طوفان الأقصى الذي فعل فعلته ومتطلبات المرحلة

في السابع من أكتوبر 2024، يطوي طوفان الأقصى عامه الأول كاشفاً الكثير من قدرات المقاومة على مواجهة الاحتلال وأذنابه وهي تُسطّر أروع معارك الصمود والتصدي لعدم تمكين العدو الصهيوني من تحقيق أهدافه التي وضعها في حرب إبادته على قطاع غزة والضفة الغربية وعموم فلسطين، في تأكيد جلي بأن المقاومة الفلسطينية، والبيئة الشعبية الحاضنة في غزة وفلسطين، قادرة على لجم الاندفاعة الفاشية لجيش الاحتلال في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والفصل العنصري. 

لقد كشفت المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023 عن حقيقة “الجيش الذي لا يقهر” وأسقطت هيبته ووضعته في المكان الذي يستحقه دون تهويل وتضخيم لقوته وقدراته العسكرية واللوجستية والتكنولوجية، فقد تبيَّن من الهجوم الذي قامت به المقاومة فجر يوم الطوفان قدرتها على تعطيل كل أدوات التقنية التي يمتلكها العدو بدعم أميركي غربي مطلق، وأنجزت مهمتها في هز أركان السردية التي روجها الإعلام الصهيوني والغربي والعربي المتصهين عن قوة هذا الجيش وزعزعة الثقة به بين المستوطنين والرأي العام العربي والعالمي. قاد هذا إلى تحرك شباب العالم ضد الصهاينة، وخصوصاً الجامعات الأميركية، بعد أن انقشعت أكاذيب الإعلام المتصهين.

صحيح أن ردة فعل العدو على فعل الطوفان كانت فاشية متوحشة للحد الذي ذهب جيشه إلى تنفيذ حرب إبادة جماعية لم يشهد التاريخ الحديث مثيلاً لها، لكنه في ذلك اليوم كان عاجزاً منتظراً دعماً أميركياً يوقفه مرة أخرى على رجليه ويعيد توازنه. وقد أتى هذا الدعم سريعاً من أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ودول غربية وبعض الدول العربية وقعت في أسر السردية الصهيونية عن طبيعة الصراع والمقولة المعطوبة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” لتبرير عملية استيطان فلسطين واحتلالها استناداً على وعد بلفور البريطاني المشؤوم سنة 1917. لقد فضح الطوفان كل هذا الزيف، وضرب السردية الصهيونية في مقتل فتحرك الرأي العام العالمي رافضاً ومناهضاً للكيان وهو يسفك دماء الأطفال والنساء والمدنيين ويدمر كل شيء لتنفيذ قانون الدولة القومية الذي يقضي “بيهودية الدولة” وطرد أهل فلسطين الأصليين منها.

مع انقضاء عام على المذابح والمجازر، يقف الكيان عاجزاً عن إنجاز أهدافه التي تمثلت في هزيمة المقاومة وإعادة أسراه وضمان ألا تشكل المقاومة الفلسطينية تهديداً للكيان. وأضاف الاحتلال هدفاً جديداً هو إعادة مستوطني الشمال الفلسطيني إلى المستوطنات التي طردتهم منها جبهة الإسناد اللبنانية بدخولها على الخط منذ اليوم الثاني للطوفان. أراد جيش الاحتلال من استخدامه القوة المتوحشة القصوى في القتل الذي بلغ حوالي 50 ألف شهيد بينهم أكثر من 10 آلاف مفقود جلهم تحت الأنقاض، ونحو 100 ألف جريح وقرابة مليوني نازح وآلاف الأسرى، وتدمير أكثر من 75 بالمئة من البنى التحتية بما فيها المدارس والمستشفيات وشبكات المياه والكهرباء ومياه الصرف الصحي والطرقات والمباني والبيوت. لكن الاحتلال لم يتمكن من كسر إرادة الشعب الفلسطيني، مقاومة وبيئة حاضنة، ليس في قطاع غزة فقط، بل امتد هذا الصمود وتطور في الضفة إلى فعل مقاوم مضاعف نصرة لغزة ولمواجهة قطعان المستوطنين الذين لم يتوقفوا عن السطو على البيوت والأراضي والمزارع واقتحام المسجد الأقصى تزامناً مع المذابح في غزة. وتفيد المعلومات أن عدد المستوطنات والمستوطنين في الضفة الغربية والقدس قد تزايد منذ السابع من أكتوبر فبلغ عددهم نحو مليون مستوطن، كما تضاعفت عمليات الاقتحام والاعتداءات على المسجد الأقصى، في تحد صارخ لأهل فلسطين والعرب والمسلمين والعالم، وذلك بتمادي الحكومة الصهيونية الفاشية في قيادة وحماية عمليات الاقتحام وتهويد القدس.

