حول جدوى المقاومة أو لماذا نطرق جدار الخزان؟

لماذا لا يتقبل الشعب الفلسطيني الأمر الواقع؟ لماذا لا زال يقاتل ويدفع أثماناً باهظة من أرواح وممتلكات وحياة يومية صعبة؟ لو تقبل الفلسطيني فقدانه لأرضه وعاش “بسلام” إلى جانب جارته الجديدة “إسرائيل” لما وجدناه اليوم يحمل جثامين أطفاله، أو كما ادعت غولدا مائير “ليت الفلسطينيين يحبون أطفالهم بقدر ما يكرهوننا”.

لطالما كانت قضية فلسطين حجة الديكتاتوريات لقمع الشعوب، أما آن لهذه القضية أن تنتهي لنعيش حياتنا كعرب دون شماعة أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة؟

كم مرة استمعتم لمثل هذه التساؤلات حول جدوى المقاومة واستمراريتها لعقود طويلة؟

كان طوفان الأقصى، منذ 200 يوم، طوفاناً فكرياً وإنسانياً ووجدانياً طاف العالم بأكمله، ليعيد سؤال جدوى المقاومة إلى الواجهة مجدداً ويجيبه بأن علينا دائماً وأبداً أن نطرق جدار الخزان.

فهذا الطوفان الذي أحيا قضية يخطط لإماتتها منذ سنوات، نفض العالم لترى أجيال في الغرب من المتقوقعين على أنفسهم والذين تشغلهم الآلة الإعلامية بتوافه تلهيهم عن رؤية العالم الحقيقي، بأن هناك شراً محض يحدث تحت أنفك، موجة الوعي التي اجتاحت الجيل “زد” كما يسمى خاصة في أميركا موجة أعلى مما كان يتوقعه أي شخص، تعلم فيها المراهقون أن تعرض بلادهم لأعمال عنف من الخارج بسبب قرارات حكوماتهم، ووحدهم كمواطنين هم الضحايا، انتبه المواطن الأبيض بأنه غارق في ديونه السكنية وتأمينه الصحي الرديء وقروضه التعليمية بينما تمول حكومته بالمليارات مجازر في قارة بعيدة من أموال الضرائب التي يدفعها.

كشف هذا الطوفان بأن مظفر النواب لم يكن مخطئاً حين قال “إن بغايا السياسة أوسخ صنف وأوسخ منهم بغايا الصحافة”، حين شاهد العالم علناً كذب الإعلام الغربي، وتحوير الحقائق، والعنصرية البيضاء التي تباكت على الأوكرانيين ووصفت الفلسطينيين بأنهم إرهابيون وضحايا أنفسهم وأفعالهم، وصرح مراسلوها بصريح العبارة بأن الأوكرانيين بيض شقر يشبهوننا، وتأكدنا، كصحفيين، بأن مهنية الإعلام الغربي أكذوبة.

أعادت المقاومة قراءة العالم، ومفاهيم من هو الإرهابي ومن هو المحتل ومسألة اجتثاث السكان الأصليين وكيف يتم استخدام اتهامات معاداة السامية على الطالعة والنازلة في قمع واضح لحرية الرأي، وكشف السياسات الشرسة للحكومات ونفاقها الدولي، والأهم في هذا كله كشف حقيقة الدولة الموعودة للصهاينة أنفسهم، وعد الكيان بأنه سيكون البلد الآمن ليهود العالم ولم يستطع حماية مواطنيه، وفجعوا بعدم قدرة جيشهم، أحد أقوى جيوش العالم، على مجابهة مجموعة تحمل أسلحة صنعت يدوياً يجرون بتريينغ اديداس دون حذاء.

وحتى ديسمبر 2023 غادر الأراضي المحتلة 370.000 إسرائيلي، منهم 230.309 غادروا للهجرة وغير معروف نية عودتهم، وفي حين كانت الهجرة اليهودية إلى الأراضي المحتلة للاستيطان بمتوسط 4500 مهاجر شهرياً صارت بعد أحداث 7 أكتوبر 2000 مهاجر فقط.

