كندا: من الداخل

تُعتبر كندا من أكثر البلدان استقبالاً للمهاجرين في العالم، والوافدين الجدد بمعظمهم من بلدان العالم الثالث وبلدان أوروبا الشرقية تركوا أوطانهم الأم تحت ضغط الأزمات الاقتصادية وصعوبات الحياة وانعدام وجود أمل بمستقبل مضمون لهم ولأفراد عائلاتهم. إن التفاوت الكبير في مستويات الحياة بين بلدان العالمين ”الأول“ و”الثالث“ والناجم عن الهيمنة الإمبريالية هو ما يدفع بملايين الناس لترك موطنهم الأصلي والبحث عن بدائل تُخرجهم من الفقر وانسداد الأفق. والصورة الزاهية التي ترسمها الدعاية الغربية عن نوعية الحياة في بلدان العالم الأول لا تلبث أن تبدأ بالتلاشي عند الاصطدام بالواقع الجديد. وقسم من المهاجرين الجدد يصطدم بالصعوبات اللغوية، خصوصاً بالنسبة لمن قارب منتصف العمر ولا يتقن بالأساس غير لغته الأم. وفي مقاطعة كيبيك الكندية ينبغي اجتياز امتحان اللغة الفرنسية عند التقدم للحصول على الجنسية. والكيبيكيون هم المستعمرون الفرنسيون الأوائل الذين استعمروا البلاد على حساب السكان الأصليين. وكان الاستعمار البريطاني قد استولى على الجزء الأكبر من الأراضي الكندية وألحق الهزيمة بالفرنسيين وأخضع كل الأراضي لحكم الملك البريطاني. وكان الكيبيكيون قد سعوا للانفصال عن كندا في محاولتين متتاليتين (1980 و1995)، إلّا أن هاتين المحاولتين لم تنجحا في الاستفتاء العام الذي نُظم في مقاطعة كيبيك حيث حصل معارضو الانفصال في المرة الثانية على تفوق بنسبة نصف بالمئة. ورداً على احتفالات المقاطعات الإنكليزية بعيد الملكة، فإن كيبيك تحتفل في اليوم نفسه بعيد الوطنيين (الباتريوت) تكريماً لذكرى الذين انتفضوا بوجه الإنكليز في العام 1837 وهزمهم الجيش الإنكليزي خلال الانتفاضات الشعبية التي شهدتها المناطق الناطقة بالفرنسية وكانت تطالب بالاعتراف بالهوية الوطنية وبالحرية السياسية وبإقامة حكومة ديمقراطية، وتعرض قادتهم للشنق والسجن والترحيل.
وسياسة الهجرة في كيبيك هي جزء من سياسة الهجرة الفيديرالية، والتي تطبق برامج متنوعة لاستقبال المهاجرين في بلد يتميز بكثافة سكانية هي الأدنى في العالم (3.3 شخص للكيلومتر المربع، في حين أن معدل الكثافة السكانية للكرة الأرضية هو 14.7 شخص لكل كيلومتر مربع)، في حين أن الاقتصاد الكندي يحتل المركز التاسع بين أكبر الاقتصادات العالمية، وتمتلك كندا احتياطيا هائلا من الموارد الطبيعية. وتسعى الرأسمالية الكندية لردم الهوة بين الكثافة السكانية المتدنية والاحتياجات المتزايدة للقوى المنتجة واليد العاملة من خلال برامج الهجرة وفي أساسها استقدام اليد العاملة المتخصصة، وإلى جانبها إطلاق برامج مسهلة لاستقبال اللاجئين من مناطق النزاعات كما حدث في السنوات الأخيرة (سوريا، وأفغانستان وأوكرانيا)، هذه النزاعات المسلحة التي يعود لمراكز الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية الدور الأساس في إشعالها وتغذيتها والسياسة الخارجية الكندية تتطابق مع الأهداف الإمبريالية.

