
في وداع زياد الرحباني …
صحيح أن الفن لا يورث ، لكن زياد ورث الكثير من عبقرية والده الموسيقية ، وأخذ الكثير من طيبة والدته فيروز وأصالتها النقية وحبها للناس
“ورقة من غزة” هي قصة قصيرة من ضمن القصص في مجموعة “أرض البرتقال الحزين” للشهيد غسان كنفاني، الأديب، السياسي، الملتزم قضية الأرض فلسطين، وقضية تحريرها من العدو الصهيوني المحتل لأرض البرتقال والزيتون. غسان كنفاني من أحد رواد الأدب المقاوم للاحتلال، جمع في نتاجه الثقافة والسياسة، فكان نتاجه أداة من أدوات مقاومة العدو الصهيوني، والتعريف بالقضية الفلسطينية.
غسان كنفاني الأديب الثائر حفر عميقاً في جذور المقاومة وأحقيتها في أدبه، وعكس مآسي الشعب الفلسطيني وتمسكه بحقه في أرضه وتحريرها.
غسان كنفاني ولد في 9 نيسان/ أبريل 1936 في عكا، شهد نكبة عام 1948، التي هجر فيها الشعب الفلسطيني من أرضه، وخرج الطفل مع عائلته سيراً على الأقدام إلى مخيمات الشتات في لبنان.
في 8 تموز/ يوليو عام 1972 اغتيل الشهيد غسان كنفاني في بيروت على يد الإجرام الموساد الصهيوني الذي وضع عبوة ناسفة تحت مقعد سيارته فاستشهد مع ابنة شقيقته لميس نجم ابنة الـ 17 عاماً التي كانت معه في السيارة. شارك في جنازة الشهيد غسان كنفاني في بيروت أكثر من 40 ألفاً فكان تشييعه مظاهرة سياسية وطنية.
غسان كنفاني أبدع في تأليف القصص والروايات التي ترجم بعضها إلى لغات أجنبية عديدة، هي بوصلة لكل المقاومين الأحرار على درب تحرير فلسطين، ولم يقتصر نتاج الشهيد غسان على هذا الحقل، بل له دراسات عميقة جداً منها: “أدب المقاومة في فلسطين” (1966)، و”في الأدب الصهيوني” (1967)، و”الأدب الفلسطيني المقاوم” (1968).
في ذكرى اغتيال الشهيد غسان كنفاني ننشر “ورقة من غزة” (1956)، قصة قصيرة بلسان شاب غزاوي نابعة من أرض غزة، من مقاومتها، من صمودها ضد جرائم العدو الصهيوني، قصة – رسالة يكتبها إلى صديقه مصطفى الذي جهز له مستلزمات السفر إلى أميركا، يخبره فيها رفضه السفر والعمل والدراسة فيها، والسبب في ذلك إرادة المقاومة التي انبثقت خلال تواجده في غزة أثناء اجازته الصيفية ليودع أهله استعداداً للسفر إلى أميركا، القرار الحقيقي المقاومة انبثق كالمارد من جذور إرادة صمود أهالي غزة ومقاومتهم للجرائم الصهيونية، وزيارته لناديا ابنة الثلاثة عشر عاماً التي فقدت ساقها في قصف صهيوني خلال حمايتها لإخوتها الصغار من الموت.. هي رسالة إلى صديقه مصطفى يدعوه فيها للعودة إلى غزة.. للصمود فيها ومقاومة العدو. هي رسالة تحدد بوصلة الشباب العربي مقاومة العدو الصهيوني.
تحية إلى الشهيد غسان كنفاني الأديب الثائر المقاوم الذي امتزج حبر قلمه بدمه الأحمر القاني.. تحية إلى غزة التي مازالت تكتب فصول “ورقة من غزة” بمزيد من الصمود والمقاومة… تحدد لنا البوصلة وتعلمنا سر الكرامة مقاومة العدو الصهيوني لتحرير فلسطين من المي للمي. وفي ما يلي نص قصة “رسالة من غزة”
عزيزي:
استلمت رسالتك الآن، وفيها تخبرني أنك أتممتَ لي كل ما أحتاج إليه ليدعم إقامتي معك في ساكرمنتو، وكذلك وصلني ما يشعر أنني قبلت في فرع الهندسة المدنية في جامعة كاليفورنيا. لا بد لي يا صديقي من شكرك على كل شيء، لكن سيبدو لك غريباً بعض الشيء، أن أزف إليك هذا النبأ، وثق تماماً يا مصطفى أنني لا أشعر بالتردد قط، بل أكاد أجزم أنني لم أرَ الأمور بهذا الوضوح أكثر مني الساعة، لا يا صديقي: لقد غيرت رأيي، فأنا لن أتبعك “إلى حيث الخضرة والماء والوجه الحسن” كما كتبت، بل سأبقى هنا، ولن أبرح أبداً.
