حرب الإبادة الجماعية الصهيونية على غزة على قاب قوسين من دخول شهرها الثامن. والعداد يرفع من منسوب الشهداء والجرحى والمفقودين، ومن مستوى التدمير والتهجير وحشر الفلسطينيين العزل في “رفح”، والتلويح باجتياحها إمعاناً من قادة العدو الصهيوني المضي قدماً للخروج من عنق الزجاجة، وتحقيق إنتصار مفقود ما، بات صعب المنال.
في الواقع، لم يواجه الكيان الصهيوني منذ 75 عاماً على احتلاله لفلسطين حرباً مماثلة. إنْ بالشكل والحجم والنوعية، أو بقوة صمود شعب محاصر وإصراره على التمسك بأرضه وهويته واحتضان مقاومته حتى الرمق الأخير. وكلما أمعن في ممارسة فاشيته ووحشيته، إزداد شعب غزة في المقابل صلابة واستبسالاً دفاعاً عن مقاومته وحقوقه لوقف الحرب العدوانية وفك الحصار وإدخال المساعدات الإنسانية، ومحاكمة قادة العدو على جرائم الإبادة الجماعية. من دون مناورات أميركية ملغومة لتطويق المقاومة الفلسطينية أو تقويض الانتصارات المحققة، بغرض فك عزلة الكيان الصهيوني، وحفظ ماء وجه جيش العدو الذي لا يقهر. وسقوط ورقة التوت عن أسطورة الوهم للحركة الصهيونية وللاستعمار منذ وعد بلفور وسايكس – بيكو إلى صفقة القرن.
الحرب العدوانية الإمبريالية – الصهيونية الشاملة على غزة، وإنْ كان هدفها تصفية القضية الفلسطينية، وإلغاء حقوق الشعب الفلسطيني، وتنفيذ عملية التجهير الكبرى. إلّا أنها تستهدف ترتيب خارطة المنطقة، واستكمال عمليات التطبيع مع الكيان الصهيوني. ثم التفرغ لمحاصرة ومعاقبة وتأديب قوى المقاومة والتحرر الوطني في المنطقة، تمهيداً لتنفيذ مشروع “الخط الهندي” وتأبيد السيطرة الإمبريالية الأميركية الاحادية على خطوط الإمداد والنقل والنفط والغاز إلخ… لقطع الطريق على مبادرة (الحزام والطريق) الصينية، وتسعير الحرب بين أوكرانيا وروسيا.
لكن حساب البيدر لم يتطابق مع حسابات الإمبريالي الأميركي والصهيوني، ولم تسعفهما تكنولوجيا الأدوات الحربية القاتلة، ولا كمية ووحشية المجازر النازية المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، ولا تحشيد الأساطيل المنتشرة في البحر الأبيض المتوسط، ولا كل هذا التأييد الأطلسي، ولا مباركة الرجعية العربية للعدوان. بسبب أن المقاومة الوطنية الفلسطينية فرضت معادلتها في الميدان، وأن الفلسطينيين في غزة شكلوا المظلة والحاضنة للمقاومة، بحيث استطاع هذا التلاحم كسر النمط الأوسلوي (نسبة إلى أوسلو)، وغيَّر وجه الصراع الفلسطيني – الصهيوني، وعدَّل من مساره ومحدداته وأهدافه عن طريق خيار المقاومة، وجنباً إلى جنب مع قوى المقاومة والتحرر العربية والإقليمية والعالمية، وبمساندة ودعم شعوب المنطقة والعالم أجمع.
عملية طوفان الأقصى خلطت أوراق المنطقة برمتها، وغيرت حسابات ومعادلات غير متوقعة، وأدخلت أوزاناً ثقيلة دولية وإقليمية إلى ساحة الحرب مباشرة. بما فيها دخول إيران مباشرة على خط المواجهة ضد العدو الصهيوني من خلال الرد العسكري الحاسم ليل 13/14 نيسان الماضي، وفي رسالة واضحة بعدم التنازل عن حقها في الدفاع عن نفسها إثر استهداف العدو الصهيوني لقنصليتها في دمشق. الرد الإيراني بدوره شغل مراكز العالم، ورسم معادلة مختلفة للصراع في منطقة الشرق الأوسط، رغم تأكيد كل من أميركا وإيران بعدم تصعيد الحرب. لكن، يبقى الباب مفتوحاً للعصف الفكري وتحليل المؤشرات إلى أين؟ وماذا بعد؟ ولمروحة من الاحتمالات المفتوحة القادمة. وهي بالأساس تستند إلى المحددات الاستراتيجية للإمبريالية الأميركية والمتغيرات الحاصلة، وأهمها:
الشراكة الإمبريالية التامة مع الكيان الصهيوني في العدوان على غزة.
