الوحدة الأفريقية لن تُقام بشروط فرنسية

حوار مع: ندونجو سامبا سيلا

 الحوار منشور على موقع: jacobin

https://jacobin.com/2024/02/french-neocolonialism-coups-west-africa

ترجمة: يوسف شوقي

في الأحد الماضي [28/1/2024] غادر الحكام العسكريون لمالي وبوركينا فاسو والنيجر الاتحاد الاقتصادي الغرب افريقي “ايكواس” وتعتبر تلك ضربة رئيسية لمشروع التكامل الإقليمي، وتهديدا لجهود ايمانويل ماكرون للتدخل في شؤون مستعمرات فرنسا السابقة.

قام بالحوار:  ديفيد برودر

لمدة نصف قرن وَعد التجمع الاقتصادي لدول غرب أفريقيا (الايكواس) ان يُوحِد خمس عشرة دولة في المنطقة؛ ثمانية دول كانت مستعمرات سابقة لفرنسا، ولكن الأعضاء يضمون أيضاً بلداناً رئيسية ناطقة بالإنجليزية كنيجيريا وغانا، وأيضاً ناطقي البرتغالية ككاب فيردى وغينيا بيساو، ووعدت الايكواس حتى بتوحيد العملة ولكن المشروع تأخر بشكل مستمر، وفي 28 كانون الثاني/ يناير الماضي أعلنت ثلاث دول خروجها من الايكواس للأبد.

تلك البلدان موضع الحديث – مالي وبوركينا فاسو والنيجر- حدث في كل واحدة منها انقلابات عسكرية منذ 2020، مع ادعاء السلطات الجديدة انها ستتحرر من “الاستعمار الجديد” والهياكل الاقتصادية المفروضة من قبل القوة الامبراطورية الفرنسية السابقة. وفي أغسطس الماضي هددت دول الايكواس الأخرى انها ستغزو النيجر وستسقط الحكومة الانقلابية، ولكن في الشهر التالي صاغت الثلاث دول اتفاقا أمنيا سُمي “اتحاد دول الساحل” (أ ي س بالفرنسية) وهو اتفاق أسماه عالم اقتصاد التنمية السنغالي ندونجو سامبا سيلا بـ” اتفاقية دفاع مشترك ولكن تعتبر اطاراً للتكامل الاقتصادي والمالي”.

سامبا سيلا مؤلف كتاب ” العملة الاستعمارية الأخيرة لأفريقيا: قصة الفرنك الأفريقيوكتب بشكل واسع عن التواجد الاستعماري الجديد لفرنسا في غرب أفريقيا وهو معارض للرئيس السنغالي ماكي سال الذي علّق الانتخابات المُخططة في البلاد لوقت غير محدد. وتحدث الى ديفيد برودر في موقع “جاكوبين” عن ترك الدول الثلاث للايكواس وماذا يتضمن تأكيدهم على السيادة، والادعاءات المضادة عن تدخل روسيا وفرنسا في المنطقة.

ديفيد برودر:  تركت بروكينا فاسو ومالى والنيجر الايكواس منددين بالعقوبات الاقتصادية وغياب الدعم في مواجهة الارهاب، في الصيف الماضى اتضح ان الايكواس تخطط لغزو النيجر، وأيضاً  فرض قيود تجارية وقبل ذلك كانوا يسعون الى مسار تفاوضي بإسم استعادة الديمقراطية هناك، لماذا تترك الحكومات الثلاثة الايكواس ولماذا الآن؟

ندنجو سامبا سيلا: منذ  عام2020 ستة انقلابات عسكرية حدثت في غرب أفريقيا: اثنان في مالي وبوركينا فاسو وواحد في كل من غينيا والنيجر، انقلاب النيجر في يوليو الماضي هو الأخير. قِيل ان محمد بازوم كان الرئيس “المنتخب بشكل ديموقراطي”، ولكن قد تم تعيينه بعد عملية انتخابية معيبة، وقد اُسقط من قبل رئيس الحرس الرئاسي وهو اليوم مُتحفَظ عليه، ولم يوافق على التنحي حتى الآن.