وذكرت صحيفة “ذا ماركر” إحصائية بأن 20% من الإسرائيليين مهتمين بشراء العقارات في أوروبا خاصة في البرتغال وقبرص واليونان، وبأن شركات العقارات تتلقى ما بين 4 إلى 10 مكالمات يومياً من إسرائيليين مهتمين بشراء العقارات خارج الأراضي المحتلة.

هذه الهجرة العكسية، وانخفاض أعداد المهاجرين للأراضي المحتلة إلى النصف، لم تكن لتحدث لولا المقاومة، المقاومة التي كان لها أثر نفسي عميق على المحتلين، إذ بحسب الاحصائيات الإسرائيلية فحتى يناير 2024 هناك 300.000 إسرائيلي شخصوا كمرضى نفسيين، ليست الفكرة في ذلك عاطفية بأننا أرعبناهم، لكن لهذه المعلومة قيمة عسكرية، لها أثر بالغ على وجود الكيان بحد ذاته، فالقانون الإسرائيلي ينص على عدم تجنيد من يعانون من أمراض نفسية، وبهذه الأعداد الهائلة من المشخصين فقد خسر الكيان جزءاً كبيراً من جيشه الاحتياطي. 

أضف إلى ذلك أن كل الانتهاكات الحقوقية التي تحدث بين الصهاينة أنفسهم كشفت بعد 7 أكتوبر للعالم ولم تعد “إسرائيل” جنة الغرب في الشرق الأوسط، ولأول مرة تفشل البروبغندا الصهيونية، فقد عرف بأن النساء في الكيان يجلسون في المقاعد الخلفية في الباصات، والأثيوبيات اليهوديات يتم حقنهم قسراً لإصابتهم بالعقم لئلا يتكاثروا، وأن المجندات الإسرائيليات يتعرضن للاغتصاب بأعداد مهولة من المجندين، يحدث هذا رغم كل محاولات الإعلام الغربي والصهيوني تلميع صورة الكيان الإسرائيلي، فقد نسي هؤلاء أننا لسنا في الستينات وأن لمسة لوح صغير نحمله في أيدينا تكشف كل ما يحاولون تخبئته.

ولإجابة سؤال جدوى المقاومة المستمرة كما قال الشهيد باسل الأعرج، فهي أن يرى العالم من تدهسهم البساطير العسكرية، وأن للضعيف صوتاً، وموت قضية كهذه هو موت تام لقيم العدالة والرحمة التي ينادي بها العالم، وتطبع التصالح مع كل عصابة في المستقبل تقرر أن تجتمع وتحمل سلاح حلفائها لتغتصب أي أرض تعجبها، فكما قال أمل دنقل “إن سهماً أتاني من الخلف سوف يجيئك من ألف خلف”.

وحين تتساءل أنت يا من لا تحمل سلاحاً أو قراراً عن جدوى مقاومتك بالكلمة تذكر ما قاله الإرهابي نتنياهو “أكبر عقبة أمام توسيع دائرة السلام ليست زعماء الدول التي تحيط بنا بل هي الرأي العام في الشارع العربي الذي تعرض على مدار سنوات طويلة لدعاية عرضت إسرائيل بشكل خاطئ ومنحاز”، تذكر أنك أنت العقبة وصاحب التأثير ومن قال لا في وجه من قالوا نعم، وأنك بكلمتك تساند من هم تحت النار وحاملي قذيفة الياسين.

إنّ المقاومة ليست مصطلحاً سياسياً فقط بل قيمة عليا عرفها الإنسان منذ بداية البشرية، يمارسها في كل جوانب حياته كلما تعرض هو أو غيره للظلم، مدافعاً عن أرضه وعرضه وكرامته وثرواته وإحساسه بالأمان.

