المنسق العام للقاء اليساري العربي د. سمير دياب في حوار خاص مع «تقدُّم»
عملية طوفان الأقصى امتداد للتاريخ النضالي لمقاومة الشعب الفلسطيني والعربي
ومهمة اليسار العربي تقوم على استنهاض حركة تحرر وطني عربية بقيادة ثورية
“إنّ تدهور الجيش الإسرائيلي بدأ من الرأس حتى القاع، أي من القيادة حتى الجنود، بسبب تفشي ظاهرة إدمان المخدِّرات والتجارة فيها، وبيع الجنود أسلحتهم لفصائل المقاومة الفلسطينية للحصول على المال، وتصاعد منسوب هجرة الإسرائيليين إلى أوروبا وأميركا.. هذا الصراع ضد الفلسطينيين خاسر، وسينتهي بنهاية دولة إسرائيل في نهاية المطاف”.
(البروفيسور مارتين فان كارفيلد، أستاذ العلوم العسكرية في الجامعة العبرية في مدينة القدس، الذي يُعتَبَر من أشدّ الداعين لطرد جميع العرب من فلسطين).
إحدى النتائج الكبيرة لطوفان الأقصى أنه عمّق الصراعات في المجتمع الصهيوني وزاد من الخلافات بين النخب السياسية والأحزاب، التي تأسست على قاعدة “شعب الله المختار”، وبينت الشخصية الصهيونية على حقيقتها وعرَّت أكثر النفسية الأنانية التي تحكم المجتمع الصهيوني، حتى بدأ مفكروه وسياسيوه يتحدثون عن التهديد الوجودي للكيان برمته، ليس فقط بسبب طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 وتبعاته الكبيرة والنافذة في عمق الفكرة التي قام عليها الكيان قبل 76 عاماً والمتمثلة في إزاحة وشطب الآخر الفلسطيني، باعتبار أن الصراع وجودي لا يحتمل أحدهما وجود الآخر المضاد له تماماً، بين المشروع الصهيوني التوسعي القائم على التطهير العرقي وتهجير أصحاب الأرض، وبين المشروع الوطني الفلسطيني القائم على تشييد الدولة الديمقراطية على كامل التراب الوطني وعاصمتها مدينة القدس الموحدة.
تفجّر الخلاف بعد الطوفان عندما طالب أهالي الأسرى الصهاينة بضرورة الولوج في اتفاق مع المقاومة يتم بموجبه الإفراج عن الأسرى، وقد وجد رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو أنها الفرصة الذهبية لبقائه أطول مدة على رأس الحكومة وبالتالي تراجع إمكانية سوقه للمحاكم بتهم الفساد واحتمال إدانته وإنهاء حياته السياسية بعد أن يودع السجن. ماطل نتنياهو، وهو البارع في المراوغة والوقوف في المنطقة الرمادية، فحاول تحميل المسؤولية للجيش وأطراف أخرى في المعارضة، وراح يمارس عادته المعهودة في الكذب أكثر من التنفس، لكن هذا الحبل مهما كان طويلاً، فقد بدأ يضيق عليه الخناق وتفاقم خلافه مع جنرالات الجيش، ما قاد الجيش إلى ترتيب مقابلة للمتحدث الرسمي باسمه، دانيال هاغاري، مع القناة الـ13 الصهيونية، انتقد فيها موقف نتنياهو ورؤيته في العدوان على المقاومة الفلسطينية وبيئتها الحاضنة في غزة. أطلق هاغاري سهامه في المقابلة التلفزيونية يوم 19 يونيو 2024 مؤكداً أن “الاعتقاد بأن بالإمكان تدمير حركة حماس وإخفائها هو ذر للرماد في عيون الإسرائيليين (..) وإن حماس “فكرة لا يمكن القضاء عليها”. وعرَّج على العملية النوعية لـ “حزب الله” بمُسيّراته التي صوّرت الشمال الفلسطيني ومواقع عسكرية ومدنية في بعض المناطق ومنها مدينة حيفا ومينائها والقواعد العسكرية ومصنع تكرير النفط والمطار، الأمر الذي سكب الزيت على نار الخلافات المتصاعدة، أصلاً، وأوضح هيغاري بأن المُسيّرة صغيرة جداً، و”ان إسقاطها سيتسبب في أضرار للناس”.. هكذا!!
