خلق وظيفة مقابل قتل مئات الوظائف

يعج عالم اليوم بالأخبار العاجلة والأحداث الدامية والحروب والصراعات المنتشرة، تقريباً، في كافة بقاع العالم، حتى في أطراف القارة الأوروبية. مقابل كل هذه الأخبار الصاخبة هناك أخبار صاخبة، وشبه يومية، بعيدة من تلك المتعلقة بالحروب، وهي أخبار تتعلق بالتطور التكنولوجي والتقني الذي تشهده البشرية. على الرغم من عدم الربط بين نمطي الأخبار المذكورين إلا أنهما مرتبطان بشكل وثيق جداً. فحروب اليوم تخاض ضمن دائرة استخدام هذه التقنيات والتكنولوجيات المتقدمة.

نشهد اليوم تطوراً غير مسبوق في تاريخ البشرية من حيث تسارع التقدم التقني والتكنولوجي. ومن يتتبع تاريخ الاختراعات خلال تاريخ البشرية يمكنه أن يرى مدى سرعة هذا التسارع. قد يكون أحد أبرز العوامل المسببة لهذا التسارع الذي نشهده، هو الاستثمارات الضخمة في حقول بعض العلوم، التي تخدم تطوير وسائل الإنتاج، من أجل تخفيض كلفة الإنتاج إلى أقصى حد ممكن، وهذا ما يمكن اعتباره أحد أبرز الركائز الأساسية في نمط الإنتاج الرأسمالي.

من ضمن الحقول التي تضخ بها مليارات الدولارات لتطويرها حقل الذكاء الاصطناعي. وهو حقل ليس بالجديد، فمنذ بدايات الثورة الصناعية وظهور المحرك البخاري، بدأ الاستثمار في تطوير الآلة لتحل مكان العامل. حيث أن  قدرة الإنتاج الآلية أعلى من قدرة العامل، وتخفض من عدد العمال، وتخفيض عدد العمال يعني ارتفاع مستويات البطالة وتدني الأجر.. وبالمحصلة تنخفض كلفة الإنتاج وترتفع نسبة الأرباح. فظن العمَّال بداية أن المنافس الأول لهم الآلة فهاجموها وعملوا على تحطيمها. وعرفت في حينها هذه الحركة بحركة الـ “لودّية”.

مع الفكر الماركسي ارتفعت مستويات الوعي لدى الطبقة العاملة وأصبح الأمر مختلفاً، فعدو العامل ليس الآلة، بل طبيعة نمط الإنتاج الرأسمالي، بكافة صيغه من مرحلة الرأسمالية المتوحشة وصولاً إلى صيغتها المعروفة اليوم بتسمية النيو ليبرالية، أو “العولمة”، فتغيرت أوجه النضال العمالي.

لم تتغير الأمور منذ تشكل نمط الإنتاج الرأسمالي، بصيغته المتوحشة ولغاية اليوم بصيغته المحدثة، وجلَّ ما تغير هو الشكل الذي يعمل به هذا النظام كي يتأقلم مع كافة التطورات التي تلحق به. مع الوقت تزايدت الاستثمارات في الآلة في سبيل الوصول إلى آلة “ذكية”، يمكنها أن تحل محل العامل وهذا ما يحدث تدريجياً من خلال الذكاء الاصطناعي.

فالأمور أصبحت أكثر تبلوراً من خلال خضوعنا، بشكل تدريجي وقسري وادماني، على هذا الذكاء الاصطناعي الذي ما زلنا في بدايات تشكلاته. ومن أبسط الأمثلة على مدى خضوعنا له، مسألة الهواتف! ففي البدء كان الهاتف الأرضي، ومن ثم الجوال، واليوم أصبح الاسم المعتمد هو الهواتف الذكية! يتبلور “ذكاء” تلك الهواتف من خلال عدة عمليات أولها حفظ الأرقام وصولاً إلى حفظ المعلومات الشخصية والتنبؤ بما يمكن أن يُكتب وحفظ بصمة الأصبع والعين… فلنقم بمقارنة بسيطة مع فترة ما قبل “الهاتف الذكي” وفترة “الهاتف الذكي”.

