صنعاء المقاومة وإرث اليمن الديمقراطية

كانت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، بالتحديد، تلعب دوراً كبيراً في دعم الفصائل الفلسطينية المقاومة، سواء من خلال التدريب العسكري أو الدعم السياسي والدبلوماسي. دون أن يعني هذا أن اليمن العربية لم تقدم يد العون للمقاومة الفلسطينية، قدمت صنعاء حينها دعماً سياسياً ومعنوياً للفلسطينيين في مختلف المناسبات الدولية والإقليمية -في الأسبوع الماضي، قامت القوات المسلحة اليمنية (صنعاء)، باستهداف “تل أبيب” بطائرة مسيرة تسمَّى “يافا”، مثلت العملية تطوراً نوعياً، وهذا يُعيدنا إلى تذكر ملف الدعم اليمني للقضية الفلسطينية إذ أن موقف صنعاء اليوم هو امتداد لهذا النضال اليمني.

الدعم الذي قدمته جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية للفصائل الفلسطينية، كان جزءاً من سياستها الخارجية، فثورة 14 أكتوبر في ستينيات القرن الماضي بوصفها حرب تحرير شعبية ضد الاستعمار، تطورت سياستها الخارجية على نحو معاد للإمبريالية والصهيونية، وهذا التطور ضروري فالوطنية الحقيقية تقتضي معاداة الاستعمار والدفاع عن حقوق بقية الشعوب في تقرير مصيرها، لكون الجبهة المعادية للاستعمار واحدة. 

أسهم دعم اليمن الديمقراطية سابقاً للمقاومة الفلسطينية في تمكين هذه الفصائل من تنفيذ عملياتها ضد أهداف إسرائيلية وغربية. وكما وجدت المقاومة الفلسطينية في الأمس “عدن” سنداً حقيقياً لها، ها هي اليوم تجد “صنعاء” سنداً حقيقياً للمقاومة، وتقدير موقف صنعاء اليوم معروف عبرت عنه قيادات مختلف فصائل المقاومة. 

 وإن كان أقل مما قدمته عدن وذلك لطبيعة السلطة في الشمال التي كانت ضمن التوجه الغربي- وعلى سبيل المثال ففي الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 اتجه متطوعون من شمال اليمن ومن جنوبه إلى بيروت، وحين أُخرجت معسكرات المقاومة من بيروت اتجهت إلى اليمن وتحرك في اليمن بشماله وجنوبه بحرية واستقبلهم بحفاوة كبيرة.

عملية يافا 2024 

عملية مسيرة “يافا” الأخيرة، تعتبر تحولاً استراتيجياً نظراً لأنها تكشف عن قدرة صنعاء على تنفيذ هجمات بعيدة المدى ضد دولة الاحتلال، وتزعزع من “قوة الردع الإسرائيلية” وتفوقها التقني، وهو ما يمثل تهديداً جديداً للأمن “الإسرائيلي”، إذ يكشف عن ضعف في نظام الدفاع الجوي “الإسرائيلي”، والذي فشل في رصد الطائرة وإسقاطها قبل وصولها إلى هدفها.

لاحقاً وبعد استهداف دولة الاحتلال الإسرائيلية لمحافظة الحديدة اليمنية ومينائها، أُعلن أن استهداف تل أبيب بالطائرة المسيرة يمثل دخول اليمن المرحلة الخامسة من التصعيد. هذه المرحلة تشمل تكثيف الهجمات على أهداف إسرائيلية بما في ذلك استخدام أسلحة جديدة ومتقدمة بعيدة المدى يصعب اعتراضها، المراحل الأربع السابقة تضمنت عمليات متعددة ضد الأهداف الإسرائيلية في البحر الأحمر وخليج عدن، والبحر العربي، ومدخل المحيط الهندي، والبحر الأبيض المتوسط، شهدت هذه العمليات استهداف السفن الإسرائيلية والهجمات بالطائرات المسيرة والصواريخ على المدن الفلسطينية المحتلة، التي أدت في إحدى جوانبها إلى إفلاس ميناء إيلات (ميناء أم الرشراش المحتلة).