إنه لشيء يزعجني حقيقة، يا مصطفى، أن لا نكمل ذلك الجريان لحياتينا في خط واحد، فإني أكاد أسمعك تذكرني بعهدنا على الاستمرار معاً، وكيف كنا نهتف: “سنصير أغنياء”، ولكن يا صديقي ليس في يدي حيلة، نعم، إنني لا زلت أذكر تماماً يوم وقفت في ساحة المطار في القاهرة، أشد على يدك وأحدق في المحرك المجنون، كان كل شيء ساعتئذ يدور مع المحرك ذلك الدوران الصاخب، وكنتَ أنت تقف أمامي، بوجهك المليء الصامت، لم يتغير وجهك عن الوجه الذي نشأت به في حي الشجاعية في غزة، لولا هذه الغضون المسطحة، قد نشأنا معاً، وكان واحدنا يفهم الآخر تمام الفهم، وتعاهدنا على الاستمرار معاً الى النهاية… ولكن:
ـــ بقي ربع ساعة وستقلع الطائرة، لا تحدق هكذا باللا شيء، اسمعني، ستذهب في العام القادم إلى الكويت، وستوفر من راتبك ما يقتلعك من غزة إلى كاليفورنيا، لقد بدأنا معاً، ويجب أن نستمر…
وكنتُ لحظتذاك أرقب شفتيك وهما تتحركان بسرعة، هكذا كانت طريقتك في الكلام: لا فواصل ولا نقاط، لكنني كنت أحس إحساساً غامضاً أنك غير راضٍ تماماً عن هروبك، لم تكن تستطيع أن تعد ثلاثة أسباب وجيهة لهذا الهروب، وكنت أعاني أنا أيضاً من هذا التمزق، ولكن الشعور الأوضح كان: لماذا لا نترك هذه الغزة ونهرب.. لماذا؟ إلا أن وضعك كان قد أخذ يتحسن: فلقد تعاقدتْ معك معارف الكويت دون أن تتعاقد معي، وفي غمرة من البؤس الذي كنت أعيش فيه، كانت تصلني منك في بعض الأحيان مبالغ صغيرة، كنت تريدني أن أعتبرها ديناً، خوف أن أشعر بالصغار، لقد كنتَ تعرف ظروفي العائلية تماماً، وكنت تعرف أن راتبي الضئيل في مدارس وكالة الغوث الدولية لم يكن يكفي لإعالة أمي، وزوجة أخي الأرملة وأولادها الأربعة.
ــ اسمعني جيداً، اكتب لي كل يوم… كل ساعة… كل دقيقة، لقد أوشكت الطائرة أن تطير، استودعك الله، بل قل إلى اللقاء…إلى اللقاء.
ومست شفاهك الباردة وجنتي، وأدرت عني وجهك ميمماً شطر الطائرة، وعندما التفت إليَّ مرة ثانية كنت أرى دموعك…
وبعدها تعاقدت معي معارف الكويت، لا داعي لأن أكرر عليك كيف كانت تجري تفاصيل حياتي هناك، فلقد كنت أكتب لك دائماً عن كل شيء، كانت حياتي دبقة، فارغة، كمحارة صغيرة: ضياع في الوحدة الثقيلة، وتنازع بطيء مع مستقبل غامض كأول الليل، وروتين عفن، ونضال ممزوج مع الزمن، كل شيء كان لزجاً حاراً، كانت حياتي كلها زلقة، كلها توق إلى آخر الشهر!
وفي منتصف العام، ذلك العام، ضرب اليهود مركز الصبحة، وقذفوا غزة، غزتنا، بالقنابل واللهب، كان يمكن أن يغير لي هذا الحدث شيئاً من الروتين، لكنه لم يكن لي ما آبه له كثيراً: فأنا سأخلف هذه الغزة ورائي، وسأمضي إلى كاليفورنيا أعيش لذاتي التي تعذبت طويلاً. إنني أكره غزة، ومن في غزة: كل شيء في البلد المقتول يذكرني بلوحات فاشلة رسمها بالدهان الرمادي إنسان مريض، نعم، لقد كنت أرسل لأمي، ولأرملة أخي وأولادها، مبالغ ضئيلة تعينهم على الحياة، لكنني – أيضاً- سأتحرر من هذا الخيط الأخير. هناك، في كاليفورنيا الخضراء البعيدة عن رائحة الهزيمة التي تزكم أنفي منذ سبع سنوات… إن الشفقة التي تربطني بأولاد أخي وأمهم وأمي، لا تكفي أبداً لتبرير جريان مأساتي هذا الجريان الشاقولي… لا يمكن أن تشدني إلى تحت أكثر مما شدتني… يجب أن أهرب!