أثناء فترة حكمه شارك بازوم الاتحاد الأوروبي لتطبيق سياسات هجرة شديدة القسوة، شهد حكمه وِفق وزارة الخارجية الامريكية نفسها   استمراراً “للقتل العشوائي والخارج عن القانون متضمناً عمليات قتل خارج أحكام القضاء سواء عن طريق الحكومة أو نيابة عنها”، ومع ذلك فعندما زار انتوني بلينكن النيجر في مارس الماضي وصفها بأنها “نموذج للديموقراطية”. وبازوم كان حليفاً مُتعصباً لفرنسا.

دعَم بازوم نفسه، بشكل علني، الانقلاب العسكري في تشاد عام 2021، وفي مؤتمر صحفى مُشترك مع ايمانويل ماكرون، متحدثاً بجانب الرئيس الفرنسي وهو يوافق بازوم الرأى، قال إن السياق الأمني يبرر تعليق الدستور التشادي وانتهاكه، وأضاف ان العقل يُحتم مخاطرة العمل مع العسكريين، ولم يصدم هذا أحداً بالفعل إلا الشعب التشادي الذي تظاهر ضد التحرك غير القانوني وكثير قُبض عليهم وقُتلوا.

متفاجئاً من الانقلاب ضد بازوم في يوليو الماضي انتقد ماكرون خدماته الاستخباراتية وقال “انقلاب واحد يتبعه انقلابات كثيرة”، وعلى الفور عملت فرنسا على الجبهة الديبلوماسية لحث الايكواس على شن عملية عسكرية لإعادة بازوم. كانت السنغال وبينين وساحل العاج مستعدة لارسال القوات، والرئيس النيجيري بولا تينيبو الذي تقلد المنصب الدوري كرئيس للايكواس كان في صف مُعلِني الحرب. وعندما أعلنت الايكواس عن نيتها “لاستعادة الديمقراطية” في النيجر عبر القوة العسكرية، أعلنت النُظم العسكرية في مالي وبوركينا فاسو وغينيا أن أي هجوم على النيجر سيكون بمثابة هجوم عليهم. لم تنس الجزائر الفوضى القائمة التي خلقها تدمير الناتو والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا لليبيا.

في النهاية لم يحدث التدخل العسكري حيث كانت الشعوب الأفريقية معادية له بشكل كبير؛ لم تحصل نيجيريا، وهي القوة الإقليمية الأساسية، على الضوء الأخضر من برلمانها، وفضلت الولايات المتحدة التفاوض مع السلطات النيجرية الجديدة تاركة ماكرون معزولاً. ولكن بدلاً من العملية العسكرية وضعت الايكواس عقوبات اقتصادية وتجارية ومالية ضد النيجر أكثر شدة من العقوبات ضد مالي من يناير ليوليو العام 2022.

إن قرار تلك الدول بالانسحاب من الايكواس يمكن تفسيره بشكل أساسي عن طريق عدم تضامن الايكواس في محاربة الارهاب الجهادي والجماعات الانفصالية وفرض عقوبات تجارية ومالية قاسية بتحريض فرنسي واضح ومعها حلفاؤها الافريقيون كساحل العاج وبينين والسنغال.

منذ منتصف السبعينيات تحاول فرنسا تخريب الايكواس عبر خلق مؤسسات إقليمية معادية؛ ان سيطرتها على الايكواس تظهر في طبيعة العقوبات المالية المفروضة على مالي في عام 2022، والنيجر منذ انقلاب عام 2023. لا يمكن لبلد أجنبي ان يأمر البنك المركزي لمُصدِر عملة سيادي ان يمنع الحكومة من الولوج الى حساباتها البنكية والنظام المصرفي المحلي. ولكن هذا ممكن لو كنت تستخدم الفرنك الافريقي أي انك تنتمي لاتحاد مالي “يديره الأفارقة” اسمياً ويقع بنكه المركزي، في الحقيقة، تحت الوصاية القانونية للخزينة الفرنسية. مُختبئةٌ خلف الايكواس استطاعت فرنسا فرض تلك الأنواع من العقوبات على مالي والنيجر على الرغم من انها تخلو من تخلو من الأساس القانوني.