صنعاء ترث عدن

مواقف دعم القضية الفلسطينية اليوم، هي امتداد لإرث من الدعم التاريخي، ففي حرب 48 قاتل يمنيون إلى جانب الشعب الفلسطيني، لكن الدعم الأكبر كان لاحقاً من بعد قيام الجمهورية في “الشمال” والاستقلال في “الجنوب” قبل الوحدة، باتت الحكومة والجماهير الشعبية أقدر على الحضور في قضايا الأمة العربية، وفي إسناد الشعب الفلسطيني.

كانت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (جنوب اليمن) تُعتبر واحدة من الداعمين البارزين للحركات التحررية والفصائل الفلسطينية المسلحة، نظراً لتبنيها نهج الاشتراكية المعادي للإمبريالية والسياسات الراديكالية الثورية، وقد مثلت عدن قبلة للثوريين العرب والمنفيين، بل احتضنت مناضلين من قوميات ودول وقارات أخرى.

قدمت جمهورية اليمن الديمقراطية، للفصائل الفلسطينية الدعم اللوجستي والتدريب العسكري، واحتضنت اليمن الديمقراطية معسكرات تدريب للفلسطينيين، حيث تلقوا تدريباً عسكرياً واستخباراتياً. كما دعمت اليمن الديمقراطية القضية الفلسطينية سياسياً ودبلوماسياً في المحافل الدولية. كانوا من المدافعين الشرسين عن حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم واستعادة أراضيهم.

كما كان هناك علاقات وثيقة بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث تم توقيع عدة اتفاقيات للتعاون بين الطرفين. وقدمت الحكومة في عدن دعماً مالياً لبعض الفصائل الفلسطينية للمساعدة في تمويل عملياتها.

ارتبطت عدن بصورة واضحة بمجموعة وديع حداد، كان وديع من الشخصيات البارزة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان يقود ما يعرف بـ “الجناح الخارجي” للجبهة. تخصص هذا الجناح في تنفيذ عمليات فدائية خارج فلسطين، مستهدفاً مصالح إسرائيلية وغربية. بدأ حداد في العمل عام 1970 وخصصت له اليمن الديمقراطية فيلا في خور مكسر، ولمجموعته معسكرا في جعار أبين.

“وتدرّب في هذا المعسكر الفينزويلي إيليش راميريز سانشيز الملقب بكارلوس، وفوساكو شيجنونو رئيسة الجيش الأحمر الياباني، وهاغوب هاغوبيان (واسمه الحقيقي بدروس أوهانيسيان) مؤسس منظمة الجيش السري الأرمني، وعدد من الألمان التابعين لفصيل الجيش الأحمر، وحركة 2 حزيران/ يونيو، وعدد من الخلايا الثورية؛ ناهيك عن المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين، والأرتريين وبعض الإيطاليين (باستثناء الألوية الحمراء) والإيرانيين والأتراك والباسكيين والهولنديين والنيكارغويين والسلفادوريين”…(بحث بعنوان: عدن في ظل النجمة الحمراء تأليف  Franck MERMIER : المترجم: CHEHAYED Jamal).

عملية خطف الطائرة الفرنسية فيينا

 من أبرز العمليات التي انطلقت من عدن كانت عملية اختطاف الطائرة الفرنسية فيينا – تل أبيب في عام 1972. كانت هذه العملية من تدبير مجموعة وديع حداد واستهدفت الضغط على إسرائيل من خلال خطف رهائن غربيين.

عملية استهداف سفينة النفط الصهيونية “كورال سي”

في يونيو 1971 قامت مجموعة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة وديع حداد باستهداف سفينة النفط الإسرائيلية “كورال سي” في مضيق باب المندب. مما أدى إلى تعطيل السفينة وإلحاق أضرار بها. هذه العملية كانت تهدف إلى ضرب الاقتصاد الإسرائيلي وإظهار قدرة الفصائل الفلسطينية على تهديد الملاحة الإسرائيلية.