قوة التفرد للسيطرة على المنطقة ومقدراتها، ومحاربة أي قوة دولية وإقليمية تهدد مصالحها الحيوية الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط.
حماية الكيان الصهيوني باعتباره قاعدة استعمارية متقدمة في المنطقة، وضمان تفوقه النوعي العسكري، واستكمال مسار التطبيع. والقضاء على قوى المقاومة والتحرر الوطني.
في المتغيرات:
– مأزق الكيان الصهيوني بعد عملية طوفان الأقصى، ومسارعة الإمبريالية الأميركية لدعمها وحمايتها، وتحشيد الدعم الأوروبي لإنقاذها.
– ضغط الانتخابات الأميركية المرتقبة في شهر تشرين الثاني- نوفمبر 2024، ومؤشراتها الانتخابية التي لا تصب في مصلحة بايدن وحزبه الديمقراطي. بسبب أن القضية الفلسطينية اخترقت الانتخابات الأميركية وأثرت على نسب التصويت.
– تعرية الصورة النمطية للإمبريالية الأميركية كحامية للديمقراطية وحقوق الإنسان. وإنكشاف زيف إدعاءاتها في الحرص على القيم والحضارة والقوانين الإنسانية.
– خشية الإدارة الأميركية الحالية من تعدد جبهات الحروب واستنزاف قدراتها، في ظل استمرارها في تسعير ودعم الحرب الأوكرانية – الروسية. وفي ظل دعم العدوان الصهيوني على غزة.
– تزايد التهديدات للملاحة في البحر الأحمر، بعد تصاعد عمليات اليمن ضد السفن التابعة للكيان الصهيوني، والتأثير الجدي على حركة التجارة الدولية.
– رغبة الإدارة الأميركية بحصر المواجهة في غزة، والخشية من التورط (فخ نتنياهو) في حرب إقليمية واسعة النطاق غير محسوبة.
– تنامي التفاف شعوب العالم الداعمة للقضية الفلسطينية، وإرتفاع وتيرة الاحتجاجات ضد العدوان الأميركي – الصهيوني على غزة. وما تشهده الإنتفاضة الطالبية في الجامعات الأميركية وإنتشارها في أوروبا وأوستراليا المساندة لنضال الشعب الفلسطيني والمطالبة بوقف الحرب والإبادة الجماعية في غزة، ومقاطعة الكيان الصهيوني، إلّا تأكيداً على أحقية القضية الفلسطينية، وكسر شماعة “معاداة السامية” والمشروع الاستيطاني العنصري الصهيوني.
في مؤشرات السيناريوهات المحتملة:
الأول: استمرار العدوان لفترة تمتد إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، كونه يوفّر فرصة أمام العدو الصهيوني لتحقيق أهداف عدوانه على غزة بعد فشله الذريع في ذلك. ويفسح المجال لشد الخناق على إيران وإضعافها، واستنزاف حلفائها في المنطقة ولا سيما في لبنان واليمن والعراق. ويعطي الوقت اللازم للأميركي لتركيب ميناء على شاطئ غزة، كمؤشر على إطالة أمد العدوان، وإستخدامه لأغراض عسكرية ولوجستية لإعادة تموضع قوات العدو الصهيوني، وإعتباره المخرج لتنفيذ عملية التهجير بديلاً عن معبر رفح.
الثاني: توسيع دائرة الحرب في المنطقة
تبدو فرص هذا السيناريو غير مرتفعة وفقاً للمؤشرات الحالية. فأميركا غارقة في أزمتها السياسية والاقتصادية، وفي إدارة حروبها العسكرية والاقتصادية ضد روسيا والصين وغزة. وتخشى إتساع رقعة الحرب والمواجهة في المنطقة، لحسابات لا تخدم مصالحها الاستراتيجية. غير أن عدم الرغبة الأميركية بتوسّع دائرة الحرب لا يعني استبعاد هذا السيناريو من الحسابات، في ظل تباين وجهات النظر بين حسابات بايدن وحسابات نتنياهو الذي يحاول توريط الإدارة الأميركية في حرب إقليمية إنقاذاً لحكومته وحياته السياسية المستقبلية.
الثالث:هدنة مؤقتة طويلة
التوصل إلى هدنة مؤقتة طويلة مرتبطة بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى وإدخال مساعدات إنسانية إلى غزة. بعد إنسداد أفق الحل السياسي في الوقت الراهن.
هذا السيناريو يبدو أن الأميركي يعمل عليه بقوة لتقريب وجهات النظر في المفاوضات الجارية حالياً. رغم حساسية وخطورة هذا السيناريو، وأهدافه الخبيثة، إلّا أن المقاومة الفلسطينية أظهرت قدرتها وبراعتها في التفاوض بما يليق بالتضحيات ويعزز الانتصارات ويحفظ أوراق قوة وصلابة المقاومة.
