اتفاق 17 أيَّار/ مايو بين النظام اللبناني والكيان الصهيوني: أسبابه وأهدافه وكيف أسقط

في الخامس عشر من كانون الثاني/ يناير 1983، تصدّر جريدة “العمل”، الناطقة بلسان حزب الكتائب اللبنانية، تصريح لفادي أفرام، قائد القوات اللبنانية، يندد فيه بـ “الأيدي الشيوعية” وبمحاولة الحزب “الشيوعي إحباط مخطط السلم الذي وضع للبنان”… كان فادي أفرام يؤشر، ليس فقط لدور الحزب في إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (ج م و ل)، بل كذلك للعمليات النوعية التي نفّذها، منذ العشرين من أيلول/ سبتمبر من العام 1982، بدءاً من بيروت ومن ثم في الجبل والبقاع، وخاصة على طريق بيروت – صيدا، طريق هو شي مينه كما أطلق عليها جنود الاحتلال الصهيوني تيمناً بما جرى مع القوات الأميركية الغازية في فيتنام. فهذه العمليات، وغيرها من التي نفذتها أطراف المقاومة الوطنية، كانت تظهر أن قوى راجحة من الشعب اللبناني ترفض الاحتلال والمتعاملين معه، وأنها ستحرر كل شبر من تراب الوطن، ولن تسمح للعدو الصهيوني أن يحقق مبتغاه من “مفاوضات السلام” التي انطلقت في الثامن والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر (1) من منطقة خلدة القريبة من العاصمة، ومن ثم تنقلت لما يقارب الثمانية أشهر بين خلدة وكريات شمونة، بإشراف وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية آنذاك جورج شولتز وبحضور سفيرها موريس درايبر.

في تلك الفترة، كانت عمليات المقاومة، كما أسلفنا، تلاحق الجنود الصهاينة وتقض مضاجعهم، على الرغم من الاعتقالات الواسعة في صفوف المواطنين اللبنانيين واللاجئين الفلسطينيين، ومن المجازر التي لم تتوقف بعد مجزرتي صبرا وشاتيلا، وكذلك التصفيات الجسدية التي طالت المئات. وكان مسؤولو الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي ينشطون مع بعض أحزاب “الحركة الوطنية” السابقة وبعض القوى التقليدية من أجل تشكيل جبهة مواجهة الهدف منها منع العدو الصهيوني من تحقيق أطماعه المكشوفة في لبنان، والتي ظهر بعضها جلياً في المفاوضات. كما كانت صحافة الحزب وبياناته تفضح ما يجري في كواليس كريات شمونة من محاولات لضم الأراضي اللبنانية المحتلة عام 1973، مؤكّدة على ضرورة العودة إلى “اتفاق الهدنة” الموقّع بين لبنان والكيان الصهيوني في 23 آذار/ مارس 1949 والذي أعاد في نقطته الخامسة تكريس حدود لبنان الدولية كما كانت عليه في 23 كانون الأول/ ديسمبر 1920 (2) والامتناع عن تقديم تنازلات مجانية للعدو.

غير أن حساب البيدر الرجعي حاول توجيه ضربة لحساب الحقل الوطني، كما يقال. فأقدّم النظام اللبناني التابع على التنازل عن حقوق الوطن وحقوق الشعب في المعاهدة التي وقّعها رئيس الجمهورية اللبنانية ومعه الحكومة، وأثنى عليها المجلس النيابي ومهرت بمباركة مندوب واشنطن. هذه المعاهدة التي عرفت باتفاق 17 أيَّار/ مايو، أو اتفاق الذل الذي لم يدم طويلاً، إذ اندلعت “حرب الجبل” بعد يومين فقط على توقيع الاتفاق، ولم تنفع حاملات الطائرات الأميركية والقوى العسكرية المتعددة الجنسية من المساعدة على تثبيته.

ما بين اتفاقية كامب دايفيد واجتياح لبنان: التاريخ السرّي للاغتيالات

تجدر الإشارة، بداية، إلى أهمية فهم المرحلة التي سبقت اجتياح لبنان، وبالتحديد ما بين النصف الثاني من العام 1978 والنصف الأول من العام 1982، أي المرحلة ما بين خروج الرئيس المصري أنور السادات عن الخط التحرري العربي وانتخاب رونالد ريغان رئيساً للولايات المتحدة الأميركية.