ان النجاة من العقوبات التي هدفت الى انهيار اقتصادها، قد عزز مالي وشعبها. ان “اتحاد دول الساحل” يدرك الآن ان ليس لديه شيئاً ليخسره جراء خروجه من تَجمُع تُهيمن عليه الامبريالية. على الرغم من المخاوف المشروعة على مستقبل علاقاتهم مع جيرانهم، فإن قطاعات بارزة من جماهيرهم عبروا عن شعورهم بالتحرر.

ديفيد برودر: هل تظن ان هذا سيكون فعلياً شقاق أبدي؟ وكيف تشخص استدامة الايكواس المستقبلية وقدرتها على ان تكون قوة اقتصادية و”الشُرَطى الإقليمي” بخصوص المسائل الأمنية؟

ندنجو سامبا سيلا: من الصعب التوقع. ان الايكواس قد بدأت كتَجمع اقتصادي، ولكن مع مرور الوقت توسع مجال اختصاصها ليشمل مسائل الدفاع والأمن، وأيضاً “الديمقراطية والحوكمة الرشيدة”.  وهنا المشكلة، كتجمع اقتصادي وبشكل خاص كاتحاد جمارك إقليمي قد عفى على الايكواس الزمن الى حد ما بعد قيام منطقة التجارة الحرة الأفريقية (AFCFTA)، ان بلدان غرب أفريقيا لم تعد تحتاج الايكواس بشكل ضروري للحركة الحرة للأفراد والبضائع عبر الحدود. كتكتلٍ أظهرت الايكواس قليلاً من الوحدة عند التفاوض مع الاتحاد الأوروبي على اتفاقات الشراكة الاقتصادية (EPAs)؛ فبينما عارضت نيجيريا بحق التوقيع على اتفاقات “التجارة الحرة” تلك، فضلت بلدان مثل غانا وساحل العاج التوقيع على اتفاقات انتقالية مع الاتحاد الأوروبي مما قوض زخم التكامل التجاري الإقليمي القاري. ان غياب الإرادة المشتركة والوحدة يظهر أيضاً في التأجيل المُتكرر لمشروع تقديم عُملة واحدة للدول الأعضاء الخمسة عشر.

أبعد من ذلك، تفتقر الايكواس الى الشرعية السياسية لتلعب دور الشرطي، ان المنتقدين يصفوها، عموماً، بأنها اتحاد لرؤوس دول نادراً ما تكون نماذج للقيادة في بُلدانهم، دائماً لا يحترمون أو لا ينفذون القرارات الصادرة عن محكمة الايكواس القضائية.

ما مدى مصداقية مؤسسة تتكون من قيادات تنتهك دساتيرها الخاصة، تسجن النشطاء والمعارضين، تستخدم العنف لقتل المعارضين وتنظم انتخابات مزورة؟ ما يضر مصداقية وجدارة الايكواس بالثقة هو الاعتقاد العام ان العقوبات غير الإنسانية قد تم تدبيرها من الخارج. ان الشعوب الأفريقية تسعى الى التكامل الاقتصادي لكنها لا تريد منظمة خاضعة واعتباطية كالايكواس. في حالة تغيير النظام بعد الانتخابات يمكن للبلدان الأخرى ان تنضم الى “اتحاد دول الساحل” في المطالبة بشكل جديد من التكامل الإقليمي.