تتشارك شركات التأمين مع المصارف في جني الأرباح الخيالية في ظل سياسات اقتصادية تسعى لتقليص دور القطاع العام والادخال التدريجي للقطاع الخاص في أنشطة تُعتبر حيوية في حياة الناس اليومية ولا يمكن تحويلها إلى سلعة بيد رأس المال تمكنه من توظيفها لجني المزيد من الفوائد والأرباح.


إنَّ التطور التقني المتسارع لبلدان المراكز الإمبريالية انعكس بشكل مباشر على صعيد العلاقات الاجتماعية، وعمّق من الفردانية على حساب العائلة والأقارب والأصدقاء، وعزّز من الجانب الاستهلاكي في أولويات الناس، وحظيت المؤسسات ذات الأنشطة غير المنتجة (المصارف، شركات التأمين، المراكز التجارية وإلخ) بمكانة خاصة في قمة الهرم البنيوي لرأس المال، وتحولت المصارف إلى اخطبوط يمسك بالاقتصاد اليومي للعائلات عبر بطاقات الائتمان المصرفية التي تسهّل الإنفاق مقابل فوائد عالية مكّنت المصارف من تحقيق ثروات خيالية على حساب كدح الناس وتعبهم. وتتشارك شركات التأمين مع المصارف في جني الأرباح الخيالية في ظل سياسات اقتصادية تسعى لتقليص دور القطاع العام والادخال التدريجي للقطاع الخاص في أنشطة تُعتبر حيوية في حياة الناس اليومية ولا يمكن تحويلها إلى سلعة بيد رأس المال تمكنه من توظيفها لجني المزيد من الفوائد والأرباح.
ويعتبر السكن من التحديات الأساسية بالنسبة للمهاجرين الجدد. وتشير الإحصاءات إلى أن الكنديين أنفقوا في العام 2023 أكثر من 30 بالمئة من ميزانيتهم على السكن. وبلغ معدل الإيجار السكني في كندا 2178 دولاراً في كانون الأول الماضي. ووفق برامج الهجرة يُتوقع أن يصل عدد المهاجرين الجدد في العام 2025 إلى 500 ألف شخص مما سيزيد من الضغوط على قطاع السكن ومع زيادة الطلب والنقص في العرض فإنه من المرشح أن تتجه الإيجارات إلى مزيد من الارتفاع، في وقت ازدادت معدلات التضخم بعد جائحة كورونا وترافق ذلك مع ارتفاع كبير في معدلات الفائدة على القروض السكنية والتي بلغت 6 ونصف بالمئة مقابل 1.8 بالمئة أثناء كورونا. وهذا سيضع العديد من الذين حصلوا على قروض سكنية بمعدلات فائدة منخفضة أمام عجز في سداد دفوعاتهم الشهرية للمصارف. وتشير تقارير مؤسسة إحصاءات كندا إلى أن الكنديين الشباب سيكونون بمعظمهم في المستقبل القريب عاجزين عن الاقتراض السكني بسبب التضخم الكبير وعدم القدرة على ادخار المبلغ الضروري لتسديد الدفعة الأولى من القرض.
وبالرغم من أن النظام الصحي يغطي كل الكنديين والمقيمين، إلّا أن جائحة كورونا كشفت نقاط الضعف فيه، وتعاني المؤسسات الصحية من نقص كبير في اليد العاملة المتخصصة، وشرعت الأبواب أمام القطاع الخاص في وقت يضطر المريض أحياناً لانتظار عدة أشهر ليصل دوره في الحصول على خدمة صحية معينة، مما يدفع مقتدري الحال للجوء إلى خدمات القطاع الخاص.