لقد مهّد إقدام الرئيس المصري الأسبق أنور السادات على توقيع معاهدة سلام مع الكيان الصهيوني، في 17 أيلول / سبتمبر 1978 في منتجع كامب دايفيد الأميركي، وبإشراف رئيس الولايات المتحدة آنذاك جيمي كارتر، لبدء مرحلة جديدة في الصراع العربي – الصهيوني. غير أن توقيع تلك المعاهدة لم يكن كافياً بالنسبة للعدو، خاصة وأن الشعب المصري، بقواه العاملة ومثقفيه، رفض التطبيع مع العدو، وأن المخطط الصهيوني لم ينجح، رغم اجتياح جنوب لبنان في العام 1978، في القضاء على المقاومة الفلسطينية ومعها الحركة الوطنية اللبنانية التي تؤمّن لها الغطاء الشعبي والسياسي كما وتشاركها في عملية مواجهة العدو الصهيوني. لذا، كان من الضروري بالنسبة لهذا العدو السعي لتوجيه ضربات قاصمة للطرفين، عبر تنظيم عمليات إرهابية داخل مخيمات اللاجئين وخاصة داخل منطقة تواجد قيادات منظمة التحرير الفلسطينية والمراكز الرئيسية لأحزاب الحركة الوطنية في بيروت. من أجل ذلك، عقد في تموز / يوليو 1979 في مدينة القدس المحتلّة مؤتمر حول “الإرهاب العالمي” نظّمه معهد جوناثان وطرحت فيه نظرية “مواجهة الإرهاب بالإرهاب”؛ بعدها، قام العدو مع عملائه الداخليين باختراع مجموعة أطلق عليها اسم “جبهة تحرير لبنان من الغرباء” نفّذت عبرها عشرات العمليات الإرهابية في بيروت خاصة، بدءاً بزرع سيارات مفخخة في المناطق الرئيسية للعاصمة وتفخيخ المعلّبات وحاويات القمامة وغيرها(3) … هذا، إضافة إلى قصف الطائرات شبه اليومي لبيروت والجنوب والطريق الساحلي بينهما، بينما تستمر الحرب الأهلية التي قسمت البلاد إلى قسمين والتي دخل الكيان الصهيوني من بابها العريض، مستفيداً من أحد أطرافها من أجل الوصول إلى مأربه في السيطرة على لبنان وتصفية منظمة التحرير الفلسطينية بعد ترحيل قادتها وقواها العسكرية إلى تونس. (4)

ما هي أبرز محتويات الاتفاق المعلن؟ ولماذا سمّي “اتفاق الذل”؟

يمكن القول إن اتفاق 17 أيَّار/ مايو سمي “اتفاق الذل”، كونه يؤسس لاستسلام كلي من قبل الدولة اللبنانية لكامل مطامع الكيان المعتدي.

فهو ينص منذ مقدمته على إنهاء حالة الحرب مع العدو وعلى الرغبة “في إقامة أمن دائم بين البلدين وتلافي التهديد واستعمال القوة في ما بينهما، رغبة منهما في إقامة علاقاتهما المتبادلة”، خلافاً لاتفاق الهدنة الذي يشكّل مجرد وقف لإطلاق النار دون إنهاء حالة العداء.

و”إنهاء حالة الحرب” هذه مقدمة لما تضمنته مواد الاتفاق من تنازلات جوهرية في مجالي السيادة والاستقلال. فقد نصّت الفقرة الأولى من المادة الأولى على الاعتراف بالكيان وإنهاء حالة الحرب معه قبل أن يتم انسحاب الاحتلال عن الأراضي اللبنانية. كما نصّت المادة الثالثة على إنشاء “منطقة أمنية” داخل لبنان فقط، منزوعة السلاح الثقيل وتتواجد فيها شرطة مسلّحة بأسلحة خفيفة ستكون موجهة، بالطبع، إلى الداخل اللبناني لمنع من يحاول تجاوز الخط الأمني والاقتراب من الحدود مع فلسطين المحتلة. أما المادة الرابعة، فتضمنت في فقرتها الثالثة المنع عن “القيام أو الحث، أو المساعدة والاشتراك في تهديدات، أو أعمال حربية أو هدّامة أو تحريضية أو عدوانية أو الحث عليها ضد الفريق الآخر، أو ضد سكنه أو ممتلكاته، داخل أراضيه أو انطلاقاً منها، أو داخل أراضي الفريق الآخر”.

