زلزال “طوفان الأقصى” .. والحاجة إلى رؤية برنامجية وطنية فلسطينية جامعة

 تستمر الحرب الهمجية على شعبنا، وهي تزداد عنفاً ووحشية، لم تتوقف عن استهداف المدنيين العزل بالمجازر والمذابح اليومية، واستكمال تدمير البنية التحتية للقطاع، وكل مقومات العيش فيه، بهدف المزيد من الضغط على السكان لترحيلهم عن أرضهم، واللجوء إلى الأراضي المصرية، وإلى الهجرة عموماً، واستكمال الأعمال العدوانية، وفق الأهداف المرسومة للحرب: ترحيل السكان + تصفية المقاومة الفلسطينية ونزع سلاحها + استرداد الأسرى “الإسرائيليين” بالقوة، وتجاوز دفع الثمن عبر عملية تبادل تشترط المقاومة أن تتم وفق مبدأ “تبييض السجون”.

في الوقت نفسه، تزداد المقاومة في القطاع فعلاً، وتماسكاً في صد هجمات قوات الاحتلال، وإنجاز عمليات بطولية، توقع في صفوف العدو خسائر فادحة في المعدات والأفراد، بحيث تعترف الدوائر المحلية، أن هجمة جيش الاحتلال، رغم ما ارتكبه من جرائم ضد المدنيين والبنية التحتية للقطاع، لم تحقق أياً من أهدافها الإجرامية الثلاثة المذكورة.

إن أبناء القطاع، رغم فداحة النزيف وحجم التضحيات، يواصلون التمسك بأرضهم ومقاومتهم، ويؤكدون صمودهم وصلابتهم، كما أن المقاومة التي راهنت قيادة الاحتلال على محوها، نجحت في إلحاق العار بالجيش الذي يدّعي أنه لا يقهر.

ومع ذلك؛ فإن الدوائر الأميركية – “الإسرائيلية”، المتحالفة في حربها الهمجية ضد شعبنا في القطاع، ما زالت تتحدث عما يسمى “اليوم التالي” لغزة، وفقاً للحسابات التي انطلقت الحرب “الإسرائيلية” على أساسها، أي نزع سلاح المقاومة، وفرض السيطرة “الإسرائيلية” التامة على القطاع، وتدبير صيغة لإدارة مدنية “محلية”، مرجعيتها مع سلطات الاحتلال في تدبير شؤون السكان، ونقل القطاع إلى مرحلة سياسية جديدة، تقوم على التبعية التامة لكيان الاحتلال.

بالمقابل، يلاحظ أن الوحدة الميدانية التي تتجلى بأبهى صورها في قطاع غزة، في مقاومة العدوان “الإسرائيلي” البربري، على أهميتها الفائقة، لم تترجم حتى الآن، وحدة في الموقف السياسي الوطني، وفق رؤية أو استراتيجية تؤمّن لشعبنا ومقاومته، الأسس اللازمة، والخطط، والآليات الضرورية، لمواجهة استحقاقات الحرب وما بعدها، ليس في قطاع غزة فحسب، بل وكذلك في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقد استفحلت في الضفة الغربية النزعات العنصرية العدوانية للمستوطنين، كما بدأت تتكثف في القدس، عاصمة دولة فلسطين، مشاريع التهجير الجماعي للسكان الفلسطينيين، وإفراغ المدينة من أبنائها وسكانها الأصلاء، بكل ما يعنيه ذلك من خطر داهم على هوية القدس وموقعها السياسي والروحي في المشروع الوطني الفلسطيني، وانعكاس ذلك على أوضاع المقدسات الإسلامية والمسيحية، وبشكل خاص المسجد الأقصى، الذي لم تتوقف محاولات فرض التقاسم الزماني وصولاً إلى المكاني عليه، في خطوات باتت تشكل مقدمة حتى لنسف هويته، تلبية لخرافات تلمودية.

فضلاً عن ذلك، يشهد الإقليم أحداثاً وتطورات تنبئ بتحولات استراتيجية، تعيد رسم معادلات الصراع بين أطرافه، ومع أن العنصر الأكثر فعالية في التأسيس لهذه التطورات هو الإنجاز الفلسطيني المبهر في 7 أكتوبر، فالملاحظ في السياق نفسه، أن الغائب الأكبر في المداولات والمباحثات السياسية هو الجانب الفلسطيني، خاصة من يملك شرعية التمثيل الفلسطيني الحصري على الصعيد السياسي، أمام المجتمع الدولي.

