شرر حرائق الاحتلال في فلسطين يطال الأردن

ما يقترفه الاحتلال الصهيوني في الأراضي الفلسطينية سرعان ما يجد صداه في الأردن ربما قبل أي بلد عربي شقيق آخر. وهذا عائد إلى جملة عوامل منها العلاقات المتشعبة الممتدة منذ خمسينيات القرن الماضي بين الشعبين الشقيقين، ومنها طبيعة المشروع الصهيوني وأهدافه، الذي لم يتخل سدنته من غلاة التيار اليميني العنصري المتطرف عن أطماع تصفية القضية الوطنية الفلسطينية على حساب الأردن، شعباً ودولة ومؤسسات دستورية. 

الاستجابة للتحديات التي يقذفها كيان الاحتلال في وجه فلسطين كما الأردن من جانب السلطات الرسمية والقوى الشعبية ليست دائماً منسجمة ومتوافقة. وهناك في غالب الأحيان ثمة تعارض وتناقض بين التزامات السلطة والخيارات الشعبية. فالموقف الرسمي مهما علا سقف تنديده بالعدوانية الصهيونية المتمادية وبالمجازر الوحشية المتواصلة لآلة الحرب الدموية “الإسرائيلية” يتعرقل على الدوام ويهوي تحت ضغط تمسك السلطة بمعاهدة وادي عربة وبسائر اتفاقيات التطبيع الرسمي المستندة اليها. 

فتماشياً مع هذا التمسك والالتزام غير المفهوم وغير المستساغ شعبياً لم يتم اتخاذ ولو خطوة صغيرة واحدة تترجم طلب السلطة في بداية العدوان الهمجي الصهيوني على غزة من مجلس النواب إعادة النظر في اتفاقية وادي عربة. وتم حفظ هذا الطلب بالتواطؤ فيما بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في أدراج المجلس النيابي ولجانه. 

وبذا تأكد المؤكد بأن السلطة غير جادة في قطع العلاقات الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني وإغلاق سفارته في عمّان وتجميد الاتفاقيات المبرمة معه تمهيداً لإلغائها، وأن الأمر لا يعدو كونه مناورة من جانب السلطة لامتصاص النقمة الشعبية، وتخفيف الضغوط الشعبية عليها.

وقد عزز الحكم هذا التمسك أيضاً بخطوات عملية ملموسة، منها تعويض الكيان الصهيوني عن حظر القوات المسلحة اليمنية مرور البواخر الناقلة للبضائع إلى الكيان الصهيوني عبر البحرين الأحمر والعربي بالمشاركة في الجسر البري الناقل للسلع إلى كيان الاحتلال عبر الأراضي الأردنية.  

إصرار السلطة على التمسك بديمومة العلاقة مع كيان الاحتلال رغم اتضاح طبيعته الإجرامية، وطابعه العنصري وتحول نظامه من الفاشية المقنعة إلى الفاشية الصريحة، فرض نفسه حكماً على قائمة مطالب الحركة الشعبية الأردنية التي اعتبرت أن مساهمة الأردن الرسمي الجدية في إجبار التحالف الحكومي اليميني المتطرف في الكيان الصهيوني العنصري على الإذعان لمطلب وقف العدوان وسحب قواته الغازية من غزة تستوجب من جملة تدابير ملحّة قطع جميع العلاقات وإنهاء أي تعامل معه.

وبذا فقط يمكن أن يتحقق الانسجام بين الموقفين الرسمي والشعبي، ويتحقق توق الشعب الأردني لأن يكون بلده ونظامه السياسي في مصاف الدول التي سحبت سفرائها من كيان الاحتلال احتجاجاً على حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي يشنها كيان الاحتلال على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس، وعقاباً له على ازدرائه واستخفافه بإرادة شعوب المعمورة كافة وللدول المتحررة من الهيمنة الإمبريالية والتبعية المقيتة لسطوتها ونفوذها الآخذين في التآكل على الصعيد الدولي… هذه الشعوب التي يتعمق الوعي والقناعة لديها بأن هذا الكيان الغاصب والعدواني هو المصدر الأساس لغياب الأمن والاستقرار والسلام في منطقة “الشرق الأوسط” وأن زواله هو الكفيل بكسر حلقة الحروب الدموية التي تتولد عن مساعيه المحمومة لتطبيق الأساطير التلمودية المتخيلة على أرض الواقع، وأطماعه في بناء دولة يهودية نقية على حساب وطن وحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية وغير القابلة للتصرف.

في موازاة التناقض غير القابل للتجسير بين الموقفين الرسمي والشعبي من التطبيع مع كيان الاحتلال، هناك قضية يلتقي فيها الموقفان، وهذه القضية تتعلق بخطة اليمين الديني الصهيوني المتطرف فرض الترانسفير (التهجير) القسري على الشعب الفلسطيني من الضفة الغربية باتجاه الأردن. هذه خطة موضوعة قيد التنفيذ الفعلي والعملي. والدليل على ذلك هو الاقتحامات المتكررة لمدن الضفة الغربية وتجريف الأحياء والمخيمات، والتوسع في تدمير المساكن ومنشآت البنية التحتية، تماماً كما يحصل في غزة، لكن بصورة مصغرة، التي حوّلها المجرمون الصهاينة إلى مناطق غير قابلة للعيش.

ومع أن لدى حزبنا ثقة أكيدة وقناعة راسخة بأن الشعب الفلسطيني عصي على الاستسلام لمشيئة المحتلين الغزاة، ومصمم على الثبات والصمود في وطنه أياً كانت الشدائد والأهوال، ومهما اتسع حجم الدمار، ومهما أوغلت آلة الحرب الصهيونية الهمجية في دماء الشعب الفلسطيني، إلَّا أن الحذر واجب، كما هو واجب أيضاً اتخاذ جميع الإجراءات الكفيلة بإفشال مخططات العدو الصهيوني المعلنة.