عملية اختطاف طائرة سابينا

في مايو 1972، قامت مجموعة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بدعم لوجستي من عدن، باختطاف طائرة سابينا البلجيكية في طريقها إلى تل أبيب. تم توجيه الطائرة إلى مطار بن غوريون حيث تم تحرير الرهائن بعد اشتباك مع القوات الإسرائيلية الخاصة.

عملية ميونيخ

في سبتمبر 1972، قامت مجموعة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باختطاف وقتل 11 رياضياً إسرائيلياً خلال دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ. بينما لم تكن هذه العملية بالضرورة مدعومة مباشرة من عدن، إلَّا أن التدريب والدعم اللوجستي الذي تلقته المجموعة من اليمن الديمقراطية كان له دوره في تجهيزهم لتنفيذ مثل هذه العمليات. 

بالإضافة إلى عمليات أخرى استهدفت المصالح الإسرائيلية والغربية في مختلف أنحاء العالم قامت بها مجموعة وديع حداد بدعم من اليمن الديمقراطية، والتي كانت تهدف إلى تسليط الضوء على القضية الفلسطينية ورفع مستوى الضغط الدولي على إسرائيل.

موقف صنعاء اليوم هو امتداد لهذا التاريخ اليمني المجيد في الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني، ربما تغير مركز المقاومة من عدن إلى صنعاء وتغيرت قيادة هذا التوجه من توجه يساري إلى توجه إسلامي، إلَّا أن الشعب اليمني الذي يؤمن عميقاً بهذه القضية المركزية هو ذاته اليوم والأمس، مذ كانت إيران لا تزال داعمة للكيان الصهيوني في عهد الشاه، فتصوير موقف صنعاء اليوم باعتباره سياسة إيرانية منافٍ لهذا التاريخ، والواقع أن الشعب الفلسطيني لا يزال يخضع للاحتلال ولا تزال ثورة تحرره الوطنية مستمرة حتى تحقيق تقرير مصيره. 

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

تصويت تاريخي: 187 دولة في الأمم المتحدة تطالب بإنهاء الحصار الأميركي الجائر على كوبا

صوتت الأمم المتحدة يوم الأربعاء 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي على مشروع القرار المعنون ”ضرورة إنهاء الحصار الاقتصادي والتجاري والمالي الذي تفرضه حكومة الولايات المتحدة ضد كوبا“، حيث صوتت 187 دولة لصالح إلغاء هذه السياسة الأميركية المعادية .

احتدام حرب الجنرالات في السودان

تجددت الاشتباكات بين جنرالات الحرب في السودان الجنرال “حميدتي” قائد ميليشيا الدعم السريع، والجنرال البرهان قائد الجيش المختطف من الحركة الإسلامية، بشكل أكثر شراسة خلال شهر أكتوبر المنصرم على جميع محاور القتال، بخاصة في محوري الخرطوم وولاية الجزيرة.

أيقونة المقاومة الفلسطينية ليلى خالد في حوار خاص مع «تقدُّم»: عملية 7 أكتوبر بداية معركة التحرير والمقاومة بوصلتنا

خلاصة خبرتها النضالية ورؤيتها الثورية المفعمة بروح المقاومة والثقة بتحقيق النصر وتحرير فلسطين كل فلسطين، ولتضع أمامنا قراءتها للمشهد المقاوم المستمر منذ أكثر من عام في مواجهة العدوان الصهيوني على قطاع غزة الصامد، بالإضافة إلى حديثها عن الحاضنة الشعبية للمقاومة ودور جبهات الإسناد في دعمها.

العدوان الصهيوني على لبنان: الأهداف والمواجهة

في هذه المعركة المفتوحة، والطويلة، وبغض النظر عن مساراتها، ومراحلها، تترابط مسائل التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي ومواجهة السيطرة الإمبريالية وربيبتها الصهيونية، فلنكن على مستوى التحدّي.