إن هذا الغياب، بمؤسساته ومدلولاته المختلفة، يشكل خطراً على مستقبل القضية الفلسطينية، ويهدد مرة أخرى التضحيات والمكاسب التي يحققها شعبنا في نضالاته وصموده، كما هُدرت نتائج “معركة القدس” و”سيف القدس” (2021) بفعل الانقسام القائم في المؤسسات الرسمية.

وبالتالي، فإن عدم تجاوز هذا الانقسام، والذي أخذ بعد 7 أكتوبر، مظهراً سياسياً أكثر خطورة، وعدم التوافق على استراتيجية سياسية، توحد الحالة الوطنية وفق رؤية برنامجية جامعة، رؤية تستجيب لاستحقاقات الأحداث الجارية، فإن خسائر فادحة سوف تلحق بالقضية الوطنية، ومصالح شعبنا، وحقوقه الوطنية المشروعة، وهي مخاطر لن تستثني أياً من أطراف الحالة الوطنية الفلسطينية، بما في ذلك، السلطة الفلسطينية، في ضوء المخطط الغربي الرامي لاستحداث سلطة تابعة، تستجيب لأهداف العدوان الهمجي “الإسرائيلي” على قطاع غزة، ومشاريع الضم والتهجير في الضفة الغربية.

إن الجبهة الديمقراطية، ومن موقع مسؤوليتها الوطنية، وإدراكاً منها لحجم الواجبات الملقاة على عاتقها، إزاء شعبنا وقضيته وحقوقه وحركتنا الوطنية عموماً، تتقدم من الجميع برؤيتها البرنامجية الجامعة لمواجهة إستحقاقات المرحلة التي تعيشها قضيتنا، يدفعها الحرص على التأسيس لوحدة وطنية ائتلافية تشاركية، تصون قضيتنا وحقوق شعبنا، وتوفر لحركتنا الوطنية السلاح الضروري لمواجهة ما هو قادم علينا:

أولاً- تنطلق هذه الرؤية البرنامجية، وتستند إلى الأسس الثلاثة التالية:

1) إن منظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف)، هي الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا الفلسطيني، فوحدة الشعب تفترض وحدة التمثيل، الشرط الأساس الضامن لحق تقرير المصير؛ والمنظمة – بغض النظر عما تشكو منها أوضاعها الحالية، وهي كثيرة – تبقى هي الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا أمام المجتمع الدولي بجميع مؤسساته القائمة.

2) الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، فلا شعب بدون كيانية سياسية مؤسساتية، والدولة الفلسطينية هي الكيانية التي تعتبر أن مرجعيتها هي م. ت. ف، الإطار التمثيلي الموحد لشعبنا.

3) قرارات الشرعية الدولية، بما فيها القرار الأممي الرقم 194، الذي يكفل حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948، هذه القرارات هي الأساس السياسي والقانوني الذي يكفل لشعبنا حقوقه الوطنية المشروعة في المجتمع الدولي، وقرارات الشرعية الدولية، هي المرجعية القانونية الدولية التي تكفل صون الحقوق الوطنية المشروعة لشعبنا، باعتبارها حقوقاً غير قابلة للتصرف.

ثانياً- المهام المباشرة … مواجهة الحرب الهمجية

1) الوقف الفوري لإطلاق النار، وكل الأعمال العدوانية “الإسرائيلية” في قطاع غزة، وفقاً لآلية محصنة ورقابة دولية، تضمن الانسحاب “الإسرائيلي” التام من قطاع غزة إلى خطوط ما قبل 7 أكتوبر 2023.

2) كسر الحصار المفروض على القطاع، وفتح المعابر، لإمداد القطاع بكل مستلزمات الحياة، من غذاء ودواء وماء ووقود، بما يلبي الحاجة الكاملة لسكان القطاع.

3) نقل الحالات الخطيرة من الجرحى إلى العلاج في الدول الشقيقة والصديقة، ومدّ المنظومة الصحية في قطاع غزة، بالكادر المتخصص والتجهيزات الطبية اللازمة، التي تؤمن لها القدرة على استعادة دورها في إنقاذ حياة الجرحى والمصابين والمرضى ومعالجتهم.

