حين الحديث عن مدينة رفح، فنحن نتحدث عن عدوان طال كل مدن قطاع غزة، ولم تسلم من العدوان أية مدينة بما فيها رفح منذ اليوم الأول للعدوان، فالعدوان كان ولا يزال شاملاً يستهدف الشعب الفلسطيني أولاً، ومحاولة تهجيره إلى خارج قطاعه الحبيب، ومن ثم تدمير كل بناه التحتية ومرافقه ومؤسساته الحياتية الاقتصادية والاجتماعية، ولما كانت مدينة رفح هي المعبر الوحيد لقطاع غزة إلى العالم عبر دولة مصر، فقد عوّل الكيان الصهيوني على إمكانية ترحيل أهالي قطاع غزة إلى سيناء عبر معبر رفح، وذلك لتفريغ المكان من أهله، والبدء في إلحاق غزة إلى الكيان بحكم عسكري مباشر، بيد أن هذه المحاولة قد فشلت في ضوء عاملين، أولهما أن الشعب الفلسطيني رفض التهجير قسراً أو طوعاً، وصمم على البقاء في مدنه وقراه، وتعلم من درس التهجير عام 1948، الذي ساندته بعض الأنظمة في ذلك الوقت ووعدت الشعب الفلسطيني بإرجاعه خلال فترة زمنية محددة، أما العامل الثاني، فقد أخذت مصر موقفاً واضحاً بعدم قبولها عملية التهجير إلى سيناء لخشيتها من أن تتحول المقاومة ضد الكيان عبر غزة، إلى مقاومة عبر سيناء مما يعرض اتفاقية كامب ديفيد إلى الخطر وزوال مرحلة السلام…!!
والشعب المقاوم في غزة، هو ذاته الشعب المقاوم في رفح، والكيان أرجأ اقتحامه لمدينة رفح، إلى حين أن ينتهي من مهمته في شمال قطاع غزة بعد أن أفرغه من سكانه وهجرهم إلى رفح، لكنه أراد أن يمرحل عدوانه من مدينة إلى مدينة حتى يسهل عليه اقتحامها، وكان يعتقد أن رفح ستكون هدفه الأخير بعد أن يهاجر أهلها ولاجئوها طوعاً أو قسراً، فيسهل عليه اقتحامها، ويعلن نصره النهائي، غير أن كل أوهامه ومخططاته قد فشلت ليس في رفح أو غزة فحسب، إنما في كل قطاع غزة طولها وعرضها، مما جعله يتكبد خسائر جمة في جنوده وآلياته ومعنوياته أكثر مما كان يتخيل أو يخطط…
عدم تحقيق أهداف العدوان الصهيوني على قطاع غزة
وحين استفاق الكيان من أوهامه أراد أن يبحث عن صورة ولو جزئية للنصر أمام المستوطنين، حيث لم يستطع أن يحقق ما أعلنه في اليوم الأول من أهدافه، فلا هو استطاع أن يسترد أسراه، ولا هو استطاع أن يقضي على المقاومة، ولا هو قادر أن يضع صيغة أو تصورا لما بعد اليوم التالي أي بعد انتهاء الحرب، ما هي صيغة الوضع في غزة بعد انتهاء الحرب…؟!
هذه الأهداف الثلاثة لم تتحقق، وأصبح الخبراء العسكريون والساسة والصحافة والكتاب الإسرائيليون يتحدثون عن الهزيمة وليس النصر، وهنا أراد نتنياهو أن يبحث عن صيغة أو صورة جديدة من النصر ليهديها لمن يخالفوه الرأي، وذلك بالعمل على اقتحام رفح تحت شعار تفكيك وإنهاء المقاومة، لكنه يواجه جملة من الصعوبات، أولها أن مصر تعارض اقتحام رفح، وتعارض استلام الجيش الإسرائيلي معبر رفح، حتى لا يتكرّس أن المعبر هو معبر مصري – إسرائيلي، وبالتالي تصبح مصر متهمة بأي تقصير في توصيل المساعدات الإنسانية، في حين أن “إسرائيل” هي المعرقلة، وحين أقدمت “إسرائيل” على احتلال محور فيلادلفيا / محور صلاح الدين، أدركت مصر خطورة هذا الوضع، وصعّدت من انتقاداتها إلى الكيان إلى حد أنها انضمت مؤخراً وبعد طول غياب إلى دعوى جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، وهنا خشي فريق من الإسرائيليين من تدهور العلاقات المصرية – الإسرائيلية، ووصولها إلى إلغاء كامب ديفيد ويعتبرون أن إخراج مصر من عملية الصراع مع الكيان أهم استراتيجياً من اقتحام رفح…
بيد أن نتنياهو مدفوعاً بمصالحه الشخصية وأوهامه وبأنه ملك “إسرائيل” يريد أن يستكمل حربه باقتحام رفح ليثبت أنه الوحيد الحريص على تفوق “إسرائيل”…
أما العامل الثاني في صعوبات رفح، فهو الموقف الأميركي من اقتحام رفح، وهو الموقف المنافق، فمن جهة فإن أميركا تريد إنهاء حركة حماس في رفح، ولكنها تشترط خطة عملية آخذة في الاعتبار حياة المدنيين…!! أي أنها مع استمرار الحرب، لكنها تدّعي حرصها على المدنيين الذين يقتلون بقنابلها وصواريخها ودبلوماسيتها، ومرات الفيتو في مجلس الأمن، فأميركا لم تستطع أن تبرر مواقفها ونفاقها أمام العالم، وأمام شعبها وطلاب جامعاتها فتلجأ إلى المناورات السياسية والعبارات الملغومة…!!