الكثير منا يذكر وجود عمَّال السنترالات إذا أردنا إجراء مكالمة خارجية، مهنة انقرضت مع تطور الهواتف وصولاً إلى مرحلة “الهاتف الذكي”. أي أن هناك آلاف العمَّال الذين أصبحوا خارج مستلزمات سوق العمل وحل مكانهم عدداً قليلاً من العمَّال في هذا الحقل المتعلق بالهواتف الذكية. طبعاً هنا نتحدث عن عدد الوظائف والعمَّال ما قبل الهاتف الذكي.

إنه حقل بسيط يمكن أن نتلمسه يومياً من دون أن نشعر به. فالهاتف الذكي أصبح، تقريباً، جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، ولا يفارقنا إلّا خلال النوم!

وإذا أردنا أن نوسع الإطار قليلاً تصبح الأمور أكثر تخفياً ووضوحاً في الوقت نفسه. تخفياً من كثرة الاعتياد عليها حتى بتنا نراها وكأنها أمر بديهي لا بد من حدوثه، وللأسباب عينها تصبح أكثر وضوحاً إن تفكرنا بها. فلنذهب مثلاً إلى تذكر بعض المهن والوظائف التي انقرضت، ومنها على سبيل المثال، موظف المصاعد في الفنادق، ساعي البريد، إلخ.. الأمر لا يتعلق فقط بالوظائف والمهن التي انقرضت، بل يضاف إليها المهن المتوقع لها أن تنقرض مع التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي. أيضاً على سبيل المثال لا الحصر مهنة الترجمة. فمع الترجمة الالكترونية عبر المواقع المتخصصة انخفض عدد المترجمين، ومع دخول سيارات القيادة الذاتية تدريجياً إلى الأسواق ينخفض عدد سائقي سيارات الأجرة تدريجياً… ومع دخول الروبوتات إلى المصانع، من مصانع السيارات وصولاً إلى مصانع الأحذية وغيرها من الصناعات ينخفض عدد العاملين بهذه المصانع، وصولاً إلى القطاعات التعليمية، وضمناً الجامعية حيث يوجد حالياً “جامعات” افتراضية لا تتعدى مساحتها مساحة شقة سكنية اعتيادية، طبعاً الأمر يعتمد على عدد الأساتذة. وحالياً هناك أزمة، وبخاصة في القطاع التعليمي، مع برامج تُعد للطالب كل ما يحتاجه من أبحاث، مثلاً برنامج Chatgpt، بنسختيه المجانية وغير الاحترافية والمدفوعة وهي أكثر احترافية. فمهمة الطالب هنا أن يطلب من هذا البرنامج إعداد بحث له فيكون البحث جاهزاً خلال دقائق وفقاً للمواصفات التي يطلبها الطالب. فتنحصر مهمة الطالب في أن يقدم البحث للأستاذ وينال علامات مرتفعة لأنه يصعب معرفة من قام بالبحث!…

أي أن دخول الذكاء الاصطناعي إلى حقل العمل لم يكن عملية عبثية والاستثمارات المقدرة بمليارات الدولارات لم تكن استثمارات عبثية في هذا الحقل، بل تهدف إلى تخفيض كلفة الإنتاج من خلال تقليص عدد اليد العاملة. وفي أحد التقارير الصادرة عن Goldman Sachs يقول إن الذكاء الاصطناعي، المكننة تؤثر على 300 مليون وظيفة، بدوام كامل، في أميركا فقط! وبخاصة بعد أن بدأت شركات عالمية كبرى باستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل كبير في أعمالها، ومن هذه الشركات:

Amazon.com, Inc. (NASDAQ:AMZN), Alphabet Inc Class A (NASDAQ:GOOGL) and Microsoft Corp (NASDAQ:MSFT)

