النضال الفلسطيني في زخم انتصارات التحرر العربي والعالمي

عقب السنوات التالية لنكبة 1948 تلاحقت عمليات التسلل للفدائيين ممن أبعدوا خارج وطنهم، خاصة من الضفة الغربية التي تم ضمها للأردن ومن غزة التي كانت خاضعة للإدارة المصرية.

وجاءت سنوات الخمسينات والستينات حاملة معها انتصارات مدوية لحركات التحرر الوطني العربية والعالمية، لتخلق واقعاً جديداً داعماً للنضال الوطني الفلسطيني، الذي ظل يواصل التصاعد.

وكان التغير الأبرز في المنطقة العربية في مطلع الخمسينات هو ثورة 23 يوليو 1952، لتشرع مصر في نسج علاقات قوية مع المعسكر الاشتراكي وحركة التحرر الوطني العالمية، وتقود المنطقة في معارك التحرر الوطني، وتعزز وتدعم طوال عقدي الخمسينات والستينات النضال الوطني الفلسطيني.

وفي مواجهة اتفاقية الهدنة الموقعة عام 1949، التي كانت تفرض قيوداً على استخدام مصر للقوات المسلحة النظامية ونشرها في قطاع غزة، قامت الحكومة المصرية في ديسمبر 1952 بتشكيل قوة شرطة فلسطينية، تحت قيادة عبد المنعم عبد الرؤوف قائد اللواء الجوي المصري السابق وعضو مجلس قيادة الثورة. وبدأ 250 متطوعاً فلسطينياً تدريباتهم في مارس عام 1953، مع تقدم متطوعين آخرين للتدريب في مايو وديسمبر 1953. 

ومنذ أواخر عام 1954 تزايدت عمليات الفدائيين انطلاقاً من الأراضي المصرية، وأشرفت الحكومة المصرية على إنشاء مجموعات من الفدائيين في غزة وشمال شرق سيناء.  وأسس اللواء مصطفى حافظ، قائد المخابرات العسكرية المصرية وحدات فدائية فلسطينية “لشن غارات عبر قطاع غزة”. وشهدت الشهور بين نهاية 1955 وربيع 1956 نحو 180 عملية فدائية انطلقت من قطاع غزة.

وتكبدت “الدولة الصهيونية” في تلك الفترة خسائر كبيرة في الأرواح نتيجة عمليات إطلاق نار أو زرع ألغام أو نصب كمائن قام بها الفدائيون الفلسطينيون.

وقدرت المؤرخة الإسرائيلية أنيتا شابيرا الخسائر الإسرائيلية بأكثر من 300 قتيل بين عامي 1951 و1956، مقابل استشهاد نحو 5000 فلسطيني في المجازر التي نفذها العدو في مناطق فلسطينية مختلفة، فيما ذكرت الوكالة اليهودية “لإسرائيل” أنه خلال تلك السنوات الخمس لقي 400 “إسرائيلي” مصرعهم وأصيب 900 آخرين في هجمات الفدائيين. ولكن مارتين جيلبرت يقدر أنه في تلك السنوات قتل 967 “إسرائيلياً” في ما وصفه بـحسب ادعائه بـ “الهجمات الإرهابية العربية”.

وخلال السنوات الممتدة بين 1948 وأوائل الستينات، تكونت العديد من التشكيلات والتنظيمات الفلسطينية في مختلف مناطق تواجد الشعب الفلسطيني، ودعا بعضها لاعتماد الكفاح المسلح لإنهاء الاحتلال الصهيوني. وفي مطلع الستينيات حققت حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية انتصارات كبيرة.
في شهر يوليو 1962 كان الإنتصار المدوي للثورة الجزائرية بعد 130 عاماً من الاحتلال الفرنسي، وفقد شعب الجزائر نحو مليون ونصف المليون شهيد خلال حرب تحرير استمرت نحو 8 سنوات متصلة بين جيش التحرير الوطني الجزائري وقوات الاحتلال الفرنسي.