4) توفير مستلزمات الإيواء للنازحين ومن دُمرت منازلهم، وتنظيم إيوائهم في أماكن سكناهم، وقطع الطريق على احتمالات التهجير بكل أشكاله القسري منه، أو الطوعي.

5) بخطوات متوازية في التوقيت وفي إطار خطة واحدة، يتم التالي:

أ) إطلاق سراح المدنيين؛ ب) إطلاق سراح الأسرى من الطرفين، وفق مبدأ “تبييض السجون الإسرائيلية”؛ ج) تبادل الجثامين.

6) إطلاق مشروع دولي لرفع الأنقاض، وإعادة إعمار القطاع.

7) وقف كل مشاريع الاستيطان في الضفة الغربية، بما في ذلك ما يسمى “النمو الطبيعي”، وضمان وقف الأعمال العدوانية للمستوطنين.

8) وقف كل أشكال وأعمال الاعتقالات الفردية والجماعية، والتوقف عن مداهمة المدن والبلدات والمخيمات في الضفة الغربية.

9) الرفض التام في البحث فيما يسمى “اليوم التالي” لغزة، والتأكيد بأن مستقبل القطاع قضية وطنية تقررها المؤسسات الوطنية الفلسطينية.

10) الجهة المخولة بالبت بهذه الملفات والقضايا، هي الهيئات التي تتشكل بالتوافق الوطني، وتكون مرجعيتها مؤسسات منظمة التحرير الائتلافية.

11) المساهمة في توفير أوسع مشاركة دولية في شكوى دولة جنوب إفريقيا، إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، عن ارتكاب “إسرائيل” جريمة الإبادة الجماعية.

12) مواصلة التحرك أمام الجنائية الدولية، لمساءلة ومعاقبة أعضاء المستويين السياسي والعسكري في كيان الاحتلال، على ارتكابهم جرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية في حق شعبنا الفلسطيني.

ثالثاً- في إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الداخلية

إن تجاوز الانقسام واستعادة الوحدة الداخلية، هي المهمة الجوهرية والاستحقاق الرئيس الذي يواجه الحركة الوطنية الفلسطينية وجماهير شعبنا، وفي مرحلة ما بعد “طوفان الأقصى” وأحداث “7 أكتوبر”، باتت مسألة إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الداخلية أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، في ظل الاستحقاقات الوطنية الكبرى التي تنتظر شعبنا وقضيته في ضوء النتائج الاستراتيجية لمعركة “طوفان الأقصى” وما تلاها من أحداث.

ودون تجاوز الانقسام، وإنهاء كل مظاهره، سيبقى الحديث عن الصمود والثبات، وكسر حدّة الهجمة المعادية لشعبنا، والتأكيد على رفض التهجير، وقطع الطريق على وقوع نكبة جديدة، فضلاً عن كسر الحصار، وإعادة إعمار القطاع، ووقف الاستيطان … سيبقى هذا كله أقرب إلى الشعارات، بينما تتداعى الولايات المتحدة بالتحالف مع “إسرائيل”، والتعاون مع أطراف إقليمية، لرسم سيناريوهات المستقبل الفلسطيني، بما يتجاوز حقوقنا الوطنية، ويلبي في الأساس، مشاريع حكومة نتنياهو، وأهداف مشاريع التطبيع الأميركية في المنطقة، وتعزيز مصالح الهيمنة الأميركية، وتهميش قضيتنا وحقوق شعبنا.

وفي هذا السياق، ترى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، أن الحوار الوطني الشامل، هو السبيل الوحيد إلى إعادة بناء الوحدة الداخلية، وتوطيد الوحدة الوطنية، تضع حلولاً ائتلافية لملفات الانقسام، ورسم الرؤية البرنامجية الكفاحية الجامعة للمواجهة الوطنية الشاملة. وعليه، تدعو الجبهة الديمقراطية إلى ما يلي:

1) الدعوة إلى انعقاد حوار وطني شامل وملزم بجدول أعماله ونتائجه، يضم الجميع دون استثناء، للوصول إلى توافق وطني للملفات المطروحة على جدول أعمال شعبنا وحركته الوطنية، بما في ذلك رسم استراتيجية وطنية كفاحية، تكفل الوصول إلى تحقيق أهداف شعبنا في تقرير مصيره، وقيام دولته الوطنية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، على حدود 4 حزيران (يونيو) 1967، وضمان حق العودة للاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم عملاً بالقرار الأممي 194.