جبهات الإسناد

استمرار المقاومة والصمود الأسطوري في غزة واشتعال الضفة أسهم في زيادة الدور الذي تقوم به جبهات الإسناد، وتحديداً اللبنانية، متمثلة في المقاومة وحاضنتها، فتضاعفت العمليات النوعية التي تقوم بها فأجبرت نحو 100 ألف مستوطن على مغادرة مستوطنات الشمال، خصوصاً وهي ترد على العدوان المتصاعد الذي شكل فصلاً دموياً جديداً باغتيال بعض قادة المقاومة ومجزرتي “البيجرز واللاسلكي”، والرد الموجع للمقاومة في القواعد العسكرية الصهيونية ومراكز تجسسها وخصوصاً فرقة 8200، ما جعل العدو يفقد صوابه ويشن عدواناً كبيراً فجر الثالث والعشرين من سبتمبر الماضي على مختلف المناطق اللبنانية راح ضحيته 500 شهيد وأكثر من 1600 جريح في يوم واحد. فشل الكيان في تحقيق أهدافه في غزة قاد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لتحسس رقبته وجرجرته للمحاكم بتهم الفساد والمسؤولية الأكبر عن فشل التصدي للطوفان في يومه الأول، فضاعف عدوانه على الجبهة اللبنانية مستخدماً “عقيدة الضاحية” التي أطلقها العام 2006، فنفذ سياسة الأرض المحروقة وتوجها يوم السابع والعشرين من سبتمبر الماضي بعدوان غير مسبوق على الضاحية الجنوبية ببيروت واستهدف قيادة “حزب الله” وعلى رأسهم زعيمه السيد حسن نصر الله بوابل من أطنان القذائف الأميركية أدت إلى اغتيال نصر الله وثلة من قيادة المقاومة، في محاولة صهيونية لتحقيق هدف رئيسي هو ضرب القيادة والسيطرة وتأليب البيئة الحاضنة بمزيد من القتل والتدمير. 

اغتيال نصر الله سبب زلزالاً لا سابق له، ليس في لبنان فقط، بل في المنطقة العربية والعالم، إذ يشكل “حزب الله” العمود الفقري للمقاومة في لبنان والمنطقة وهو الأكثر ندية وقوة وقدرة على مواجهة الاحتلال الصهيوني، لذلك استثمر الكيان الإرباك الذي أحدثته عملية الاغتيال الكبرى وزاد من ضغطه العسكري والأمني على المقاومة اللبنانية، وبدأ يُحضّر لغزو بري لتشكيل جيب يفصل المستوطنات عن الجنوب اللبناني وراح يحرق الأخضر واليابس للانتقام من هزائمه طوال العقود الثلاثة الماضية في العام 2000 وانسحاب جنوده في جنح الظلام “دون أن يتمكنوا من لبس سراويلهم الداخلية”، وفق توصيفات الصحافة العبرية في ذلك الوقت، ولحقتها هزيمة جيش الاحتلال في 2006 عندما فشل في اجتياح الجنوب وتحولت دبابات “الميركافا” إلى خردة بسبب صواريخ “الكورنيت” و”الاربي جي”. واستمر الفشل الصهيوني بعد الانتصار الذي حققته المقاومة مع الجيش اللبناني في هزيمة الجماعات المسلحة في الجرود اللبنانية والسورية وهزيمة مشروع “الدولة الإسلامية” التي شيدها تنظيم “داعش” في العراق وسوريا بالتحالف مع جبهة النصرة لتشكيل عازل بين سوريا ولبنان، وتمكنت المقاومة والجيشين السوري واللبناني من تحقيق نصر مبين في جرود القلمون السوري وجرود عرسال ورأس بعلبك والقاع، قاطعة الطريق على الكيان وحلفائه من التمدد باجتياح البقاع الأوسط وربطه بمزارع شبعا المحتلة والاتصال بفلسطين المحتلة. كانت معركة تحرير الجرود في 2017 قد شكلت خطوة أخرى في طريق القضاء على تنظيم داعش وهيئة تحرير الشام (النصرة)، وفتحت آفاقاً أكبر للقضاء على المشروع التكفيري التفتيتي المتحالف مع الكيان الصهيوني.

