من فلسطين إلى لبنان… عندما يصوغ الفعل المقاوم حلم العرب

في مواكبة الأحداث الأليمة والمجازر الجبانة التي ارتكبها العدو، في لبنان، ضد المدنيين وضد المقاومين، بما فيها المجازر “الحضارية” المرتكبة بواسطة تفجير أدوات التواصل، ومع استمرار المجازر وعملية الإبادة الجماعية في غزة والضفة، تذكرت ما دار بيني وبين الرئيس نبيه بري في آخر لقاء بيننا. اللقاء كان بهدف البحث في القسم اللبناني من حملة التضامن مع المقاوم الرمز جورج عبدالله، والتي بدأت في فرنسا من قبل بعض النواب الفرنسيين اليساريين، وتحديداً من حزب “فرنسا الأبية” و”الحزب الشيوعي الفرنسي”. وطبعاً كان لا بد أن يتناول الحديث موضوع الساعة، حرب الإبادة في غزة وإسناد المقاومة الإسلامية واللبنانية لغزة في معركتها.

في بداية حديثه قال الرئيس بري، وهو يبدي رأيه في الفرق بين عامَي 2006 واليوم، أنه في العام 2006 كانت الحرب تدور بشكل خاص بين المقاومة والعدو، لأن شعارها الأساسي كان تبادل الأسرى من الجانبين، وحتماً الاتفاق على وقف إطلاق النار الذي اختتم باتفاقية، كنت وأنا في موقعي كأمين عام للحزب الشيوعي اللبناني، وما زلت في موقفي كشيوعي وأمين عام سابق، أؤكد أنه الاتفاق الذي أخذ منا بالسلم والمفاوضات ما لم يستطع العدو فرضه بالحرب، بفعل المقاومة وصمود الشعب اللبناني وخاصة صمود الجنوبيين، قال الرئيس بري: “الفرق الأساسي انهم اليوم يريدون تهجير أهل الجنوب، وليس إبعاد المقاومة فقط”..

ما يجري اليوم، ثبت لدي حقيقتين:

الأولى: إن المشروع الإمبريالي – الصهيوني، الأساسي، الذي طواه “بن غوريون” مؤقتاً، وقال إن “الاستقلال” هو خطوة على طريق مشروع هرتزل، وأعاد نتنياهو رفع خارطته في الأمم المتحدة، هو مشروع مستمر، وليس مشروع الصهاينة فقط، بل مشروع الإمبريالية الأميركية بالأساس، وهو في جوهر مشاريعها للشرق الأوسط  سواء أكان “حقيقة تاريخية”، أم تجسيداً “بحيثية اقتصادية – سياسية” تكون فيه هذه “الدولة” رأس حرب الإمبريالية الدائم في الشرق الأوسط، أي في رسمها “لسايكس – بيكو” الجديد الذي كان الأميركي يعتبره قد “مات”، ويجب استبداله بإعادة رسم الخارطة بالدم.

بالاستنتاج: الأميركي هو صاحب القرار وهو العدو الأول لأمتنا، وما “الدولة” المزروعة إلَّا أداة تنفيذ للأميركي وللإمبريالية العالمية.

الثانية: أن “طوفان الأقصى”، بجوهره، كان معركة تدخل ضمن إطار “الدفاع المسبق” من أجل إفشال خطة أميركا و”إسرائيل” وحلفائهما بتهجير غزة، وبتنفيذ الممر الاقتصادي الذي كان قد بدأ يتحقق عبر مشروع التطبيع مع بعض الأنظمة العربية، ولذلك كان “طوفان الأقصى”، عدا عن بعده الديني (الأقصى)، والإنساني (إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين)، له بعد قومي – تقدمي واضح ولو دون إعلان، وهو منع الإمبريالية الأميركية من حل أزمتها مجدداً على حساب شعب غزة، شعب فلسطين وفقراء العرب والعالم. نعم بذلك “غزة”، بدماء أبطالها ومقاوميها، تدافع عنَّا جميعاً، عن العرب وأحرار العالم. 

إن “طوفان الأقصى” معركة سيسجل تاريخ الصراع مع العدو نتائجها الواضحة، رغم الخسائر والآلام.

الخسائر والآلام لها أسبابها الواضحة:

  • احتضان الإمبريالية العالمية للعدو بكل ما يعني الاحتضان، تمويلاً وتسليحاً وتخطيطاً ومشاركة عملية، وهذا ما يثبت فعلياً الفرق الطبيعي في موازين القوى التقنية والمادية.
  • التآمر العربي الذي كان يتهيأ للتطبيع وإذا بالطوفان يجمد مشاريعه، ممَّا جعل بعض الأنظمة تجمد خطواتها علناً وتزيد من مشاركتها الفعلية إلى جانب العدو.
  • أوهام “الدولة الفلسطينية المستقلة” إلى جانب “دولة العدو”. هذه الأوهام التي أثرَّت سلباً على محاولات توحيد المقاومة والشعب الفلسطيني في إطار مشروع مقاوم وجهته الاستراتيجية واضحة تحرير فلسطين بحدودها التاريخية الكاملة وعاصمتها القدس.