أنت تعرف يا مصطفى هذه الأحاسيس، لأنك عشتها فعلاً: ما هذا الشيء الغامض الذي كان يربطنا إلى غزة فيحد من حماسنا إلى الهروب؟ لماذا لا نشرح الأمر تشريحاً يعطيه معنى واضحاً؟ لماذا لا نترك هذه الهزيمة بجراحها، ونمضي إلى حياة أكثر ألواناً وأعمق سلوى… لماذا؟ لم نكن ندري بالضبط!
وعندما أخذت إجازتي في حزيران، وجمعت كل ما أملك توقاً إلى الانطلاقة الحلوة، إلى هذه الأشياء الصغيرة التي تعطي الحياة معنى لطيفاً ملوناً، وجدت غزة كما تعهدها تماماً: انغلاقاً كأنه غلاف داخلي، لتف على نفسه، لقوقعة صدئة قذفها الموج إلى الشاطئ الرملي اللزج قرب المسلخ، غزة هذه، أضيق من نفس نائم أصابه كابوس مريع، بأزقتها الضيقة، ذات الرائحة الخاصة، رائحة الهزيمة والفقر، وبيوتها ذوات المشارف الناتئة… هذه غزة، لكن ما هي هذه الأمور الغامضة، غير المحددة، التي تجذب الإنسان لأهله، لبيته، لذكرياته، كما تجذب النبعة قطيعاً ضالاً من الوعول؟ لا أعرف! وكل الذي أعرف أنني ذهبت لأمي في دارنا ذلك الصباح، وهناك قابلتني زوجة أخي المرحوم ساعة وصولي، وطلبت مني وهي تبكي، أن ألبي رغبة ناديا ابنتها الجريحة، في مستشفى غزة، فأزورها ذلك المساء. أنت تعرف ناديا ابنة أخي الجميلة ذات الأعوام الثلاثة عشر؟
في ذلك المساء اشتريت رطلا ًمن التفاح، ويممت شطر المستشفى أزور ناديا… كنت أعرف أن في الأمر شيئاً أخفته عني أمي وزوجة أخي، شيئاً لم تستطيعا أن تقولاه بألسنتهما… شيئاً عجيباً لم أستطع أن أحدد أطرافه البتة! لقد اعتدت أن أحب ناديا، اعتدت أن أحب كل ذلك الجيل الذي رضع الهزيمة والتشرد إلى حد حسب فيه أن الحياة السعيدة ضرب من الشذوذ الاجتماعي.
ماذا حدث في تلك الساعة؟ لا أدري!
لقد دخلت الغرفة البيضاء بهدوء جم، إن الطفل المريض يكتسب شيئاً من القداسة، فكيف إذا كان الطفل مريضاً إثر جراح قاسية مؤلمة؟
كانت ناديا مستلقية على فراشها، وظهرها معتمد على مسند أبيض انتثر عليه شعرها، كفروة ثمينة، كان في عينيها الواسعتين صمت عميق، ودمعة هي أبداً في قاع بؤبؤها الأسود البعيد، وجهها كان هادئاً ساكناً، لكنه موح كوجه نبي معذب.
لا زالت ناديا طفلة… لكنها كانت تبدو أكثر من طفلة، أكثر بكثير، وأكبر من طفلة، أكبر بكثير…
ــ ناديا…
لا أدري، هل أنا الذي قلتها، أم إنسان آخر خلفي؟ لكنها رفعت عينيها نحوي، وشعرت بهما تذيبانني كقطعة من السكر سقطت في كوب شاي ساخن، ومع بسمتها الخفيفة سمعت صوتها:
ــ عمي…. وصلت من الكويت؟
تكسر صوتها في حنجرتها، ورفعت نفسها متكئة على كفيها، ومدت عنقها نحوي، فربت على ظهرها، وجلست قربها:
ــ ناديا، لقد أحضرت لك هدايا من الكويت، هدايا كثيرة سأنتظرك إلى حين تنهضين من فراشك سالمة معافاة، وتأتين داري فأسلمك إياها، ولقد اشتريت لك البنطال الأحمر الذي أرسلت تطلبينه مني… نعم… لقد اشتريته…
كانت كذبة ولّدها الموقف المتوتر… وشعرت وأنا ألفظها كأنني أتكلم الحقيقة لأول مرة، أما ناديا فقد ارتعشت كمن مسه تيار صاعق، وطأطأت رأسها بهدوء رهيب، وأحسست بدمعها يبلل ظاهر كفي:
ــ قولي يا ناديا… ألا تحبين البنطال الأحمر؟
ورفعت بصرها نحوي، وهمت أن تتكلم، لكنها كفت، وشدت على أسنانها، وسمعت صوتها مرة أخرى من بعيد:
ــ يا عمي!