هزائم العدو المتتالية طوال العقود الماضية، قادتهم إلى التفكير في إعادة الوهج للجيش الذي “لا يقهر” فكانت المذابح والمجازر والإبادة الجماعية والتطهير العرقي في قطاع غزة وفي الجنوب اللبناني والبقاع والضاحية الجنوبية، في جنون دموي لم تشهده المنطقة من قبل من حيث الحمم التي أسقطت على مناطق العدوان وأنهار الدم التي تسبب فيها الاحتلال.

عدوان الكيان على الجنوب اللبناني والمناطق الأخرى، زاد من فعالية جبهات الإسناد اليمنية والعراقية التي قامت بعمليات نوعية آلمت العدو، في تدحرج نحو التصعيد الكبير لمواجهة الصلف الصهيوني ومحاولته فصل مسار غزة عن جنوب لبنان وساحات الإسناد الأخرى، ليستفرد بكل ساحة على حدة، وهو الأمر الذي فشل فيه حتى الآن، رغم حجم الدمار الكبير الذي حدث، ولا يزال، في الأيام القليلة الماضية في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية. كما وضع العدوان تحدياً أمام قوى المقاومة أمام تحديات جديدة في المواجهة.

الشراكة الأميركية – الغربية

لم يكن الكيان الصهيوني قادراً على تنفيذ كل جرائمه وحرب إبادته على الشعبين الفلسطيني واللبناني والشعوب العربية الأخرى لولا الشراكة الأميركية الغربية الفعلية في ارتكاب جرائم الحرب، ذلك أن لهذا الكيان مهمة وظيفية هي حماية المصالح الإمبريالية في المنطقة العربية وتنفيذ المخططات المطلوبة منه مقابل حمايته ودعمه بكل ترسانات السلاح التي يحتاجها، ووسائل الإعلام التي تروج لسرديته وتسهيل تدفق المهاجرين ليستوطنوا الأرض الفلسطينية فضلاً عن تقديم الأموال اللازمة لضخ الحياة في شرايين اقتصاده. وعلى هذا الأساس تقوم الولايات المتحدة بإداراتها المتعاقبة على تطويع محيط الكيان وإضعافه ليتمكن من الاستمرار في أداء وظيفته التي تأسس من أجلها. إن إطلالة سريعة على واقع الدول العربية المحاذية لفلسطين المحتلة سنجد أنها تعاني من مصاعب اقتصادية وسياسية واجتماعية جمة، ومنها المشهد الاقتصادي الذي يعكس واقعه المشاهد الأخرى. تفيد المعلومات والإحصاءات ودراسات مراكز البحث الإقليمية والدولية بأن اقتصاديات بلدان الطوق تعاني من أزمات بنيوية مستفحلة ولّدت أزمات سياسية واجتماعية متناسلة. فالوضع الاقتصادي في هذه الدول ينذر بكوارث حقيقية بسبب الهشاشة التي قادت إلى تعثر الصناعة والزراعة والخدمات وبالتالي عدم القدرة على إيجاد فرص عمل للشباب الذي يقف بالملايين في طوابير البطالة والفقر وبالتالي التفكير في الهجرة إلى الدول الغربية والخليجية، مع تآكل الطبقة الوسطى وتزايد حدة الفقر وانزياح فئات كبيرة من محدودي الدخل إلى خط الفقر وما دونه، فاقمها تضاعف الدين العام وفوائده التي تأكل الأخضر واليابس ما يجعل ملايين العرب تحت رحمة المؤسسات المالية الدولية التي تتحكم في قراراتها الدول الغربية الكبرى. يضاف إلى ذلك تآكل سيادة هذه الدول أو بعضها وفقدان السيطرة على مقدراتها وحتى على جغرافية بعضها لدرجة أن الدولة في سوريا وبسبب الحروب التي لم تتوقف فيها وعليها فإن الدولة لا تسيطر على الجغرافيا السورية. أما لبنان فإن إغراقه في أتون الأزمات المالية منذ عدة سنوات وتدهور سعر صرف العملة حوّل أغلب الشعب اللبناني إلى الفقر ودفع بنسبة كبيرة منهم تحت خطه. تدهور سعر صرف العملة، تعاني منه أيضاً مصر، بينما تواجه الأردن تهديدات تهجير الفلسطينيين من بلادهم إليها، وفق قانون “الدولة القومية” الصهيوني، وهو الأمر الذي يتهدد أيضاً مصر بالنسبة لفلسطينيي قطاع غزة.