تمرُد مُتعدد
هذه التصريحات لم ترق لنتنياهو، فسارع مكتبه بالرد على هاغاري، وأكد أن “الكابينت الأمني حدد تدمير قدرات حماس العسكرية والحكومية كأحد أهداف الحرب وجيش الدفاع ملتزم بذلك”. لم يكتف نتنياهو برد الجيش فاستعان بابنه، يائير، في ولاية ميامي بالولايات المتحدة الأميركية، الذي أطلق تغريدة على منصة (إكس – تويتر) هاجم فيها قائد سلاح الجو، تومر بار، وتساءل عن مكان تواجده يوم 7 أكتوبر، وانتقد تعيينه الجنرال زئيف ليفي، الذي سبق وأن رفض الخدمة العسكرية، كمدرب للجيل القادم من طياري القوات الجوية، واتهم يائير الجيش وجهاز الأمن العام (الشاباك) بالخيانة في مواجهة هجمات حركة حماس، وكتب تغريدة قال فيها: “ما الذي يحاولون إخفاءه؟ إذا لم تكن هناك خيانة، فلماذا يخافون قيام جهات خارجية ومستقلة بالتحقيق؟”. ودخلت سارة نتنياهو زوجة رئيس الوزراء الصهيوني على خط السجالات وفجّرت قنبلة صوتية في الجو الملتهب، عندما قالت “إن قادة الجيش يريدون تنفيذ انقلاب عسكري على زوجي”.
سبق لهذا التجاذب المتعدد الأطراف، وجود ما أسمته الصحف الصهيونية بـ “التمرد” خصوصاً بعد حصول العديد من حالات هروب العسكريين والاحتياط ومغادرتهم الكيان دون علم قياداتهم، خلافاً لما درجت عليه القوانين في جيوش العالم. وحصلت أيضاً حوادث أكثر عمقاً تمثلت في رسائل الفيديو التي بعثها جنود وضباط في الجيش وفي الاحتياط يُعبرون فيها عن معارضتهم لبعض الزعامات السياسية والقيادات العسكرية، ما أسهم في زيادة خلخلة الجبهة الداخلية، وهو أمر حصل مع أحد جنود الاحتياط من النازيين الجدد، بث شريط فيديو قال فيه: “سنُصغي إلى زعيم واحد، وهو ليس وزير الدفاع يوآف غالانت أو رئيس الأركان هرتسي هاليفي، بل لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يجب إبادة سكان غزة، بمن في ذلك الأطفال الصغار.. هل كنتم تريدون انقلاباً عسكرياً؟ ها نحن جنود الاحتياط -الذين لم يعد بإمكانهم العودة إلى ديارهم- سنوضح لكم ما هو الحسم”.
هذا الفيديو، حصد مئات آلاف المشاهدات داخل الكيان، وهو يعبر عن طبيعة المجتمع الصهيوني النازية والفاشية، مثلما يفعل جيش الاحتلال منذ السابع من أكتوبر 2023. هذا الأمر قاد المحلل العسكري في صحيفة “إسرائيل اليوم”، يوآف ليمور إلى التعليق بالقول إنه “تحت قيادة غير مسؤولة وبائسة يعود الجمهور (الإسرائيلي) إلى نقطة البداية، وفي ظل ظروف أسوأ بكثير. وكل من تصور أن التحدي الرئيسي الذي يواجه إسرائيل يكمن في غزة أو لبنان أو في الأمم المتحدة فهو واهم، فالتهديد الرئيسي الذي يواجهها -كما طوال تاريخها- يكمن في الداخل”، وذهب مراسل الشؤون العسكرية في صحيفة “معاريف” الصهيونية آفي أشكنازي، إلى التعقيب بالقول “لا يهم إذا كان فيديو التمرد حقيقياً أم لا، لكن في ظل استمرار الحرب على غزة أخذت تتشكل بوادر لمحاولة انقلاب عسكري”.