ديفيد برودر: هناك بعض النقاشات عن عملة للايكواس كبديل للفرنك الأفريقي في غرب أفريقيا والذي تستخدمه دول الساحل الثلاث. ماذا تظن بشأن التطورات الأخيرة في تلك البلدان وعلاقتها بهذا المشروع؟ ما هي الفرصة المتاحة أمامهم لخلق عملة مشتركة خاصة بهم وما الآثار الاقتصادية المترتبة على ذلك؟

ندنجو سامبا سيلا: يرجع تاريخ فكرة العملة الواحدة للايكواس الى عام 1983، وقد تم تأجيل انطلاقها عدة مرات: 2015 ثم 2020 ثم 2027. لا أظن اننا سنراها في أي وقت قريب لسبيين؛ الأول ان المنهجية غير مناسبة، بعد انطلاق اليورو في العام 1999 “استوردت” الايكواس شروط ماستريخت “للمقاربة الشكلية” التي تتعلق بالعجوزات العامة والديون ومعدل التضخم…الخ. تلك الشروط تطالب بها ألمانيا لكي لا تحتاج الى الوقوف بجانب جيران منطقة اليورو (اليوروزون)، وهي شروط يجب استيفائها للعضوية في المنطقة النقدية المستقبلية للايكواس، ولكن لبضعة سنوات لم تستطع البلدان تحقيق تلك الشروط لأسباب متنوعة، وضِف على ذلك ما يعرف بالمقاربة “التدريجية”: أي ان البلدان التي حققت الشروط ستأخذ موقع القيادة ثم سيلحقها الآخرون وهي مقاربة لا معنى لها: على سبيل المثال كيف يمكن لبلد أو اثنين صغيرين ان يكونا قاطرات للتكامل النقدي الإقليمي؟.

وهنا تدخل السياسة؛ الدول الثمانية، مستخدمو الفرنك الأفريقي، حتى الآن يفضلون البقاء تحت وصاية الخزينة الفرنسية، بينما لا يبدو ان نيجيريا مهتمة  بالقيادة النقدية الإقليمية. هذا أعطى ماكرون الفرصة لنسف مشروع التكامل النقدى للايكواس.

بجانب تلك الخلفية فإن عقوبات الايكواس غير القانونية بالكاد تخلق الزخم السياسي للوحدة النقدية بين الخمس عشرة دولة، من يريد ان يكون جزءاً من اتحاد نقدي غير ديمقراطي تفعل فيه الدول القوية ما يحلو لها؟

إن وجهة نظري هي، على افتراض ان هذا المشروع يمكن تنفيذه، فهو سيكون مجرد بديل رمزي عن الفرنك الأفريقي، فلكونه مؤسس على غرار منطقة اليورو فسينتج عنه يورو استوائي؛ فعملة بدون سيادة هي أداة للصراع الطبقي.

ديفيد برودر: ان الانقلابات العسكرية الأخيرة في النيجر ومالي وبوركينا فاسو يتم تقديمها – بما في ذلك السلطات الجديدة نفسها- كتأكيد للسيادة في وجه التأثير النيوكولونيالي الفرنسي، هل هذا يعتبر ديماغوجية، أو هل لهذا تأثيرات واقعية؟ وما مدى تشابه الحالات الثلاث في الواقع؟.

ندنجو سامبا سيلا: نظراً لأهوال الحكم العسكري في أفريقيا، وخاصة خلال الحرب الباردة، فإن الأمر يتطلب بعض التحفظات هنا. يتوقع العديد من المعلقين “عودة” الانقلابات في أفريقيا. وهم عادة ما يفسرون هذا الوضع في ضوء غياب “الحوكمة الرشيدة”، والفقر، وأي عوامل أخرى مفترضة قد تبدو معقولة. أنا لا أتفق مع هذا النهج.

ليس هناك “عودة” للانقلابات. هناك بالأحرى مشكلة انقلابات مزمنة في أفريقيا الفرانكفونية. وتفتقر التفسيرات المتعلقة بـ “سوء الحوكمة”، والفقر، وما إلى ذلك إلى الدقة. ويمكن العثور على هذه السمات في العديد من البلدان في جميع أنحاء أفريقيا حيث أصبحت الإطاحة بالحكومات شيئاً من الماضي (وهو ما لا يعني ضمناً أنها “ديمقراطية”). حدثت تسعة انقلابات في أفريقيا منذ عام 2020: ثمانية منها في البلدان الناطقة بالفرنسية و/أو في سياق جيو- سياسي عسكره الغرب (دول الساحل الناطقة بالفرنسية والسودان).