ومدت كفها، فرفعت بأصابعها الغطاء الأبيض، وأشارت إلى ساق مبتورة من أعلى الفخذ…
يا صديقي…
أبداً لن أنسى ساق ناديا المبتورة من أعلى الفخذ، لا، ولن أنسى الحزن الذي هيكل وجهها واندمج في تقاطيعه الحلوة إلى الأبد… لقد خرجت يومها من المستشفى إلى شوارع غزة، وأنا أشد باحتقار صارخ على الجنيهين اللذين أحضرتهما معي لأعطيهما لناديا، كانت الشمس الساطعة تملأ الشوارع بلون الدم … كانت غزة، يا مصطفى، جديدة كل الجدة، أبداً لم نرها هكذا أنا وأنت: الحجارة المركومة على أول حي الشجاعية، حيث كنا نسكن، كان لها معنى كأنما وضعت هناك لتشرحه فقط، غزة هذه، التي عشنا فيها ومع رجالها الطيبين سبع سنوات في النكبة كانت شيئاً جديداً، كانت تلوح لي أنها… بداية فقط، لا أدري لماذا كنت أشعر أنها بداية فقط، كنت أتخيل أن الشارع الرئيسي، وأنا أسير فيه عائداً إلى داري، لم يكن إلا بداية صغيرة لشارع طويل طويل يصل إلى صفد، كل شيء كان في غزة هذه ينتفض حزناً على ساق ناديا المبتورة من أعلى الفخذ، حزناً لا يقف على حدود البكاء، إنه التحدي، بل أكثر من ذلك، إنه شيء يشبه استرداد الساق المبتورة!
لقد خرجت إلى شوارع غزة، شوارع يملؤها ضوء الشمس، لقد قالوا لي أن ناديا فقدت ساقها عندما ألقت بنفسها فوق اخوتها الصغار تحميهم من القنابل واللهب، وقد أنشبا أظفارهما في الدار، كانت ناديا تستطيع أن تنجو بنفسها، أن تهرب… أن تنقذ ساقها، لكنها لم تفعل…
لماذا؟
لا يا صديقي! لن آتي لسكرمنتو، وأنا لست آسفاً البتة، لا ولن أكمل ما بدأناه معاً منذ طفولتنا: هذا الشعور الغامض الذي أحسسته وأنت تغادر غزة… هذا الشعور الصغير يجب أن ينهض عملاقاً في أعماقك… يجب أن يتضاخم، يجب أن تبحث عنه كي تجد نفسك… هنا بين أنقاض الهزيمة البشعة…
لن آتي إليك.. بل عد أنت لنا… عد… لتتعلم من ساق ناديا المبتورة من أعلى الفخذ، ما هي الحياة… وما قيمة الوجود…
عد يا صديقي… فكلنا ننتظرك…
صحيح أن الفن لا يورث ، لكن زياد ورث الكثير من عبقرية والده الموسيقية ، وأخذ الكثير من طيبة والدته فيروز وأصالتها النقية وحبها للناس
إن المادية الجدلية، كما أسسها ماركس، هي حجر الأساس لفهم التاريخ والمجتمع من منظور الصراع الطبقي، لكنها ليست نصاً جامداً. لقد أُعيد إنتاجها في سياقات متعددة لتتماشى مع طبيعة الصراع الكولونيالي الطرفي.
“ثار” كَنْط على الواقع بصراخ في فضاءات الكلام والتنظير المنفصل عن أرض الواقع لتأبيده بأشكال مختلفة في الشكل متماثلة في المضمون، بما يعكس تأبيد أيديولوجية الاستغلال تحت شعار “العقل وحريته”، على أساس ما تريده سلطة الاستبداد من العقل.
يضمّ هذا الكتاب تلك المحاضرات الأخيرة، التي بدأها فيشر بالتساؤل حول معنى “ما بعد الرأسمالية”، واستمر بتتبع العلاقةِ بين الرغبة والرأسمالية، متوقفاً عند فرويد وماركوزه ولوكاتش وليوتار. نسمع صوت فيشر يائساً تارةً، وباحثاً عن الأملِ تارة، يستعيد إرث الثقافة المضادة من السبعينيات، ويفكّر في شبحِ عالمٍ كان يُمكن أن يكون حراً.