الفاشية. ومن أدواته الأولى الحزب الثوري، حزب العمال والفلاحين والمثقفين” (عامل مهدي، الثقافة والثورة، حوار ديمقراطي من أجل التغيير، ندوة لبنانية – عربية- عالمية، طرابلس، لبنان، 9-12 كانون الأول/ ديسمبر 1986، دار الفارابي، بيروت، ط 1، ص. 359).

فعل التحام الكلمة الثورية بالممارسة السياسية الثورية وفي النتاج الثقافي والفكري والفلسفي له حضوره الواضح في ديوانَي شعر مهدي عامل، “تقاسيم على الزمان” الذي نشره باسم مستعار هلال بن زيتون، وفي “فضاء النون” الذي نشره باسمه حسن حمدان. 

مهدي عامل حضوره في هلال بن زيتون “تقاسيم على الزمان”، وحسن حمدان “فضاء النون” عبّر من خلالهما عن قلقه، تعبه، وليس العدمية، في كتابة لا تغيب عنها الثورة والحث على وعد التغيير الديمقراطي الجذري. في هذا الحقل نتوقف سريعاً عند حضور مهدي في زمان هلال بن زيتون ونون حسن حمدان.

“تقاسيم على الزمان”:

صدرَ ديوان “تقاسيم على الزمان” من دار الفارابي، باسم هلال بن زيتون، كتبت الراحلة ايفلين حمدان، زوجة حسن حمدان، عن الاسم الموقَع فيه الديوان: “هلال بن زيتون: هذا اللقب ذو السّجع الجزائري يعني حَرْفيته وهو يؤشّر إلى إرادة حسن في تجذير شعره في العربية. وفي أية حال، يحكي أصدقاؤه الشعراء كم كان يحلو له الادعاء بأن هذا الديوان هو صَنَعَة شاعر جزائري” (حمدان ايفلين، رجل في خفين من نار، ترجمة رلى ذبيان، دار الفارابي، بيروت، لا. ط، هامش رقم (35)، ص. 569). 

نقع في “تقاسيم على الزمان” على تمرد هلال بن زيتون على الحاضر وبؤسه ودعوته للثورة عليه وعلى من لا يثور لحقه. 

 “عشرون عاماً ظلَّتِ العينان تبحث في الوجوه

 ترافق الأحياءَ 

موتى 

سائرين بلذة نحو القبور العائمه

زَّينوا الموتَ الذي هم فيهِ

 بالمدن التي تكدّستْ أسوارُها 

عُلواً تراكمَ

ضمَّ ناساً

 أو أثاثاً

 أو جلوداً

 رضِيَتْ بالصمت نطقاً

 واستراحتْ

طالتِ القيلولةُ 

دامتْ

 ظلَّت الأيام تجري في سباتٍ

 في ثباتٍ

 والزمنْ 

واقفاً يجري”.

يُكمل هلال رفض الصمت، يُبشر بالزمن الحامل للطوفان – الثورة، يحث على المضي في زمن الثورة على الرغم من حزنه يقول:

“وأيامي تدور دورتُها الحزينة

 ترفض الزمنَ الذي لم يحمل الطوفانَ

تنتظر الزمن الذي لا بدّ أن يأتي (…).

لا بدّ أن يهوي

 هذا الزمان الذي

 واقفاً يجري

أدركت بالعقل هذا”.

في النص تأكيد هلال أنه “لا بد أن يهوي هذا الزمان الذي واقفاً يجري”، هذا ما أدركه بالعقل في مواجهة جريان زمان الظلم والقهر… وتعبه منه. نجد أن هلال في أوّج تعبه وقلقه، لا يستسلم يعود إلى العقل بمتعة التعب منه، يقول: 

“بُليتُ بالعقلِ

 أشقى منه

 يوقظني كل حينٍ

 يصفع الوهم الذي كالسحر يأسُرُني

 فأفيقُ”.