في المقابل هناك من يحاول تجميل صورة هذا الأمر بالقول إن الذكاء الاصطناعي يخلق فرص عمل جديدة. هذا أمر صحيح، لكن السؤال الجوهري هل يخلق الذكاء الاصطناعي وظائف بمقدار تلك التي يقتلها؟

إذا أخذنا بأقوال إيلون ماسك، فهو يقول إن الذكاء الاصطناعي سوف يقود البشرية إلى نقطة لم يعد فيها حاجة للوظائف! وما يؤكد مقولته أن هناك الكثير من التقارير الحديثة التي تتوقع أن يسرح 44% من العمَّال من وظائفهم خلال هذا العام بسبب دخول الذكاء الاصطناعي إليها. لن نذهب إلى ما يتوقعه إيلون ماسك، بل لنكن أقل تشاؤماً ونقول مجدداً هل يخلق الذكاء الاصطناعي فرص عمل بقدر ما يقتل؟

وفقاً لمسح قامت به Resume Builder كانت نتائجه على النحو التالي:

  • 37% من الشركات المستخدمة للذكاء الاصطناعي في أعمالها والتي تم مسحها تؤكد أن التكنولوجيا قد حلت مكان معظم عمَّالها.
  • 44% من الشركات التي تم مسحها تؤكد أن الذكاء الاصطناعي أدى إلى تسريح عدد من عمَّالها.

هذه مجرد نبذة صغير عن بعض التقارير الصادرة عما يخلقه الذكاء الاصطناعي في سوق العمل. فالمسألة ليست متعلقة فقط بدخول الذكاء الاصطناعي إلى سوق العمل والاستثمارات المتزايدة فيه من أجل تطويره بشكل متسارع، بل تتعلق في جوهرها في مسألة تخفيض كلفة الإنتاج من خلال محاولة تخفيض عدد اليد العاملة إلى أقصى حد ممكن.

إلّا أن هناك معضلة كبرى بدأت بالظهور مع هذا التدخل والدخول المتسارع للذكاء الاصطناعي في سوق العمل وتتمثل بارتفاع عدد العاطلين عن العمل، والأصح استخدام مصطلح المُعطلين عن العمل لأن الباحث عن العمل يمكنه القيام بهذا العمل، لكن الفرصة غير متاحة أمامه. وبهذا فهو مُعطل عن العمل قسرياً لا طوعياً. والقول عاطل عن العمل يشير ضمناً إلى أن الباحث عن العمل لا يريد أن يعمل، فيصبح هو الملام لتقصيره في البحث عن عمل.

طبعاً أكثر من يواجه أزمة البطالة هي الدول المتقدمة صناعياً لأسباب متعددة من أبرزها أن هذه الدول الأكثر تقدماً في استخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات متنوعة، تضمن راتباً شهرياً للمعطلين عن العمل حتى يجدوا عملاً… أي أن لدى هذه الدول ضمانات اجتماعية، بعامة، أكثر مما لدى الدول غير الصناعية، ويعود هذا إلى مستويات الوعي الطبقي، والنضال الطبقي الذي خاضته الطبقة العاملة من أجل حقوقها التي سقط ضحيتها آلاف الشهداء من العمَّال.

من هنا أصبح الذكاء الاصطناعي يمثل تهديداً على ثلاثة مستويات الأول: قدرة هذا الحقل على خلق فرص عمل جديدة مقابل الفرص التي يقتلها، والمستوى الثاني: المستوى السياسي بسبب ما يسببه من ارتفاع في مستويات البطالة ما يضع النظام السياسي أمام أزمات أكبر، والمستوى الثالث: المستوى الإنتاجي – الاستهلاكي. فهو نظام يخفض كلفة الإنتاج ولكنه يتسبب بارتفاع نسب البطالة، أي بعبارة أخرى تتدنى مستويات الاستهلاك، فتكسد البضائع! أي يصاب النظام الرأسمالي بخلل في آليات عمله، لذا يلجأ إلى حل أزماته الدورية بعدة سبل وقد تكون من أبرزها البحث عن أسواق جديدة فتشتعل الحروب بين الأنظمة الرأسمالية، مباشرة كما في الحربين العالميتين الأولى والثانية، أو عبر وسطائهم، من أجل الهيمنة على أسواق جديدة وحالياً تتم هذه الحروب الاستعمارية، بصيغ استعمارية جديدة، باستخدام الذكاء الاصطناعي.