متطلبات المرحلة

الصلف الصهيوني الذي يستنسخ جرائمه في قطاع غزة وينقلها إلى لبنان بدعم أميركي غربي في ظل تخاذل بعض الأنظمة العربية، خلق معطيات ومهمات ضرورية لا بد من سبر أغوارها. معطيات تفرض ضرورة استنهاض الأمة بقواها الفاعلة، وخصوصاً القوى الوطنية والتقدمية والقومية التي تنتمي تحت مظلة اليسار العربي المثخن بالجراح بسبب قمع العقود المظلمة، وهو بحاجة ماسة لدراسة واقعه والنهوض به ليقوم بدوره المأمول في معركة الأمة، من خلال تعزيز قدراته الذاتية بقراءة حصيفة للمعطيات الراهنة والأسباب التي قادت لما آلت إليه الأمور، خصوصاً مع غياب الديمقراطية في الدول العربية وانعدام الاستراتيجيات الحقيقية على صعيد التنمية المستدامة التي تضع الإنسان هدفاً ووسيلة في آن معاً. ولأن المعركة كبرى وطويلة مع الكيان الصهيوني وداعميه، فإن الحاجة ماسة جداً لتشكيل الكتلة التاريخية الحقيقية التي من شأنها تأسيس جبهة شعبية عربية تشترك فيها كل القوى السياسية الفاعلة ومؤسسات المجتمع المدني الحية، ويكون لقوى اليسار العربي بكل تلاوينه دوراً فاعلاً وحقيقياً على انتشال الواقع العربي الراهن من كبوته التي طالت عقوداً طويلة وأصبحت فيها المجتمعات العربية على هامش التاريخ. 

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

غارات معادية على قلب بيروت والضاحية الجنوبية.. نخبة قوات العدو في مرمى المقاومة

إمعان العدو الصهيوني في إجرامه ضد المدنيين في مختلف المناطق اللبنانية والمحافظات، هو تأكيد على هزائمه من قطاع غزة إلى لبنان التي يتكبدها على يد أبطال المقاومة الفلسطينية واللبنانية. وبدأ العدو الصهيوني يقع في بدايات ما ينتظره على أرض جنوب لبنان، الجحيم ومقبرة قواته ودباباته.

الكيان الصهيوني يعلن بدء غزو بَريٍ لجنوب لبنان والمقاومة تستهدف التجمعات العسكرية للعدو على الحدود وتواصل دكّ عمق الكيان

بعد يوم دامٍ من القصف المدفعي والجوي الهمجي الصهيوني على العديد من المناطق والمحافظات اللبنانية أعلن جيش العدو الصهيوني ليل الاثنين – الثلاثاء بدء غزوه البري للبنان بقرار سياسي صادق عليه كابينت الكيان الصهيوني بالإجماع

دور صنعاء الجيو-سياسي في معركة طوفان الأقصى 

على مدار تاريخ اليمن الحديث، كانت فلسطين تحتل مكانة خاصة في قلوب اليمنيين. تميز الشعب اليمني بالاعتزاز بعروبته ونصرة القضايا القومية والإسلامية. ولم تكن الحرب الراهنة على غزة استثناءً، إذ خرج اليمنيون إلى الساحات بمختلف أطيافهم وولاءاتهم – وبرغم انقساماتهم في الشأن السياسي الداخلي- احتجاجاً على جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، مؤكدين وقوفهم إلى جانب الشعب الفلسطيني.

نداء عاجل من اللقاء اليساري العربي: تعزيز الصمود الشعبي الوطني وتدعيم جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في المواجهة المفتوحة الصعبة مع العدو الصهيوني

في مواجهة العدوان الصهيوني – الامبريالي على قطاع غزة ولبنان أصدر اللقاء اليساري العربي نداء لاتخاذ سلسلة خطوات عملية مباشرة من شأنها تعزيز الصمود