أما نتائج المعركة التاريخية والايجابية فيمكن اختصارها:

  • قدرة المقاومين، رغم اختلال ميزان القوى، على اختراق التحصينات المادية والإلكترونية للعدو.
  • تكيف المقاومين مع ظروف الاحتلال والإبادة، واستمرار استنزافهم لقدراته ولجيشه.
  • احتضان أهل غزة، رغم المذبحة التي طالت عشرات الآلاف من الأهالي، وخصوصاً النساء والأطفال، احتضانهم للمقاومة وعدم تجاوبهم مع خطة العدو لعزلها عنها.
  • افتضاح السردية التاريخية للصهاينة في العالم، وبداية التفاف حقيقية فكرية حول السردية الفلسطينية والحق الفلسطيني.
  • اتضاح طبيعة المشروع وبكون العدو الأساسي الإمبريالية، بطوريها القديم والجديد.
  • البعد الوطني والطبقي للمقاومة، لقد بيّن احتضان العالم التقدمي لها، أن دعم مقاومة الشعب الفلسطيني لا تحده طبيعتها الأيديولوجية، ولنكون صريحين هنالك من يقول بالأيديولوجية الإسلامية في العالم ولا يدعم البعد المقاوم للحركات العربية والفلسطينية المقاومة، كما أن هنالك من اليسار من تلكأ وتهاون ووازن بين الجلاد والضحية.

أما طبقياً فالفرز واضح، أغنياء العالم، من الدول، يحتضنون المشروع الصهيوني بكل إجرامه، وفقراء العالم بمعظمهم، دولاً وشعوباً، يدعمون القضية الفلسطينية. 

تطور الخطاب السياسي للمقاومة الفلسطينية من خطاب أيديولوجي (ديني) حصراً إلى خطاب بخلفية دينية ولكن يعتز ويعترف بدعم قوى التحرر والتقدم في العالم.

وفي العودة إلى حرب الإبادة الحالية ضد الشعب اللبناني، نعم ضد الشعب اللبناني بكل مناطقه، أساساً في الجنوب والبقاع وأفقياً في جبل لبنان وبيروت وصولاً إلى جوار الشمال. 

إنها حرب إبادة حقيقية طالت بشكل أساسي النساء والأطفال، والشعارات الكاذبة تتكرر على لسان قادة العدو وينقلها الإعلام الرأسمالي الغربي دون تعديل “الحرب ضد حزب الله”. الحقيقة إنها محاولة جديدة بعد الحروب والاجتياحات السابقة لإخضاع لبنان وإلحاقه بالمشروع الصهيوني وضمه إلى خارطتَي “بن غوريون” و”نتنياهو”.

وبهذا المعنى يصبح موقف المقاومة اللبنانية هو بالتأكيد، الدفاع عن لبنان وشعبه إضافة إلى مهمة إسناد شعب غزة ومقاومتها.

وبانتظار ما ستوضحه الأيام اللاحقة، بعض الاستنتاجات الأولية:

أولاً: ما جرى يؤكد بدون لَبس صحة موقف “المقاومة الإسلامية” في مساندتها للشعب الفلسطيني، فالقضية مترابطة وواحدة، وهذا أيضاً يشير إلى صحة موقف جبهات الإسناد في اليمن والعراق وكل المساندين لغزة ومقاومتها.

ثانياً: الدور المباشر والواضح للولايات المتحدة الأميركية في لبنان كما في غزة. وفي لبنان كان الدور المباشر للمخابرات والقوات الأميركية وللبيت الأبيض والجيش الأميركي أكثر وضوحاً وأقل حذراً. بدءاً من حرب الابادة “الالكترونية”، إلى ترسانة الأسلحة إلى الشراكة في التخطيط والتنفيذ للمجازر عبر سلاح الجو والاستخبارات الأميركية من البحر وللأسف من أرض عربية حيث القواعد الأميركية تقود المعركة المباشرة.

ثالثاً: بالاستنتاج، الموقف من العدو الأميركي يجب أن يصبح أكثر وضوحاً، أي رفض الخلل البنيوي في المفاوضات، سواء في غزة أو ما يجري التحضير له في لبنان، لا لوساطة الذئب، لا لوساطة الولايات المتحدة، كما لا لوساطة عرب الردة والتطبيع.

وهذا ينطبق على الماضي أيضاً، عبر إعادة النظر، مهما كانت نتائج المعركة العسكرية، بكل الاتفاقات التي لعب فيها الأميركي دور “الوسيط”.