السيناريوهات المحتملة، كل منها يواجه صعوبات. ولكن نستطيع القول على ضوء المستجدات إن الأميركي ليس طرفاً محايداً في الصراع، أو صالحاً لرعاية أي حل للقضية الفلسطينية بعد عملية طوفان الأقصى التي فرضت تغيراً مفصلياً في مجرى القضية الفلسطينية، وفي مسار التعاطي معها، وفي البحث عن حل جذري لها. فالقضية لم تعد تدار في المؤتمرات والمفاوضات والغرف السوداء، بل تتبلور بالميدان وإلى جانبها هذا الكم الشعبي والسياسي العربي والعالمي غير المسبوق في تاريخه.
مع تبلور فرز الألوان بين قوى المقاومة والتحرر الوطني العربية، وبين قوى الاستسلام والخيانة والتطبيع مع الكيان الصهيوني.
المقاومة الفلسطينية تسمك بأوراق قوتها الميدانية جيداً، وتحمي غنائمها من الأسرى بعناية، وتدرك جيداً المأزق السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي للمحتل الصهيوني.
التوتر في المنطقة يشتد، ويبدو أن سياسة العض على الأصابع باتت واضحة. العدو الصهيوني يمعن في مجازره وحصاره لغزة، ويدفع نتنياهو باتجاه اقتحام رفح لتبيض صورته ورفع معنويات جيشه المنهار، وترقيع ثوب الثقة بين حكومته ومجتمع الكيان الصهيوني بعد فشله في تحرير الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية. أما المقاومة الفلسطينية فتسمك بأوراق قوتها الميدانية جيداً، وتحمي غنائمها من الأسرى بعناية، وتدرك جيداً المأزق السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي للمحتل الصهيوني. أما مؤشر التدخل الإيراني المباشر وإنْ كان مدروساً ومعلوماً ومحدوداً قبل حصوله، إلّا أنه بات يشكل ثقلاً كبيراً في مجرى الصراع، لم يتوقعه العدو الصهيوني، ولم يختبره مباشرة. خصوصاً، بعد مسيرة تلقيح بعض أنظمة الخيانة العربية بفيروس الإنهزام والتطبيع.
******
يستحق هذا الشعب الجبار الذي عمَّد صموده بدماء أطفاله ونسائه وشيوخه، والتحم بمقاومته الوطنية. واستطاع الثبات في وجه أعتى عدوان صهيوني مدعوم من الإمبريالية الأميركية والأطلسية وأدواتها في المنطقة وكسر شوكتهم، أن ترفع له القبضات وتهتف له الحناجر في ساحات وجامعات العالم أجمع، وأن تتزين بالعلم الفلسطيني والكوفية الفلسطينية، وأن تتحول قضيته المحقة إلى قضية وطنية وأممية مركزية دعماً وتأييداً ومساندة لنضاله ولمشروعية مقاومته وحقه في تحرير أرضه والعودة والتعويض وإقامة دولته الوطنية الديمقراطية على كامل ترابه وعاصمتها القدس.
(*) – تمت مراجعة مجموعة من التقارير والدراسات والبيانات ذات الصلة.
صوتت الأمم المتحدة يوم الأربعاء 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي على مشروع القرار المعنون ”ضرورة إنهاء الحصار الاقتصادي والتجاري والمالي الذي تفرضه حكومة الولايات المتحدة ضد كوبا“، حيث صوتت 187 دولة لصالح إلغاء هذه السياسة الأميركية المعادية .
تجددت الاشتباكات بين جنرالات الحرب في السودان الجنرال “حميدتي” قائد ميليشيا الدعم السريع، والجنرال البرهان قائد الجيش المختطف من الحركة الإسلامية، بشكل أكثر شراسة خلال شهر أكتوبر المنصرم على جميع محاور القتال، بخاصة في محوري الخرطوم وولاية الجزيرة.
خلاصة خبرتها النضالية ورؤيتها الثورية المفعمة بروح المقاومة والثقة بتحقيق النصر وتحرير فلسطين كل فلسطين، ولتضع أمامنا قراءتها للمشهد المقاوم المستمر منذ أكثر من عام في مواجهة العدوان الصهيوني على قطاع غزة الصامد، بالإضافة إلى حديثها عن الحاضنة الشعبية للمقاومة ودور جبهات الإسناد في دعمها.
في هذه المعركة المفتوحة، والطويلة، وبغض النظر عن مساراتها، ومراحلها، تترابط مسائل التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي ومواجهة السيطرة الإمبريالية وربيبتها الصهيونية، فلنكن على مستوى التحدّي.