ومما زاد طين الخلافات بِلّة، هو قرار المحكمة العليا الصهيونية والقاضي بتعليق التحقيق في إخفاقات الجيش وجهاز الأمن العام (الشاباك) في أحداث السابع من أكتوبر. وقد أعتبر أحد قادة الجيش إخفاق السابع من أكتوبر “أكبر وأخطر فشل في تاريخ إسرائيل”. وفي سياق متصل قررت نفس المحكمة وجوب تجنيد اليهود المتشددين دينياً “الحريديم” في الجيش، وهي قضية خلافية منذ سنوات طويلة، ليجعل الصراع أكثر احتداماً. كما يعتبر هذا القرار “تاريخياً” وفق المحللين الصهاينة..
ربما لن يؤدي فوراً إلى سقوط الائتلاف الحكومي برئاسة بنيامين نتنياهو، ولكنه قد يمثل بداية السقوط، في ظل خلافات وانقسامات عديدة.
بقرة مقدسة
بالنسبة للصهاينة، فإن الجيش يعتبر “البقرة المقدسة” التي لا يمكن لأحد الإساءة إليها أو انتقادها. وهذا منبعه أن الجيش الصهيوني هو أصل الكيان، تأسس من عصابات القتل والتهجير كعصابات شتيرن والهاغانا وأرغون وبلماح قبل العام 1948، أسست دولة على جماجم الفلسطينيين وتضحياتهم ومعاناتهم، واندمجت لتشكل جيشاً عنصرياً أطلقت عليه اسم “جيش الدفاع الإسرائيلي”، الذي تم منحه الضوء الأخضر من بريطانيا أول الأمر، وبعد أفول الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، تسلمت الولايات المتحدة الأميركية زمام القيادة وفتحت للجيش الصهيوني مخازن السلاح والدمار الشامل ليرتكب جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتطهير العرقي، ولا تزال تقوم بهذا الدور في معركة طوفان الأقصى. ربما لا تتدخل واشنطن في الخلافات المحتدمة بين أركان الكيان الصهيوني، لكنها بالتأكيد تمده بكل متطلباته، حتى أصبح يطلق عليه الولاية الأميركية الـ 51. وعلى هذا الأساس فإن خلاف نتنياهو مع أركان ائتلافه قد لا يعني البيت الأبيض كثيراً إلا بقدر ما يعرقل مخططاته، كأن يطحش وزير الأمن القومي الفاشي إيتمار بن غفير أو وزير المالية سيموتريش بتصريحات خارج السياق الذي من شأنه كشف مخططات واشنطن إزاء مسألة الصراع في المنطقة، فتتدخل لتقويم الخطط والمؤامرات وفق ما ترى المشهد من جميع زواياه.
ولأن الخلافات تزداد كلما صمدت المقاومة في غزة وتمددت للضفة الغربية وجبهة الشمال (جنوب لبنان) والجبهات المساندة الأخرى، فقد دخل آخرون على خط الخلافات، فأدلى وزير الاتصالات شلومو كرعي بدلوه وعلّق على تصريحات المتحدث باسم الجيش واعتبرها إشارة للروح المتراخية والضعيفة لرئيس الأركان ووزير الدفاع. ودعاهما للاستقالة إذا كانا غير قادرين على تحقيق الانتصار على المقاومة في قطاع غزة. هذا قاد صحيفة “إسرائيل اليوم” للقول إن البيانات المقدمة إلى أعضاء الكنيست “تشير إلى عدم انهيار حركة حماس، بل أنها تمكنت من الحفاظ على قوتها”. ولا شك أن هذه المعلومات تؤكد على عطب الرواية الصهيونية وتضربها في الصميم وتقض مضجع نتنياهو الذي يواجه جبهات داخلية متعددة على رأسها قيادة الجيش وأهالي الأسرى وفريقه الوزاري الذي يدفع به نحو المزيد من القتل والتدمير فوق ما يرتكبه من جرائم، حتى أصبح
أسيراً لدى بن غفير وسيموتريش، وكلما أراد الابتعاد عنهما تحسس رقبته بتطيير الأغلبية لدى ائتلافه وشعر أنه سيرسل إلى أقرب زنزانة.