يطالب حزبنا أسوة بجميع الأحزاب والقوى الوطنية السلطة منذ الآن أن يتم تحصين الجبهة الداخلية باتخاذ تدابير عاجلة على مختلف الصعد السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والتعبوية، بأن يتوقف تماماً هذا الهجوم المتمادي على الحريات الديمقراطية والعامة، والتوسع في استخدام قانون الجرائم الإلكترونية واعتقال نشطاء الحراك الشعبي والأحزاب السياسية بتهم تتعلق بحرية النشر والتعبير عن الرأي، بما في ذلك ما يتعلق بوقف العدوان وقطع العلاقات ووقف التطبيع مع كيان العدوان والاحتلال، هذا الحق الأساس في منظومة الحقوق والحريات الديمقراطية التي يكفلها الدستور والشرعة الدولية لحقوق الإنسان التي وقع عليها الأردن وتعهد الالتزام بها، وأن يتم مراجعة النهج الاقتصادي المطبق، وفك تبعيته بالمراكز الرأسمالية العالمية وبمؤسساتها المالية والنقدية، وأن يتم إعارة جل الاهتمام لمستوى معيشة الناس الذي يتراجع بشكل متواصل ولمداخيلهم التي تتآكل باضطراد، وأن يتم الاهتمام بتشجيع وتعميق وإشاعة ثقافة المقاطعة للبضائع والسلع التي تنتجها شركات تقدم شتى أشكال الدعم للاحتلال ولحركة الاستيطان والاستثمار في المستوطنات، وكذلك ثقافة المقاومة لمشاريع الاحتلال ومخططاته، وبناء علاقات الأردن مع دول العالم في ضوء مواقفها العملية من الاحتلال وسياساته واجراءاته، بما فيها تلك التي تتهدد الأردن وسيادته واستقلاله.  

ويرى حزبنا وسواه من الأحزاب الوطنية والتقدمية أن التصدي الناجع لمخططات الترانسفير (التهجير) المعادية للشعبين الفلسطيني والأردني على حد سواء لا تستقيم مع مواصلة التعويل على رفض الولايات المتحدة والدول الغربية لهذه المخططات. فقد ثبت بالملموس أن علاقة الولايات المتحدة وأبرز حلفائها في حلف الأطلسي مع الكيان الصهيوني العنصري تتقدم على أي علاقات مع سائر الدول العربية منفردة ومجتمعة، وهي تكاد تكون الثابت الوحيد في سياسة الولايات المتحدة الشرق أوسطية. وكما تنكرت واشنطن لعلاقاتها التي بدت راسخة وغير قابلة للتبدل مع أنظمة ضحت بها حين تعارض بقاؤها مع مصالح واشنطن النفعية والضيقة، فهي لن تتورع عن التضحية بالأنظمة الرسمية العربية إذا ما اقتضت أو أملت ذلك مصالحها في الهيمنة والتوسع والنهب أو مصلحة حليفها الاستراتيجي، الكيان الصهيوني في إحكام قبضته العسكرية – الأمنية والاقتصادية والسياسية على المنطقة العربية برمتها، مستهلاً ذلك بتصفية القضية الوطنية للشعب الفلسطيني، وطمس حقوقه الوطنية المشروعة في التحرير والعودة وتقرير المصير على كامل ترابه الوطني. 

صمود الشعب الفلسطيني في وطنه، وإفشال مخططات تهجيره، يستجيب لمصالح الأردن الوطنية، ويقضي نهائياً على مساعي تمدد المشروع الصهيوني باتجاه أراضيه وعلى حساب شعبه وكيانه الوطني. وهذا يتطلب تقديم الدعم السياسي (حتى لا نقول العسكري) في المقام الأول، قبل الدعم الإنساني. والمقصود بذلك اتخاذ خطوات عملية ملموسة على صعيد السياسة الخارجية تستند إلى تحولات جذرية في السياسات الداخلية (أشرنا إلى بعضها آنفاً) تردع قادة الاحتلال عن مواصلة عدوانهم على الشعب الفلسطيني، وتنفيذ مخططات اقتلاعه من وطنه، واستمرار تنكرهم لحقوقه الوطنية المشروعة في الحرية والعودة وتقرير المصير.   

Author

  • نضال مضيه

    نائب الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني، عضو هيئة تحرير جريدة الجماهير الأردنية

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

تجارب نضال أميركا اللاتينية واليمن في مقاومة الإمبريالية الأميركية

استضاف مركز دار الخبرة للدراسات والتطوير ومركز الدراسات السياسية والاستراتيجية اليمني في العاصمة اليمنية صنعاء، الناشطيْن التشيليين في مجال حقوق الإنسان، الدكتور بابلو أليندي الدولي

غزة بعد إعلان وقف إطلاق النار

إن صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته أفشل مخططاً صهيونياً عدوانياً كبيراً استهدف خلط الأوراق في المنطقة وكل محاولات مباغتة المقاومة وتسجيل إنجازات نوعية لإضعافها باءت بالفشل

الكويت: حزمة توجيهات وتشريعات اقتصادية مرتقبة بوجهة نيوليبرالية

التوجيهات والتشريعات المرتقبة تعكس في مجموعها توجهات اقتصادية نيوليبرالية ستكون لها، في حال إقرارها، تأثيرات وتداعيات اقتصادية واجتماعية سلبية سواءً على الاقتصاد الوطني أو على مستوى معيشة غالبية المواطنين والمقيمين.