إحدى “خصائص” الانقلابات العسكرية في أفريقيا الناطقة بالفرنسية هي أنها، من منظور تاريخي، كانت الوسيلة الوحيدة للتخلص من دعائم الإمبريالية الفرنسية. هذا لا يعني أن الانقلابات العسكرية تقدمية بطبيعتها؛ مُطْلَقاً، فكان معظمها رجعياً، وعملت على ترسيخ النظام الاستعماري الجديد. ولكن نظراً للسيطرة الفرنسية على “اختيار” الزعماء الأفارقة، ونجاحها الطويل الأمد في سحق اليسار المدني، فإن الزعماء النادرين الذين كان لديهم مشروع للتحرر من الاستعمار الفرنسي الجديد جاءوا من المؤسسة العسكرية. قد نفكر على سبيل المثال في القادة الذين يتمتعون بالكاريزما والشرف مثل توماس سانكارا في بوركينا فاسو. هذا تاريخ يمتد لقرنين من الزمان، وقد قمت بتغطيته مع فاني بيجويد في كتابنا الأخير.

تتميز الفترة الأخيرة في أفريقيا الناطقة بالفرنسية “بعودة” ممارسات من عصر حكم الحزب الواحد. ويسمح المسؤولون لأنفسهم على نحو متزايد بتزوير الانتخابات عن طريق اختيار خصومهم، والتلاعب بالأعراف والقوانين الدستورية، والضغط على السلطة القضائية، ونشر مستوى غير مسبوق من العنف ضد شعوبهم ــ كل هذا بالتواطؤ من “المجتمع الدولي”، الذي يساوي بين “الديمقراطية” والخضوع للاستعمار الجديد وتنفيذ الأجندة النيوليبرالية.

تختلف الظروف التي أدت إلى الانقلابات الأخيرة من دولة إلى أخرى وكذلك “ملفهم” السياسي؛ ففي حين تسمح بعض الانقلابات للاستعمار الفرنسي الجديد بإعادة تنظيم صفوفه ومنع التغيير غير المرغوب للنظام (كما حدث في الغابون وتشاد)، فإن الانقلابات غير الدموية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر تعارض بوضوح ما يسمى بأفريقيا الفرنسية Françafrique.

وفي النيجر على وجه التحديد، أشعر أن ما حدث كان في البداية انقلاباً في صفوف الطغمة الحاكمة، لكنه سرعان ما اتخذ منحى مناهضاً للإمبريالية كنتيجة للدعم الشعبي واسع النطاق الذي عززه فورية وقسوة العقوبات التي فرضتها الايكواس و”المجتمع الدولي”. من المؤكد أن الانقلابيين في النيجر لم يتخيلوا الشعبية الهائلة التي حظي بها انقلابهم. وهذا يكشف بشكل كبير عن الانفصال القائم عادة بين الطبقة السياسية والناس العاديين المتعطشين للتغيير الجذري. وعلى خلفية العلاقات الدبلوماسية المتوترة، تم طرد القوات الفرنسية من هذه البلدان الثلاثة. وعلى النقيض من ذلك، في الغابون وتشاد، وهما معقلان للنفوذ الفرنسي، حظي الانقلابيون بتأييد باريس و”المجتمع الدولي”. وفي حالتهم، لم تكن هناك عقوبات اقتصادية أو مالية حقيقية، فالقوات الفرنسية ما زالت موجودة والمصالح الاقتصادية الفرنسية لم تتهدد.