مظاهرات العمال في القطاع العام

وفي العام الماضي كانت انقضت اتفاقية العمل الجماعي بين الحكومة في مقاطعة كيبيك ونقابات العاملين في قطاعات الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية، مما فتح الباب لاجراء مفاوضات حول عقود العمل الجماعية الجديدة. وسبق ذلك أن أقرتّ الحكومة زيادة دفعة واحدة على أجور النواب والوزراء بنسبة 30 بالمئة، وبالمقابل افتتحت المفاوضات مع النقابات باقتراح زيادة 9 بالمئة على أجور العاملين في القطاع العام (الصحة والتربية والخدمات الاجتماعية) تُسدد على فترة خمس سنوات. وعندما أخفقت المفاوضات في التوصل إلى صيغة مرضية للنقابات مقابل تشدد الحكومة في موقفها بذريعة عدم توفر الأموال الكافية ومحاولة الإعلام الحكومي تحميل النقابات المسؤولية عن عدم التوصل إلى اتفاق، أعلنت نقابات الأساتذة الإضراب تبعهم نقابات الممرضين والممرضات. وشهدت مدينة مونتريال مظاهرة للعاملين في القطاع العام بدعوة من النقابات تخطى عدد المشاركين فيها المئة ألف موظفة وموظف، واضطرت الحكومة تحت الضغط لتخفيف موقفها المتصلب من مطالب النقابات، والتي لم تكن محصورة بتحسين الأجور التي تشهد قيمتها الفعلية تآكلاً متواصلاً بفعل التضخم، إنما أيضاً بتحسين شروط العمل بما يحسّن من نوعية خدمات القطاع العام. وتوصلت نقابات المعلمين إلى تفاهم مع الحكومة على عقد العمل الجماعي الجديد، في حين وافقت الهيئة الإدارية لنقابات الممرضات والممرضين على الصيغة الجديدة وعند طرحها على التصويت على الأعضاء رفضتها الهيئة العامة مما يؤشر إلى احتمال مواجهة جديدة مع موظفي القطاع الصحي.
وفي ظل انحسار الاقتصاد تستمر الحكومة الكندية بإرسال المزيد من الأموال إلى أوكرانيا في حربها ضد روسيا بدلاً من توظيف المزيد من الموارد في قطاعات الصحة والتعليم، وفي المقابلات التي يجريها رئيس وزراء كيبيك فرنسوا لوغو يلقي باللوم على المهاجرين بسبب تراجع أداء قطاعي الصحة والتعليم. وبهذا المعنى فإن الرأسمالية الكندية على غرار كل الرأسماليات، تلجأ إلى اللعب على العواطف القومية أو الدينية وإثارة النعرات العنصرية لتبرير عجزها عن تقديم الحلول.
في هذا المقال حاولنا بشكل مقتضب إلقاء الضوء من الداخل على بعض جوانب النظام الرأسمالي في كندا.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

حرب السودان … مهددات التقسيم

يبدو أن هناك مهددات باتت واضحة لتقسيم السودان أسفرت عنها حرب الجنرالات في السودان التي انطلقت في الخامس عشر من إبريل/ نيسان من العام 2023، والتي تكاد تكمل عامها الثاني.

بين مطرقة نتنياهو وسندّان ترامب: “اتفاقية وقف الأعمال العدوانية” خارج التطبيق

من الواجب رفع الصوت في هذه المرحلة المصيرية والدعوة إلى تكاتف القوى السياسية والشعبية التي لا تزال تعتبر الكيان الصهيوني عدواً لنا. فالمصلحة الوطنية العليا تقتضي، اليوم وأكثر من أي وقت مضى، العمل على استعادة السيادة الحقيقية على أرض الوطن ومياهه وثرواته

‏الكونغو الديمقراطية على حافة الانهيار: تصعيد الحروب بالوكالة وتحولات الخريطة السياسية

سيطرة المتمردين على غونا قد تؤدي إلى انهيار الحكومة المركزية في بعض المناطق، ما قد يخلق فراغاً سياسياً يسمح بتوسع الجماعات المسلحة الأخرى في مناطق أخرى من البلاد.

مستقبل الصراع اليمني – الإسرائيلي

باتت “إسرائيل” ترى في اليمن تهديداً استراتيجياً طويل الأمد، وتقدر أنها في حرب مفتوحة مع اليمن لا تنتهي بمجرد التوصل لاتفاق إطلاق نار مع المقاومة في غزة الذي تحقق مؤخراً.