هلال بن زيتون في أوّج “يأسه” ممَّا رآه من واقع المأساة في عالمنا، لا يستسلم لليأس بل يولِّدُ من رحم المأساة ثورة عليها ومن دماء الشهداء ضد المأساة نجمة للنضال في سبيل التحرر الوطني والتحرير.

 كتبت ايفلين حمدان: “تقاسيم…، تكشّف لعُجَامتك السِّريّة: عزلتك العنيفة، وجعك الأقصى، مأساتك القصوى. لا يَسَع القارئ (…) إلا أن يتقاسم وإياك يأسَك وقنوطك. اليأس الذي يستولي عليك عندما تقف أمام قدر شعب، فإذا بمأساتك تكتسي بعداً تاريخياً، لأنها مأساة الشعب العربي الشهيد (…). وتروح تحتفل بأولئك الذين يموتون اليوم لأجل القضية العربية”. (حمدان ايفلين، رجل في خفين من نار، مرجع سابق، ص. 539). 

هي المأساة التي كتب من رحمها هلال بن زيتون في “تقاسيم على الزمان” الحث على السير في دربها ودرب شهيديها في الشام والسودان: فرج الله الحلو وعبد الخالق محجوب:

 “يطلّ في الوجه الذي بدمائه ارتسمتْ خريطةُ أرضنا وجهين في وجهٍ

تألَّق نجمةً حمراءَ شقّتْ دربنا

إلى رجوع الخصب

درباً واحداً

بالعنف نرسمهُ

بدم الشهيدين في الشام والسودان يجري دافئاً 

كالنهر في العينين منّا

دائماً يبدأ الدربَ الذي فيه نمشي

إلى التقاءٍ طال موعدهُ 

بالعاقر الثكلى التي منها سنولدُ

باليدين نُعيدها أمّاً

ونقطعُ باليدينْ

حبلاً سريّاً

ندفن الأمّ التي منها سنولدُ

والتي منها ستولدُ أمُّنا

العينان في وجهي”. 

“فضاء النون”:

صدرَ ديوان “فضاء النون” عن دار الفارابي عام 1991، كتب فيه حسن حمدان بوضوح تعب مهدي عامل الإنسان وذهب بعيداً في قول صادم افتتح به “فضاء النون”: 

“إنه التاريخ يلعب لعبتي

 ويدي تؤسس للفراغ”. 

حسن حمدان يكمل وصف حال التعب إلى حد المفاجأة:

 “بين الهذْي وبين الصحوِ 

شعاعٌ للفكرِ

 إذا التمعَ

 انخلعَ الفكرُ

فجاءتْ مترنحةً كلماتٌ

 تبلغ مرتبة القولِ

وكل الأقوال هباء”. 

صادم قول حسن حمدان: “كل الأقوال هباء”. 

كَتَبَ حسن عن القلق ووجع الكتابة، لربما نقول معاناته منها:

“يا أيّها القلق اللعين إليكَ عنّي

ليس لي حيْلٌ على وجع الكتابة”.

وعن حال استعداده للسفر الليلَّي، للكتابة يقول حسن:

“رجلٌ

والساعة صفرٌ

طاولةٌ

كومة أفكارٍ

أوراقٌ بيضاءْ

رجلٌ يتهيّأ للسفر الليليِّ

لماذا لا ينهض في مرآة العدم الساطع إلّا وجهي؟

يلتمع سراب في رمل الوقت”.

ولليل في “فضاء النون” توحّد حسن ومهدي، قول حسن وقول مهدي الموقظ الذي يصفع، بالعقل، تعب حسن.