رابعاً: استمرار التنسيق بين “ساحات” المقاومة وأطرافها، ولكن مع ملاحظة أولية، أن لا يرتكب المقاومون أخطاءنا السابقة، فمصلحة التحالف، هي في كل ساحة معركة، مصلحة الطرف المقاوم في هذه الساحة وليست مصلحة المركز. 

خامساً: تحويل التراكم الكمي في تحالف المقاومة، أي انخراط كل قواها بتعدد انتمائهم الفكري والسياسي والأيديولوجي، في حالة تفاعل تؤكد الطبيعة الوطنية، التقدمية والطبقية، لهذه المقاومة. وهذا ليس مطلوباً من القيادة الحالية للمقاومة فقط، بل هو مطلوب من كل الأطراف المنخرطة تاريخياً وحاضراً في العمل المقاوم.

سادساً: تطوير الخطاب الذي يدعم السردية المواجهة للسردية الصهيونية في العالم، والصلة مع الأطراف المساندة للقضية الفلسطينية على قاعدة التكامل وليس الحالة الراهنة.

إن العدو يريد فرض معادلة جديدة تفصل، بداية، غزة عن لبنان، أي التهجير مقابل التهجير، والعودة إلى الشمال مقابل العودة إلى الجنوب، ولكن بشروط يحاولون فرضها عبر الابادة والتدمير والدعم الأميركي والسكوت العربي.

إن حدة القصف والإجرام واستهداف المدنيين، ربما تنجح في تهجير مؤقت لأبناء القرى التي تتعرض يومياً للقصف العشوائي، ولكن من يجتمع بهم، يتأكد بأن أهل الجنوب كما البقاع مستمرون في تحمل ثمن الصمود واحتضان المقاومة، وهم إلى جانب المقاومة، في رفض مخططات العدو.

إنهم رغم الدم والآلام، ورغم رحيل الأحباء، وخاصة الأطفال والنساء منهم، يرفضون الاستسلام لشرط العدو وبفك ارتباط معركة الإسناد مع وقف الحرب المجرمة على غزة.

إن الاحتضان، في قرى اللجوء، من قبل الأهالي الذي رغم تقصير الدولة الواضح، رغم الادعاءات، يتعاملون مع استقبال أهل الجنوب والضاحية كما لو أنه مهمة نضالية يستطيعون القيام بها. شباب وفتيات، من الأحزاب وخارجها، من مؤسسات أهلية وخارجها. 

آلاف البيوت ومئات المدارس افتتحت لدعم صمود الأهالي ولسد ثغرة تقصير الدولة ومؤسساتها.

والآن، وإلى موعد قريب، المجد للشهداء والشفاء للجرحى والعودة الأكيدة لكل الأهالي إلى بيوتهم.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

غارات معادية على قلب بيروت والضاحية الجنوبية.. نخبة قوات العدو في مرمى المقاومة

إمعان العدو الصهيوني في إجرامه ضد المدنيين في مختلف المناطق اللبنانية والمحافظات، هو تأكيد على هزائمه من قطاع غزة إلى لبنان التي يتكبدها على يد أبطال المقاومة الفلسطينية واللبنانية. وبدأ العدو الصهيوني يقع في بدايات ما ينتظره على أرض جنوب لبنان، الجحيم ومقبرة قواته ودباباته.

طوفان الأقصى الذي فعل فعلته ومتطلبات المرحلة

في السابع من أكتوبر 2024، يطوي طوفان الأقصى عامه الأول كاشفاً الكثير من قدرات المقاومة على مواجهة الاحتلال وأذنابه وهي تُسطّر أروع معارك الصمود والتصدي لعدم تمكين العدو الصهيوني من تحقيق أهدافه التي وضعها في حرب إبادته على قطاع غزة والضفة الغربية وعموم فلسطين.

الكيان الصهيوني يعلن بدء غزو بَريٍ لجنوب لبنان والمقاومة تستهدف التجمعات العسكرية للعدو على الحدود وتواصل دكّ عمق الكيان

بعد يوم دامٍ من القصف المدفعي والجوي الهمجي الصهيوني على العديد من المناطق والمحافظات اللبنانية أعلن جيش العدو الصهيوني ليل الاثنين – الثلاثاء بدء غزوه البري للبنان بقرار سياسي صادق عليه كابينت الكيان الصهيوني بالإجماع

دور صنعاء الجيو-سياسي في معركة طوفان الأقصى 

على مدار تاريخ اليمن الحديث، كانت فلسطين تحتل مكانة خاصة في قلوب اليمنيين. تميز الشعب اليمني بالاعتزاز بعروبته ونصرة القضايا القومية والإسلامية. ولم تكن الحرب الراهنة على غزة استثناءً، إذ خرج اليمنيون إلى الساحات بمختلف أطيافهم وولاءاتهم – وبرغم انقساماتهم في الشأن السياسي الداخلي- احتجاجاً على جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، مؤكدين وقوفهم إلى جانب الشعب الفلسطيني.