هذه القيمة العليا يجب أن تستمر مع كل الأجيال وقد شهدنا خلال 200 يوم من العدوان على غزة خروج العديد للتظاهر والاعتصام دعماً للقضية الفلسطينية، وجلب بعض الآباء والأمهات أطفالهم لهذه التجمعات مشاهدين أو حاملين للافتات وهاتفين أحياناً، وقد استمعت وقرأت الكثير من الآراء حول عدم الزج بالأطفال في هذا النوع من القضايا حفاظاً على طفولتهم وبقاء براءتهم والأهم عدم أدلجتهم. لكن تربية الأطفال على دعم القضية الفلسطينية لا يحقق فقط استمرارية المقاومة بل هي صلب التربية الحديثة التي تسعى لها الأسر حالياً، يتحقق ذلك من خلال:

  • فتح باب الحوار ينمي مهارات التفكير والفهم وطرح الأسئلة لدى الطفل.
  • تشجيع الطفل على التعبير والقدرة على الرفض وينمي ذلك قوة شخصيته.
  • تعزيز التعاطف الإنساني لدى الطفل وتعويده على تعاطف عابر للحدود، فالتعاطف مع القضية الفلسطينية يعزز الانتماء البشري لدى الطفل خارج قوقعة منزله وحدود الوطن.
  • يتعلم الطفل من خلال دعم القضية واجبه الإنساني في رفض الظلم الواقع على الآخرين لا يشترط أن يقع عليه، هذا يخلق من الطفل إنساناً أفضل.
  • يتعرف الطفل من خلال القضية الفلسطينية على مفاهيم الخير والشر والاختيار بينها.
  • يفهم الطفل فكرة رد العدوان وأهمية حماية نفسه والمستضعفين.

إنَّ المقاومة جدوى إنسانية، واستمراريتها عبر الأجيال تخلق إنساناً أكثر اندماجاً مع فطرته البشرية، المقاومة قيمة عليا للفرد والأسرة والمجتمع قبل الدول وسياساتها.

لقد حمل مصطلح أدلجة دلالات سلبية عبر السنوات، لكن ينسى المنتقدون بأن كل الأيديولوجيات اجتمعت على دعم القضية الفلسطينية، إنها القضية الوحيدة التي تجمع كافة الأطياف والمدارس الفكرية والطبقات والشرائح والأديان والأعراق المختلفة، فإن كانت تربية الأجيال على دعم القضية الفلسطينية أدلجة بالدلالة السلبية فأهلاً بهذه الأدلجة التي جمعت بشراً باختلافاتهم.

جدوى المقاومة أن لا نجد أبا يحمل أشلاء أبنائه في كيس بلاستيك، وأمل بأن يأتي اليوم الذي تفتتح به صباحك كما افتتح ساراماغو روايته انقطاعات الموت “في اليوم التالي لم يمت أحد”.

*كلمة ألقيت ضمن ندوة اتحاد الشباب الديمقراطي الكويتي بمناسبة مرور 200 يوم على طوفان الأقصى ضمن حملة “معكم حتى التحرير”.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

هل يقود “فلول الإخوان” السودان إلى الحرب الأهلية

برزت قبل وأثناء الحرب العديد من الميليشيات المسلحة المنسوبة للجيش المختطف من فلول “الإخوان المسلمين”. اندلعت الحرب في الخامس عشر من نيسان/ إبريل من العام 2023 بين الجيش المختطف وميليشيا الدعم السريع، بهدف قطع الطريق على ثورة ديسمبر المجيدة حتى لا تحقق أهدافها في بناء سلطة مدنية كاملة وتصفية الثورة.

ترامب ومخاطر استراتيجية تجاه القضية الفلسطينية العربية

تستند العلاقات الأميركية – “الإسرائيلية” على قاعدة ذهبية هي أن الولايات المتحدة الأميركية أهم حليف وداعم للكيان الصهيوني منذ قيامه في 1948 وأنها تصوغ وتفرض سياستها في منطقة الوطن العربي والشرق الأوسط، بل والعالم لضمان تفوق “إسرائيل” عسكرياً وانتصاراتها في حروبها المتتالية وقضمها لفلسطين.

[zeno_font_resizer]