مالي والنيجر وبوركينا فاسو هي دول غير ساحلية وفقيرة ذات مساحة كبيرة. وحتى لو أعربوا عن رغبتهم في انتزاع المزيد من السيادة، فلن يتمكنوا من القيام بذلك بمفردهم. خدمة الديون ليست مرتفعة كما هو الحال في البلدان الأفريقية الأخرى. لكن تحويلات الأرباح والحصص كبيرة للغاية، وهي حقيقة تقترن عادة بسرقة الموارد ونقلها إلى الخارج. ويبدو أنه لا مفر في حالتهم من اتباع استراتيجية اقتصادية أكثر تمحوراً حول الذات – التقدم في إنتاج الغذاء، وزيادة السيطرة على القطاعات المالية والاستخراجية، وما إلى ذلك – في إطار التكامل الاقتصادي، وهو من شأنه أن يساعد على تخفيف تكاليف النقل المرتفعة في ميزان مدفوعاتها. وفي مواجهة التحديات المناخية والأمنية، سيكون نقل الموارد ضرورياً بالإضافة إلى الجهود المحلية. من الواضح أن منطقة الساحل تحتاج إلى “خطة مارشال”.

ديفيد برودر: قبل شهرين، ألغت السلطات الجديدة في النيجر اتفاق عام 2015 مع الاتحاد الأوروبي بشأن تقييد الهجرة، على غرار عدد من هذه الصفقات التي تروج لها الآن جورجيا ميلوني [رئيسة وزراء إيطاليا] مع مختلف دول شمال أفريقيا ومنطقة الساحل (المثقلة بالديون في كثير من الأحيان) مقابل مساعدات التنمية. ما الذي تعتقد أن السلطات النيجرية تبحث عنه؟ وماذا ينبئنا هذا عن تفاوض الدول الأخرى على دورها كشرطي حدود متعهد لدى أوروبا؟.

ندونجو سامبا سيلا: تمثل هذه الخطوة السياسية وسيلة لحكومة النيجر لتأكيد سيادتها الجديدة في مواجهة الاتحاد الأوروبي، الذي تتعارض سياساته غير الإنسانية عن الهجرة في كثير من الأحيان مع مبدأ حرية التنقل داخل منطقة الإيكواس. إنها أيضاً طريقة للتخلص من إجراء لا يحظى بشعبية. لذا فإن سلطات النيجر تبعث برسالة إلى الاتحاد الأوروبي مفادها أن العلاقات السياسية – الدبلوماسية، وخاصة في مجال الهجرة، لن تظل كما كانت من قبل؛ وهناك حاجة إلى شراكات أكثر توازناً واحتراماً. ويبقى أن نرى ما إذا كان “اتحاد دول الساحل” سوف يتطور استجابة منسقة بشأن هذه النقطة.

ديفيد برودر: في كثير من الأحيان، على الرغم من اختلافاتها، يقال إن الدول الثلاث تتجه إلى روسيا  للحصول على “دعم أمنى” – لا سيما بسبب وجود مجموعة فاغنر في مالي. ما مدى حقيقة ذلك؟.

ندونغو سامبا سيلا: ان توفير الخدمات الأمنية بمثابة الميزة التنافسية التي تتمتع بها روسيا في أفريقيا، وخاصة في الجزء الناطق بالفرنسية. غالباً ما يتم تسليط الضوء على النفوذ الروسي في القارة في الغرب. لكن السردية الغربية السائدة تتجاهل عادة بأن روسيا، بما في ذلك مجموعة فاغنر، ساعدت وتساعد دولاً مثل جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي في إعادة تأسيس وحدتها الإقليمية، حيث فشلت فرنسا (بما في ذلك المجموعات الأمنية الفرنسية الخاصة). في مالي، كانت فرنسا حاضرة منذ عام 2013. وكانت نتائجها على جبهة الحرب ضد الجهادية غير واضحة. وقد أصبح السكان ينظرون تدريجياً إلى القوات الفرنسية على أنها قوات احتلال.