ولا ننسى طبعاً ما جاء في مجال منع الإعلام المعادي، أو لجهة انتشار قوات دولية على الأرض اللبنانية مؤلفة من بين الدول التي لها علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني ووضع وحدة منها في منطقة صيدا. كما لا ننسى، أخيراً، مسألة إنشاء لجنة اتصال مشتركة، تكون الولايات المتحدة عضواً فيها، ومهمتها “الاشراف على تنفيذ الاتفاق” و”التفاوض في عقد اتفاقات حول حركة السلع والمنتجات والأشخاص”، أو، بكلمة واحدة، التطبيع المترافق مع اتخاذ “جميع الاجراءات اللازمة لإلغاء المعاهدات والقوانين والأنظمة التي تعتبر متعارضة مع هذا الاتفاق” ومع الامتناع عن “تنفيذ أية التزامات قائمة تتعارض” معه، بما يعني تقييد حرّية الدولة اللبنانية في علاقاتها العربية والدولية، وصولاً إلى كيفية تنظيم وجود اللاجئين الفلسطينيين. 

ما يستنتج من كل ذلك هو أن الكيان الصهيوني المحتل سيبقي على احتلاله، إنما بمسمى آخر هو “لجنة الترتيبات الأمنية”، إضافة إلى حصوله على الاعتراف به والتطبيع الكامل معه، وخاصة خروج لبنان من البلدان العربية التي كانت آنذاك، باستثناء مصر، تعتبر دولاً معادية له. (5)

جبهة الخلاص الوطني وسقوط الاتفاق

لكل ما تقدّم، وبعد إقرار الاتفاق من قبل الحكومة والتصويت عليه في مجلس النواب(6)، كان من الضروري بالنسبة للقوى الوطنية التحرّك لإسقاط اتفاق الذل هذا، خاصة وأن القضية الفلسطينية كانت ولا تزال القضية المركزية بالنسبة لها، وبالتحديد بالنسبة للشيوعيين اللبنانيين الذين وضعوا المؤتمر الثاني لحزبهم (1968) تحت شعار إعادة الاعتبار لهذه القضية والانخراط فيها والجمع بين التحرر من الامبريالية والصهيونية وبين التغيير الضروري داخل البلدان العربية باتجاه بناء وحدة عربية مستندة إلى حاجات شعوبنا في التكامل والتقدم الاجتماعي. لذا، سعت هذه القوى لإنشاء جبهة الخلاص الوطني، بالتزامن مع تصعيد عمليات المقاومة الوطنية ضد الاحتلال والانتقال إلى المواجهة مع الذين يؤازرونه في الداخل والخارج. وقد تصدّت هذه القوى لهجمة مشتركة من قوى اليمين المتطرف في الداخل، مدعومة بهجمة إمبريالية مسعورة، فكانت المواجهات في الجبل وبيروت، خاصة بعد اندلاع المعارك على أكثر من محور ومن ثم انتفاضة 6 شباط / فبراير1984، مترافقة مع معارك عنيفة ضد القوات الأميركية التي حاولت دون جدوى تغيير ميزان القوى عبر أساطيلها، وبالتحديد حاملة الطائرات المسماة “نيو جرسي”.

بعد إقرار الاتفاق من قبل الحكومة والتصويت عليه في مجلس النواب، كان من الضروري بالنسبة للقوى الوطنية التحرّك لإسقاط اتفاق الذل هذا، خاصة وأن القضية الفلسطينية كانت ولا تزال القضية المركزية بالنسبة لها، وبالتحديد بالنسبة للشيوعيين اللبنانيين الذين وضعوا المؤتمر الثاني لحزبهم (1968) تحت شعار إعادة الاعتبار لهذه القضية والانخراط فيها والجمع بين التحرر من الامبريالية والصهيونية وبين التغيير الضروري داخل البلدان العربية باتجاه بناء وحدة عربية مستندة إلى حاجات شعوبنا في التكامل والتقدم الاجتماعي. 