ونجحت الثورة اليمنية في إسقاط حكم الإمام البدر الموالي لإنجلترا. وحققت فيتنام انتصاراً مدوياً بتحرير شمال البلاد من الاستعمار الفرنسي عبر حرب شعبية بقيادة الحزب الشيوعي الفيتنامي، وشرعت في حرب تحرير الجنوب من الاحتلال الأميركي وتوحيد البلاد، وهو ما تم عام 1973. واستطاعت الثورة الكوبية بقيادة الحزب الشيوعي وحركة 26 يوليو التي انضمت بعد ذلك للحزب بقيادة فيدل كاسترو وأرنستو تشي جيفارا أن تسقط نظام الجنرال باتيستا الموالي لأميركا. وتحررت الكثير من بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية من الاحتلال الأوروبي والأميركي. 

في خضم هذه التطورات دعت حركة فتح، كبرى المنظمات الفلسطينية والتي ضمت في تكوينها تيارات وطنية عديدة من الماركسيين والقوميين والإسلاميين، إلى اعتماد الكفاح المسلح كوسيلة حتمية ورئيسية لاستعادة فلسطين، وانطلقت أولى عمليات تشكيلها العسكري (العاصفة) في الأول من يناير عام 1965 ضد مواقع عسكرية صهيونية. وتوالت العمليات القتالية ضد العدو. 

وقادت مصر رؤية عربية مختلفة عن بعض الدول التي تريد توظيف الحركات الفلسطينية في إطار سياساتها الخاصة. فقادت سلسلة من مؤتمرات القمة العربية كان أولها في القاهرة (13 -16 يناير 1964) أقرت إنشاء كيان موحد يمثل الشعب الفلسطيني ويشكل هيئة تطالب بحقوقه في المحافل الدولية وتقود نضال الشعب الفلسطيني.

وعقد المجلس الوطني الفلسطيني (البرلمان) اجتماعه الأول في القدس (28 مايو – 2 يونيو 1964) وأعلن عن تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، وتشكيل وحدات جيش التحرير في عدد من الدول العربية. وفي نفس العام عقدت القمة العربية الثانية بالإسكندرية (5 – 11 سبتمبر) التي رحبت بقرارات المجلس الوطني الفلسطيني.
ورأت بعض التنظيمات الفلسطينية (وخاصة فتح، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) في خطوات القمم العربية محاولة لتوظيف الحراكات الشعبية الفلسطينية في إطار سياساتها الخاصة، وكانت تلك التنظيمات حريصة على استقلال القرار الفلسطيني، خاصة في ما يتعلق بالكفاح المسلح، ولهذا انطلقت أولى عمليات فتح العسكرية في الأول من يناير 1965، ومعها انطلقت إذاعة صوت فلسطين من القاهرة.

ومع تصاعد العمليات العسكرية الفلسطينية تزايد رد الفعل الصهيوني الدموي، وكان أشده عنفاً في بلدة السموع (قضاء الخليل) شمال الضفة الغربية، وذلك في يوم 13 نوفمبر 1966، وعلى أثره تزايد التعاطف الشعبي مع المقاومة الفلسطينية المسلحة.

في تلك الفترة انفتحت حركة التحرر الوطني الفلسطيني على حركات التحرر في العالم، وتفاعلت معها في مجالات تبادل الخبرات والتدريب، وفتحت جمهورية الصين الشعبية أبوابها لاستقبال القادة الفلسطينيين وتدريب مقاتلين فلسطينيين، وحذت فيتنام الشمالية، حتى وهي تخوض حرباً شرسة ضد الاحتلال الأميركي لجنوب فيتنام، حذو الصين بالنسبة لاستقبال الفلسطينيين وتدريبهم.

ورغم هزيمة الجيوش العربية في يونيو 1967، وتوسع الاحتلال الصهيوني إلى سيناء المصرية وجزء من الجولان السوري والضفة الغربية، إلَّا أن الكفاح المسلح الفلسطيني واصل التصاعد، وبتشجيع معلن من النظام المصري، الذي كان يخوض حرب استنزاف ضد العدو الصهيوني في سيناء المحتلة.

وتوالت العمليات الفدائية المؤثرة، وكان أبرزها معركة الكرامة في 21 مارس 1968، التي شهدت اشتباكات عنيفة في قرية الكرامة، تصدى فيها أقل من 300 فدائي لأرتال من المدرعات وآلاف من جنود العدو الصهيوني التي كانت تستهدف احتلال نهر الأردن، وتكبد العدو فيها خسائر كبيرة، قدرها يهوشافاط حاركابي (الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية) بنحو 28 قتيلاً و90 جريحاً، وانسحبت قوات العدو تاركة خلفها قتلاها وجرحاها وآلياتها.