قبل وصول الجيش إلى السلطة، نادراً ما كانت الحكومة “المنتخبة ديمقراطياً” في مالي قادرة على نشر قواتها في مجالها الجوي، بسبب عدم الحصول على إذن من فرنسا! وبعد رحيل القوات الفرنسية و MINUSMA (حملة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد في مالي) لتحقيق الاستقرار في مالي، نجح النظام العسكري في استعادة مدينة كيدال، التي تركتها فرنسا في أيدي الجماعات الانفصالية. وحتى لو استمرت التحديات الأمنية، فإن كل هذه الدول، بفضل التعاون العسكري مع دول الجنوب العالمي وروسيا، أصبحت أفضل جاهزية وجيوشها أفضل تدريباً. وكما يشير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، في مواجهة إحجام فرنسا والولايات المتحدة عن بيع الأسلحة إلى مالي، أصبحت روسيا المورد الرئيسي لها.

وربما يكون الغرب على خلاف مع روسيا. لكنهم لا يستطيعون إلقاء اللوم على البلدان الأفريقية التي خذلوها لأنها بحثت عن شركاء للمساعدة في التعامل مع المشاكل الأمنية التي ساعدت التدخلات العسكرية الغربية في خلقها.

ديفيد برودر: أنا مهتم أيضاً بكيفية قراءة سياسة الولايات المتحدة تجاه النيجر – على سبيل المثال، الزيارة التي قامت بها نائبة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند في أغسطس الماضي، وحقيقة أن واشنطن لم تتحدث رسمياً عن “انقلاب”، وعلاقاتها العسكرية القوية مع النيجر.

ندونغو سامبا سيلا: لقد كانت واشنطن مخضرمة دبلوماسياً عن باريس الداعية إلى الحرب. وفي مرحلة ما، دعمت الولايات المتحدة عودة بازوم إلى السلطة، قبل أن تتفاوض بسرعة مع النظام العسكري دون الإشارة إلى الوضع على أنه “انقلاب”. لقد كان انقلاباً بالفعل. لكن الاعتراف به على هذا النحو كان سيجبر الولايات المتحدة على مغادرة النيجر، البلد الذي تدير فيه قاعدة للدرونز ولديها قوات برية. وعلى الرغم من أن المفاوضات كانت “صعبة” بين نولاند والنظام الجديد، إلا أنه من المؤكد انها تزللت عبر حقيقة أن الولايات المتحدة قامت بتدريب القائد الجديد للجيش النيجري، وهو أحد “جنرالات أمريكا المفضلين“.

ولكن دعونا ألا نخطئ، الولايات المتحدة ليست في النيجر لمساعدة البلاد على مواجهة تحدياتها الأمنية. إن دوافعهم إمبريالية في الأساس: عرقلة طريق منافسيها، وأبرزهم روسيا والصين (وحتى فرنسا!)، ومراقبة حلفائهم في القارة.

لقد كانت العسكرة الغربية لأفريقيا بمثابة أرض خصبة لعدم الاستقرار السياسي وظهور الأنظمة العسكرية. وكرد فعل، فإن الانتفاضة الشعبية البان أفريقية  التي بدأت في مركز منطقة الساحل تهدد الآن بابتلاع الأنظمة الاستعمارية الجديدة المجاورة التي يطلق عليها “ديمقراطيات”.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

هل يقود “فلول الإخوان” السودان إلى الحرب الأهلية

برزت قبل وأثناء الحرب العديد من الميليشيات المسلحة المنسوبة للجيش المختطف من فلول “الإخوان المسلمين”. اندلعت الحرب في الخامس عشر من نيسان/ إبريل من العام 2023 بين الجيش المختطف وميليشيا الدعم السريع، بهدف قطع الطريق على ثورة ديسمبر المجيدة حتى لا تحقق أهدافها في بناء سلطة مدنية كاملة وتصفية الثورة.

ترامب ومخاطر استراتيجية تجاه القضية الفلسطينية العربية

تستند العلاقات الأميركية – “الإسرائيلية” على قاعدة ذهبية هي أن الولايات المتحدة الأميركية أهم حليف وداعم للكيان الصهيوني منذ قيامه في 1948 وأنها تصوغ وتفرض سياستها في منطقة الوطن العربي والشرق الأوسط، بل والعالم لضمان تفوق “إسرائيل” عسكرياً وانتصاراتها في حروبها المتتالية وقضمها لفلسطين.

[zeno_font_resizer]