2) التأكيد مجدداً على أن م. ت. ف. هي الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا في كافة أماكن تواجده، وباعتبارها أيضاً الإطار الوطني الجامع لكافة القوى السياسية والأطر والفعاليات المجتمعية والمؤسساتية لشعبنا، وفق مبدأ الشراكة الوطنية على أسس ديمقراطية، ما يتطلب توفير الشروط الضرورية، لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على أسس ديمقراطية عبر الانتخابات العامة، للرئاسة، والمجلسين التشريعي في السلطة الفلسطينية والوطني في م. ت. ف، وفق نظام التمثيل النسبي الكامل، كما اتفق عليه في حوارات القاهرة عام 2021، وإيجاد حل وطني لقضية الإنتخابات في القدس.

3) تشكيل حكومة وحدة وطنية، بمرجعية م. ت. ف، تكون مهمتها الرئيسية إعادة توحيد المؤسسات الفلسطينية في الضفة والقطاع، والعمل لإعادة بناء ما دمره العدوان في قطاع غزة، بالتعاون مع الجهات الإقليمية والدولية.

4) عملاً بالاستراتيجية الكفاحية المتوافق عليها، وبقرارات الشرعية الفلسطينية، ممثلة بالمجلسين الوطني والمركزي، الشروع في إعادة النظر بالعلاقة مع كيان الاحتلال، بما في ذلك سحب الاعتراف به، ووقف كل أشكال التنسيق الأمني معه، والانفكاك عن الاقتصاد “الإسرائيلي”، والتحرر من الغلاف الجمركي الموحد، وصياغة عقيدة نضالية لأجهزة السلطة الأمنية، لتشكل الدرع الواقي لشعبنا ومقاومته الشاملة، في مواجهة قوات الاحتلال وعصابات المستوطنين.

5) مواصلة التحرك في المحافل الدولية، لنيل العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، والانتساب إلى كافة المنظمات والوكالات الدولية المتخصصة، خاصة وكالة حقوق الملكية الفكرية وغيرها، والمطالبة بتأمين الحماية الدولية لشعبنا وبسط السيادة الوطنية على كامل أراضي الدولة الفلسطينية المستقلة.

6) التأكيد على الحق المشروع لشعبنا في مقاومة الاحتلال والاستيطان في الميدان، بكل أشكال المقاومة، وفي المحافل الدولية، وفق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.

7) الدعوة لحل القضية الفلسطينية عبر مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة، وبموجب قراراتها ذات الصلة، وبجدول أعمال ملزم بنتائجه، وسقف زمني محدد، بما يكفل الخلاص من الاحتلال والاستيطان، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 4 حزيران (يونيو) 67، وعاصمتها القدس، وحل قضية اللاجئين بموجب القرار 194، الذي يكفل لهم حق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

هل يقود “فلول الإخوان” السودان إلى الحرب الأهلية

برزت قبل وأثناء الحرب العديد من الميليشيات المسلحة المنسوبة للجيش المختطف من فلول “الإخوان المسلمين”. اندلعت الحرب في الخامس عشر من نيسان/ إبريل من العام 2023 بين الجيش المختطف وميليشيا الدعم السريع، بهدف قطع الطريق على ثورة ديسمبر المجيدة حتى لا تحقق أهدافها في بناء سلطة مدنية كاملة وتصفية الثورة.

ترامب ومخاطر استراتيجية تجاه القضية الفلسطينية العربية

تستند العلاقات الأميركية – “الإسرائيلية” على قاعدة ذهبية هي أن الولايات المتحدة الأميركية أهم حليف وداعم للكيان الصهيوني منذ قيامه في 1948 وأنها تصوغ وتفرض سياستها في منطقة الوطن العربي والشرق الأوسط، بل والعالم لضمان تفوق “إسرائيل” عسكرياً وانتصاراتها في حروبها المتتالية وقضمها لفلسطين.

[zeno_font_resizer]