هذا الموقف المصري، والموقف الأميركي، واستعداد المقاومة في رفح، هي الأسباب التي أخرت معركة رفح…
ويبقى السؤال لماذا في الإعلام العربي والغربي يكثر الحديث عن رفح ويسدل الستار عن العدوان على كل قطاع غزة…؟!! لماذا الطلب بوقف العدوان على رفح، بينما المشكلة هي وقف العدوان على كل غزة…؟!!
إن الإبادة الجماعية في قطاع غزة لم تتوقف، فالحديث يجب أن يكون بإيقاف العدوان والحرب الوحشية على كل قطاع غزة، وليس اليوم على رفح، فهل نسينا العدوان على كل غزة، وانتبهنا إلى حرب قادمة على رفح، كما بيان القمة العربية الذي تحدث عن رفح ولم يتحدث عن العدوان بكليته…
كل المؤشرات تشير إلى أن معركة رفح قادمة، وسيتجاوز نتنياهو كل المعوقات، وكل المعارضات الداخلية لديه، ويقدم على اقتحام رفح، وستكون الضحايا بالآلاف، ولن يأبه نتنياهو لهذه الضحايا ولا إلى المعارضات الداخلية والخارجية، ما دام قد لمس أن حجم هذه المعارضات العربية لا تتجاوز الإدانة والمطالبة، وما دام يدرك أن المعارضة الأميركية هي شكلية وبها قدر من النفاق، وما دام هو يدرك أن المعارضة الداخلية “الإسرائيلية” هي نخبوية لا تسندها حركة شعبية قوية، في حين أن الأغلبية الدينية العنصرية من “الشعب الإسرائيلي” مع استمرار الحرب على رفح وغزة…
وربما يذهب نتنياهو بعيداً في اقتحام رفح “أي الانتحار” ما دامت المحكمة الجنائية الدولية قد رفعت مذكرة لاعتقاله ووزير دفاعه غالانت…
وحينما تضع أميركا في أجندتها القضاء على حماس، فإنها في الواقع تشجع نتنياهو على اقتحام رفح بغض النظر عن حياة المدنيين، فالهدف الأسمى لديها هو القضاء على المقاومة، وليس الحفاظ على أرواح المدنيين…
في ضوء التعقيدات في مسألة اقتحام رفح لاستكمال المخطط الإسرائيلي، تتبدى صعوبة الوصول إلى اتفاق تهدئة وتبادل الأسرى، فمن جهة لقد أقدمت المقاومة على تقديم بعض التنازلات على موقفها المبدئي الأولي القاضي بأن شرط الوصول إلى تهدئة، يجب أن يقوم على تبييض السجون “الإسرائيلية” من الأسرى الفلسطينيين، ووقف الحرب وانسحاب القوات الإسرائيلية إلى ما وراء خطوط الهدنة، وإعادة الإعمار، والسماح بالمساعدات الإنسانية بشكل كامل…
وفي ضوء التعنت “الإسرائيلي” والموقف الأميركي المساند، وفي ضوء حاجة سكان قطاع غزة إلى التقاط الأنفاس واستراحة المحارب، ومراعاة الجانب الإنساني، فقد أقدمت المقاومة على وضع صيغة للتهدئة وتبادل الأسرى على قاعدة تمرحل التهدئة والتبادل وانسحاب القوات الإسرائيلية، أي أن المحصلة للصيغة هي وقف الحرب خلال أربعة أشهر تقريباً يتم فيها الترتيبات الميدانية، وتبادل الأسرى وفتح المناطق للسكان، وتوصيل المساعدات…إلخ…
غير أن هذه الصيغة لاقت رفضاً من نتنياهو حصراً، الأمر الذي أفشل الصفقة، والرجوع إلى نقطة الصفر، مما جعل عنوان رفح من جديد يأخذ حيزاً من الاهتمام في حين أن الحرب دائرة على كل قطاع غزة…
ومن المعروف أن أحد أهم أسباب عدم الوصول إلى صفقة تبادل، أن الكيان الإسرائيلي لا يأبه إلى أسراه ارتباطاً بما يسمى قانون “هانيبال” الذي صاغته “وزارة الدفاع الإسرائيلية”، والذي ينص على اللجوء إلى قتل الجندي الإسرائيلي لمنع أسره من قبل قوات العدو…