هجرة معاكسة
لقد فعلت المقاومة الفلسطينية وجبهات المساندة فعلتها في الكيان، رغم حجم الآلام والدماء الزكية التي تتدفق في شوارع غزة وتحت أبنيتها وفي الضفة الغربية والجنوب اللبناني. ومن نتائج صمود المقاومة الهجرة المعاكسة المتزايدة وتسببت في أرقٍ مزمن لقادته وحاخاماته. وفي تقرير لوكالة الاستخبارات الأميركية (سي.آي.أى)، في 2015 و2016 خلص إلى أن “أي مواجهة عسكرية محتدمة مقبلة مع إسرائيل ستجعل المستوطنين الإسرائيليين يغادرونها وينسلخون عنها نهائياً”. وبعد عدوان مايو 2021، أظهرت دراسة أعدتها وزارة الاستيعاب الصهيونية، أكدت فيها ما ذهبت له الـ (سي. آي. أى)، إذ أشارت، الدراسة، إلى أن “ثلث اليهود في إسرائيل يؤيدون فكرة الهجرة”.
ومع نهاية العام 2020، أكدت الإحصائيات الصهيونية أن عدد المهاجرين اليهود من الكيان، قد بلغ 756 ألف شخص، وزادت أعداد طالبي الجنسيات الأوروبية من الصهاينة بنسبة 68 بالمئة مقارنة بالسنوات التي سبقتها. وتشير احصائيات الكيان إلى أن نحو 400 ألف صهيوني غادروا الكيان منذ السابع من أكتوبر 2023 حتى السابع من ديسمبر من نفس العام، وقد زادت أعدادهم في الشهور الستة من هذا العام 2024. وتشير البيانات إلى انخفاض قد حصل لعدد اليهود المهاجرين إلى الكيان بلغ 70 بالمئة. وكان عدد اليهود المهاجرين للكيان في شهر نوفمبر الماضي قد بلغ 2000 مهاجر، مقارنة بـ 4500 مهاجر شهرياً منذ بداية العام المنصرم. يذكر أنه في شهر أكتوبر 2023 وحده وبسبب الطوفان غادر الكيان أكثر من 230 ألف صهيوني، وقرابة 140 ألف في شهر نوفمبر، وزادت الهجرة المعاكسة من قلق القادة الصهاينة الذين دعوا مواطنيهم إلى البقاء في الكيان.
هذا بعض ما فعله طوفان الأقصى الذي أعاد الوهج للقضية الفلسطينية وبدأ في تغيير السردية الصهيونية السائدة على عالمياً، حيث أسهم الطوفان في توعية الشباب في مختلف دول العالم بقضية فلسطين والتأكد من فاشية الكيان ونازيته وعنصريته، وتبني السردية الفلسطينية ورفع العلم الفلسطيني في كل العواصم كأن لم يُرفَع من قبل.. وهذا بحد ذاته إنجاز كبير يحمل في أحشائه دلالات بعودة فلسطين إلى واجهة الأحداث والقضايا العالمية، بعد أن طمرتها المؤامرات والتخاذل والتواطؤ.
عملية طوفان الأقصى امتداد للتاريخ النضالي لمقاومة الشعب الفلسطيني والعربي
ومهمة اليسار العربي تقوم على استنهاض حركة تحرر وطني عربية بقيادة ثورية
الاحتجاجات تكشف عن تزايد الاستقطاب السياسي في البلاد، حيث يعبر الشعب عن قلقه العميق من تفشي الفساد وغياب العدالة الاجتماعية.
برزت قبل وأثناء الحرب العديد من الميليشيات المسلحة المنسوبة للجيش المختطف من فلول “الإخوان المسلمين”. اندلعت الحرب في الخامس عشر من نيسان/ إبريل من العام 2023 بين الجيش المختطف وميليشيا الدعم السريع، بهدف قطع الطريق على ثورة ديسمبر المجيدة حتى لا تحقق أهدافها في بناء سلطة مدنية كاملة وتصفية الثورة.
تستند العلاقات الأميركية – “الإسرائيلية” على قاعدة ذهبية هي أن الولايات المتحدة الأميركية أهم حليف وداعم للكيان الصهيوني منذ قيامه في 1948 وأنها تصوغ وتفرض سياستها في منطقة الوطن العربي والشرق الأوسط، بل والعالم لضمان تفوق “إسرائيل” عسكرياً وانتصاراتها في حروبها المتتالية وقضمها لفلسطين.