“إني وصيّ الليلِ

ماذا غير هاويةٍ

وتمتمة الجذور؟

لا شيء يأتي

والسماء سقيفة العين التي أطلقتُها

فتكوكبتْ في سرّة اللغة البغيّةِ

تستضيف الموت

في وَلَهِ اكتمال القول

لكن

كلما أيقظتُ عيني 

جاءت الكلمات حبلى بالسراب”

 إلاّ إننا نجد في “فضاء النون” تحفيز العقل لمواجهة القلق والتعب وهباء القول والسراب، التحفيز على عدم الاستسلام:

 “أتأبّط أسئلتي

 وأهاجرُ 

لا مأوى إلاّ مملكة العينِ

 أنا المتعدّد في أقنعتي 

أتوحّد في الليل” 

“ويجيء الفكر كعادته

 ينقر باب الليل

 ويدخل

 يجلس في كرسيٍّ 

يتفقّد أوراق الأمسِ

– دَع الأشياء تقول الأشياء

 ولا تُقحِم ذاتك في مجرى العقلِ”. 

في النص نجد مهدي عامل الذي مأواه العقل (مملكة العين) يعطي لذات حسن الحق في التعب، القلق، ولكنه يعيد الذات إلى حيث يجب أن تكون وإلى حيث يجب أن تواجه تعبها، قلقها، أي يعيدها إلى العقل ويحول بينها وبين إقحام تعبها في مجرى العقل. 

ولبيروت/ سعاد المقاومة، حضورها في شعر حسن حمدان، “فضاء النون”، بيروت المقاوِمة لحصار العدو الصهيوني وعملائه، بيروت المنتصرة على الحصار بصمودها، ومقاومتها للاجتياح الصهيوني وولادة إعلان انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، “جمول”، من قلب بيروت في السادس عشر من أيلول/ سبتمبر العام 1982 وطرده منها مهزوماً. حسن حمدان كتب في “فضاء النون”: 

“لا شيء سوى كالأمس

الشمعة إيّاها

دفتر أيامي

نافذةٌ

والليل نديمٌ للقلب

سعاد تطوّقني وتجودُ

كأني في سرّتها ملك الكونين

نحلّق في فلوات الحلم

نجوب سماوات الشهوة

نخترق حصار الموت

وبين القصف وبين العصف 

يجيء الصبح جميلاً في بيروت

وبيروت تلملم قتلاها

وتقاوم.

يومٌ كالأمس

الفانتوم

النابالم

بوارجهم

وسعاد تمشّط شعر الوقت”

ويكتب حسن حمدان في “فضاء النون” أيضاً عن بيروت والمقاومة:

“بيروت/ سعاد

تعانقنا ضد قنابلهم

وتسلّقنا سفح الخوف

يداً بيدٍ

أتذكّر

فرحٌ في قلبي”.

ما تقدم من إيراد لبعض نصوص “تقاسيم على الزمان” و”فضاء النون” عبارة عن إراءة لحضور المثقف الثوري في الحياة السياسية النضالية، الملتزم قضايا التغيير الجذري والمقاومة وليس التعالي عليها بالوهم، وأن الشعر ليس للشعر بل هو أداة من أدوات النضال، يُعبر عن أن المثقف الثوري إنسان يتعب، يقلق، يفسح المجال أمام التعبير عن هواجسه، ولكنه في التماعة يحوّل التعب، القلق، إلى رافد من روافد الاستمرار في النضال، فيصير معه الشعر والأدب، والفن، والأغنية، والثقافة، والفلسفة، وجميع أشكال النتاج الإنساني، لا انفصال بينها وبين النضال من أجل التغيير ومقاومة الاحتلال، الممارسة السياسية الثورية المنظمة، من أجل “وطن حر وشعب سعيد”. هنا يبرز مفهوم المثقف الثوري وضرورة تجذيره.

 “الشمس في الظلماء بركانٌ

لهيبْ

 والأرض في شوق إلى أصحابها

 إرْجِعْ إلى حيث أنتَ من الزمان وعانقِ

 الجرحَ الذي منهُ

 تنبتُ نجمه

هذه درب الهداية” (هلال بن زيتون، تقاسيم على الزمان).

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

الثّقافة والهويّة العربيّة

هناك شبه اجماع على أنّ الثّقافة مصنوع فنيّ اجتماعيّ أو أداة تكيف متطورة تعدّل في تفاعلها مع وظيفتها الاجتماعيّة المتطورة التي نشأت اجتماعيّاً لأدائها، وتغدو