مع احتدام الحرب في السودان للشهر السادس عشر على التوالي، يتزايد التحرك الدولي من أجل الوصول إلى حل يوقف إطلاق النار، ويؤسس لعملية سياسية تنهي الخلافات والتباينات بين القوى السياسية السودانية.
الاتحاد الأفريقي ممثلاً في آليته رفيعة المستوى المعنية بالشأن السوداني، وبعد طول انتظار شرع في خطوات عملية، من أجل توحيد رؤى القوى السياسية بشأن حل الأزمة السودانية، مسترشداً بما أنجزه سابقاً في 2019، حينما كان له الإسهام الأكبر في وضع الوثيقة الدستورية التي شكلت قاعدة الحكم للفترة الانتقالية.
ولكن المشاهد تغيرت منذ ذلك الحين وجرت مياه كثيرة تحت الجسر، فالوثيقة الدستورية القديمة لم تعد موجودة، بعد حدوث الانقلاب العسكري في 2021، والاتحاد الأفريقي نفسه الذي لم يعترف بالانقلاب العسكري، وجمد عضوية السودان، وجد نفسه مجبراً للتعامل مع قائد الانقلاب، عبر مفوضيته والوفود التي سعت للتوسط في حل المشكلة السودانية. وهكذا وجد الاتحاد الأفريقي نفسه في مطب دبلوماسي، فلا يستطيع الاعتراف صراحة بالنظام الحاكم، ولا يستطيع تجاهله في إطار البحث عن حل. الشعب السوداني أيضاً ينظر لتحركات الاتحاد الأفريقي بعين الريبة والشك، كونه كان ولا زال عراب الشراكة بين المدنيين والعسكر، وهو النموذج الذي تعتبره العديد من قوى الثورة، مؤامرة لتصفية ثورة ديسمبر وتشتيت قواها، ومحاولة لجر السودان للخلف.
هذه التداعيات جعلت الاتحاد الأفريقي يتخلف بخطوات كبيرة، فيما يتعلق بالشأن السوداني، وتقدمت بديلاً عنه منابر عديدة، ومبادرات مثل جدة والقاهرة، والمنامة وأخيراً جنيف.
حوار حول العملية السياسية
في 21 يونيو الماضي وجه مجلس الأمن والسلم الأفريقي آليته الرفيعة المعنية بالشأن السوداني بدعوة جميع الفاعلين السودانيين لبدء حوار حول العملية السياسية الشاملة لاستعادة النظام الديمقراطي الدستوري في البلاد، ولكن الآلية لم تستطع جمع الفرقاء السياسيين على طاولة واحدة، ففي 10 يوليو الماضي اجتمعت الآلية الرفيعة بأديس أبابا مع مجموعة الكتلة الديمقراطية، المحسوبة على الجيش السوداني، والمنادية باستمرار الحرب، بعد اعتذار الأطراف السياسية الأخرى مثل جبهة “تقدم” (تحالف سياسي أعلن بدعوى وقف الحرب، وهو اختصار لاسم تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية) والتي نقل عن المتحدث باسمها بكري الجاك قوله “إن الطريقة التي تم بها تصميم العملية للحوار السوداني – السوداني من الاتحاد الأفريقي دون تواصُل كافٍ وتنسيق، ومعرفة الأجندة والمشاركين، لن يكون لها معنى”.
وأضاف: “إن المجموعة المشاركة حالياً في الاجتماع منسجمة، إلى حد كبير، في دعمها للحرب والجيش السوداني، وبالتالي لا توجد أي قيمة مضافة يمكن أن يخرج بها الاجتماع مع مجموعات متّسقة في تصوراتها ومواقفها”.
وأشار إلى إمكانية أن تكون خطوة الاتحاد الأفريقي إيجابية، “إذا نجح في إقناع الأطراف التي لديها جيوش في الكتلة الديمقراطية، برفض الحرب، ودفع الجيش السوداني للدخول في عملية التفاوض السياسي، وخلاف ذلك لن يكون لها قيمة في تحديد مستقبل السودان السياسي”.
وانضمت 3 جهات مسلحة ومدنية إلى قائمة الكتل السياسية والمدنية المقاطعة للاجتماع التحضيري، حيث أعلنت “الحركة الشعبية – فصيل عبد العزيز الحلو”، و”حركة تحرير السودان”، بقيادة عبدالواحد النور، المقاطعة والتحق بهما، “تجمّع القوى المدنية” بشرق البلاد.