وقد استطاع تحالف القوى الوطنية مع بعض القوى التقليدية تحقيق الانتصار، إذ تراجع مجلس الوزراء في الجلسة التي عقدها في الخامس من آذار/ مارس 1984 عن الاتفاق واعتبره باطلاً؛ غير أن الإلغاء النهائي تم في 15 حزيران / يونيو 1987 (بموجب القانون 25/87). بين هذين التاريخين، انطلقت جولات الحوار بين ممثلي الطوائف اللبنانية في لوزان واستبعدت القوى السياسية الأساسية تدريجياً عن ساحات القرار وحتى عن مقاومة الاحتلال… وهذا شأن آخر. 

(1)- بعد ثلاثة عشر يوماً على تدنيس بيروت وبعد يوم على طرد القوات المعتدية خارجها.

(2)- تجدر الإشارة، هنا، إلى أن الحدود بين لبنان وفلسطين أعيد ترسيمها في الثالث من شباط / فبراير من العام 1923، بموجب تكليف من عصبة الأمم للجنة بوليه – نيوكومب الفرنسية – البريطانية التي أودعت المنظمة الدولية خارطة تؤكد صحة الترسيم المعمول به منذ العام 1920 والنقاط الـ 38 المحددة له.

(3) – راجع كتاب المحرر العسكري “الإسرائيلي” رونان بيرغمان “انهض وأقتل أولاً”: التاريخ السرّي لاغتيالات إسرائيل الموجّهة”…

لا بد، هنا، من الإشارة إلى أن الحزب الشيوعي اللبناني قد نال نصيبه من تلك التفجيرات، حيث انفجرت سيارة مفخخة أمام مركز الحزب الرئيسي في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 1981، واستشهد في الانفجار عدد من الشيوعيين.

(4) – سبق الترحيل، الذي نفذته القوات المتعددة الجنسيات، إقدام الصهاينة وحلفائهم على تنفيذ مجزرتي صبرا وشاتيلا اللتين سقط فيهما أكثر من أربعة آلاف شهيدة وشهيد، قلة منهم من اللبنانيين، كما قامت “القوات اللبنانية” باختطاف وتصفية مئات المواطنات والمواطنين اللبنانيين، خاصة الشيوعيين، من مناطق الجبل وبيروت.

(5) – أما مضمون الملاحق المعلنة والسرّية، فتتضمن الكثير من الشروط الأمنية والعسكرية والدبلوماسية.

(6) – أقر الاتفاق في مجلس الوزراء اللبناني في 14 أيَّار/ مايو 1983 وفي 16 أيَّار/ مايو أقرّه مجلس النواب بأكثرية 80 نائباً ومعارضة النائبين نجاح واكيم وزاهر الخطيب، وامتناع ثلاثة نواب عن التصويت.

Author

  • د. ماري الدبس

    نائب الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني والمنسقة السابقة للقاء اليساري العربي.

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

انتخابات ٢٥ يناير ١٩٦٧ المزوّرة

عندما اتضح أنّ قائمة “نواب الشعب” ستحرز نجاحاً مرجحاً في المعركة الانتخابية، استعدت السلطة لتزوير الانتخابات، بهدف ضمان غالبية المجلس إلى جانبها…

أساليب مبتكرة للمقاومة الفلسطينية في مرحلة الهرولة للتطبيع

كان خروج مصر من معادلة الصراع العربي – الصهيوني بشكل كامل عام 1978، بتوقيع الرئيس السادات معاهدة الصلح المنفرد مع “إسرائيل”، واندفاعه إلى حظيرة التبعية لأميركا، عاملاً رئيسياً في تغير الظروف الإقليمية لصالح العدو الصهيوني. وشهدت نهايات السبعينات وما تلاها تغيرات دولية في اتجاه هيمنة القطب الواحد الأميركي.

الثورة الجزائرية الخالدة ” نبراساً لمقاومة الاستعمار والظلم”

كان صدى الثورة الجزائرية في الفاتح من نوفمبر عام 1954 يدوي في كل مكان من هذا العالم ضد الظلم والاستبداد الاستعماري، لاسيما أن هناك العديد من الشعوب ما زالت تحت نير الاستعمار الغربي، الذي كان يعم مناطق كثيرة في العالم، خاصة المستعمرات الفرنسية على وجه التحديد في إفريقيا، حيث أن الثورة الجزائرية أشعلت لهيب العنف الثوري ضد المستعمر كخيار مبدئي واستراتيجي للحصول على الاستقلال الكامل والحرية