طبعاً الذكاء الاصطناعي ليس السبب الوحيد في أزمة النظام الرأسمالي، بصيغته الحالية، لكنه من أحد الأسباب. كي تكون الأمور أكثر وضوحاً الأزمة لا تكمن في تطوير الذكاء الاصطناعي، فهنا لا نتحدث بلغة “اللودّية”، بل جوهر الأزمة يكمن في طبيعة النظام الرأسمالي. فقد ساهم الذكاء الاصطناعي في تمركز الثروات في أيدي قلة قليلة من سكان الأرض، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر إيلون ماسك، تعد ثروته أكبر من موازنة مجموعة بلدان، وكذلك بيل غيتس… ويقدر مجموع ثروة أغنى 10 أغنياء في العالم، وفقاً لمجلة فوربس، بما يقارب 12.2 تريليون دولار! وأغناهم حالياً الفرنسي برنارد أرنو (Bernard Arnault) وقيمة ثروته حوالى 236 مليار دولار، يليه جيف بيزوس (Jeff Bezos) بثروة قيمتها حوالى 193 مليار دولار، نحن اليوم نتحدث عن مبالغ تصل قيمتها إلى تريليونات الدولارات يمتلكها فقط 10 أشخاص في العالم! ما يؤكد مقولة ماسك “لا حاجة إلى الوظائف”، فالذكاء الاصطناعي سوف يقوم بكل الأعمال! وبيل غيتس يقترح لحل الأزمة التي تصيب النظام الرأسمالي أن تفرض ضرائب على الروبوتات في المصانع كما تفرض الضرائب على مداخيل العمَّال…

حلول يقترحها أثرياء العالم من ضمن آليات عمل النظام الرأسمالي، وبالنسبة لهم أجور اليد العاملة هي سبب الأزمة، فكان بداية البحث عن يد عاملة رخيصة في البلدان التي في طور النمو، وحالياً بالنسبة لهم ولمنظري النظام الرأسمالي الحل يكمن باستبدال اليد العاملة بالذكاء الاصطناعي متناسين أن طبيعة النظام الرأسمالي هي سبب الأزمة. لذا نجد آلاف التقارير المبهرجة لتسويق دخول الذكاء الاصطناعي إلى السوق، والداعية إلى زيادة الاستثمار في هذا الحقل من أجل تطويره. بالإضافة إلى أمر في غاية الأهمية تهمله كافة التقارير المبهرجة لتسويق الذكاء الاصطناعي وهي أن وعي الطبقة العاملة يهدد النظام الرأسمالي، بينما الذكاء الاصطناعي خارج هذه الدائرة، حتى تاريخه، بصيغه الراهنة!

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

مأزق ترامب وأزمة نتنياهو أمام صمود غزة

انقلبت الإدارة الأميركية على اتفاق وقف إطلاق النار بمراحله الثلاث والذي كان بوساطتها مع مصر وقطر وقد دخل حيز التنفيذ بين المقاومة الفلسطينية وحكومة الاحتلال

قراءة سياسية للمشهد اللبناني: تحدّيات مواجهة العدوان الصهيوني في ظل التركيبة السلطوية المستجدة

يمرّ الوضع اللبناني بمرحلة شديدة الخطورة على جميع الصعد، فمن ناحية ما زال العدو الصهيوني يحتلّ عدداً من المواقع الحدودية، بما يشكّل انتهاكاً سافراً  لاتفاق

كيف يسرق العدو الصهيوني المياه اللبنانية

إنَّ الأطماع الصهيونية في المياه اللبنانية لها تاريخها الطويل، ذُكر بعضها في اللمحة التاريخية عن الأطماع “الإسرائيلية” في المياه العربية وسرقتها (في العدد الرابع عشر