وهكذا تمخض الجبل فولد فأراً، والاجتماع الذي امتد لخمسة أيام دعا في بيانه الختامي لقيام حكومة تصريف أعمال، ووضع شروطاً تعجيزية أمام وقف إطلاق النار هي ذات شروط قيادة الجيش، كما دعا لاستصحاب فلول النظام البائد في أي عملية حوار، بتأكيده على ما سماه حواراً لا يستثني أحداً.
أديس أبابا الثانية:
وتحت ذات العنوان حوار القوى السياسية السودانية، وجهت الآلية الرفيعة الأفريقية الدعوة للقوى السياسية التي قاطعت الاجتماع الأول، فاعتذر الحزب الشيوعي عن المشاركة، وقال في رده على الآلية الأفريقية أن إصرارها على الحوار الذي لا يستثني أحداً يعني إشراك القوى السياسية والمجتمعية المعادية للثورة، كما أن إشارة الآلية لقائد الانقلاب العسكري بصفة رئيس مجلس السيادة يضفي شرعية على الانقلاب العسكري، وختم الحزب الشيوعي رسالته بالقول إنه يعمل وسط الجماهير ومعها لإيقاف الحرب واسترداد الثورة والعودة لمواثيقها وتحقيق شعاراتها وأهدافها المعلنة.
في حين وافقت جبهة “تقدم” و”الحركة الشعبية” بقيادة عبد العزيز الحلو و”حركة تحرير السودان” بقيادة عبدالواحد نور على المشاركة، بالإضافة لحزب البعث والمؤتمر الشعبي.
ويبدو أن هذه الجولة أيضاً قد لا تسهم في توحيد رؤى القوى السياسية حول أجندة حل الأزمة السياسية السودانية، بما فيها وقف إطلاق النار، فالحركة الشعبية بقيادة الحلو أصدرت بياناً قالت فيه أن وفد الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال أطلع على مسودة وثيقة العملية السياسية ومن ثم تقدم الوفد بملاحظات مهمة وجوهرية حول الوثيقة، شملت مقترح بعقد مؤتمر دستوري، من ضمن مقترحات أخرى.
وشددت الحركة الشعبية بأنها غير معنية بمخرجات المشاورات، مؤكدة على ضرورة مخاطبة الجذور التاريخية للأزمة السودانية وأعلنت انسحابها من عملية المشاورات التحضيرية الجارية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا وأنها غير معنية بمخرجاتها وتؤكد تمسكها بضرورة مخاطبة ومعالجة الجذور التاريخية للأزمة السودانية وذلك لوضع نهاية منطقية للحروب.
الحصان خلف العربة:
ويبدو أن اجتماع أديس أبابا الأخير الذي بدأ في 8 أغسطس الماضي، وكان مقرراً له أن ينتهي خلال ثلاثة أيام، واجه العديد من المطبات، إضافة للتعتيم الإعلامي المقصود.
الحلقة المفقودة في التحركات التي يجريها الاتحاد الأفريقي، عبر الآلية الرفيعة أو مجلس الأمن والسلم، بما في ذلك منظمة الايقاد (تضم: جنوب السودان، وكينيا، وإثيوبيا، وجيبوتي)، تتمثل في عدم وضوح مسار الحل الذي يتبناه الاتحاد الأفريقي، ومحاولته القفز على التناقضات والأمر الواقع، وبالتالي فإنه يبدو وكأنما يفتش عن إبرة في كوم قش.
العديد من القوى الثورية السودانية تعتبر مواقف الاتحاد الأفريقي، ومنذ سنوات، معادية لثورة ديسمبر، وتصنفها كمحاولات لقطع الطريق على الثورة، وبالتالي تنأى بنفسها عن دعواته واجتماعاته، وعلى رأس هذه القوى الحزب الشيوعي وتحالف التغيير الجذري ولجان المقاومة، القوى الأخرى المتصارعة على الحكم أو الضالعة في هذه الحرب، والمستفيدة منها، لا يمكنها التوافق والتوحد على رؤية مشتركة قياساً للاستقطاب الحاد والضغوط التي تتعرض لها، وهم تحركهم المصالح الخاصة والأجندات الخارجية وليس المصلحة الوطنية.
عموماً فإن الاتحاد الأفريقي إلى هذه اللحظة يضع الحصان خلف العربة، فيما يتعلق بالمسألة السودانية، والأزمة والحرب سيراوحان مكانهما طالما لا يوجد اختراق حقيقي.
-
عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني وعضو اللجنة الاقتصادية.
View all posts