وخلال السنوات الست التالية لهزيمة يونيو 1967، لم تتمكن قوات الاحتلال الصهيوني من السيطرة على قطاع غزة المحتل، بسبب عمليات المقاومة المتنوعة بين الكمائن والتفخيخ والاشتباكات المباشرة مع العدو. وبرز اسم محمد الأسود، الذي تولى قيادة العمل العسكري للجبهة الشعبية في غزة حتى استشهاده خلال مواجهة مسلحة مع العدو في 9 مارس عام 1973، وقاد عمليات عسكرية جعلت قوات العدو لا تتمكن من السيطرة على القطاع حتى عرف باسم “جيفارا غزة”. وكانت له أدوار متعددة عسكرية وسياسية وتثقيفية واجتماعية، ليس فقط في صفوف الجبهة، ولكن مع الشعب الفلسطيني في غزة، مما مكنه من تنظيم شعب القطاع والتصدي للتهجير منه.

وأصبحت المقاومة الفلسطينية المسلحة عنصراً فاعلاً في أوضاع المنطقة وحسابات الدول الكبرى، وهو ما جعل جوزيف سيسكو، مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا وقتها، يتحدث عن: “صعود الحركة الفلسطينية، وقدرتها المتزايدة كقوة سياسية هائلة في المنطقة، تمثل في الحد الأدنى، تسييساً لمشكلة اللاجئين، التي كانت موجودة في المنطقة لأكثر من 20 عاماً”. 

واستمر التصاعد في الكفاح المسلح الفلسطيني، وبروز الدور السياسي والنضالي لمنظمة التحرير الفلسطينية، حتى أحداث أيلول الأسود في الأردن في سبتمبر 1970.

  • انهارت القاعدة الآمنة في الأردن
  • وفي 28 سبتمبر 1970 رحل الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الرمز الرئيسي لصعود حركة التحرر الوطني في المنطقة العربية وأفريقيا. وحل نائبه أنور السادات ليقود مصر نحو التبعية لأميركا، والصلح المنفرد مع “إسرائيل”، مقابل تعهده بتأمين الجبهة الجنوبية للكيان الصهيوني من الحروب وإخلاء سيناء من القوات المسلحة المصرية.
  • وفي مناخات بعض السعي الرسمي العربي لحلول سياسية (لا تسندها قوة حقيقية) مع استعداد لتقديم تنازلات مجانية للعدو الصهيوني، ومحاولة اعتماد حلول سياسية للقضية الفلسطينية بواسطة الولايات المتحدة الأميركية، الداعم الرئيسي للعدو الصهيوني، اختار الفلسطينيون لبنان كقاعدة آمنة لانطلاق عملياتهم منها، فاشتعلت في مواجهتهم حرب طائفية إقليمية دولية، استهدفت استنزاف قوى المقاومة الفلسطينية المتواجدة هناك، وإضعاف التضامن اللبناني معهم، وتوريط سوريا في تلك الحرب الأهلية، ممَّا دفع المقاومة للرحيل عن لبنان، لتخسر القاعدة الآمنة الثانية.

ودخل النضال الفلسطيني مرحلة معاكسة ابتكر خلالها أساليب نضالية شعبية جديدة في ظل محيط يدور في الفلك الإمبريالي الصهيوني.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

الثورة الجزائرية الخالدة ” نبراساً لمقاومة الاستعمار والظلم”

كان صدى الثورة الجزائرية في الفاتح من نوفمبر عام 1954 يدوي في كل مكان من هذا العالم ضد الظلم والاستبداد الاستعماري، لاسيما أن هناك العديد من الشعوب ما زالت تحت نير الاستعمار الغربي، الذي كان يعم مناطق كثيرة في العالم، خاصة المستعمرات الفرنسية على وجه التحديد في إفريقيا، حيث أن الثورة الجزائرية أشعلت لهيب العنف الثوري ضد المستعمر كخيار مبدئي واستراتيجي للحصول على الاستقلال الكامل والحرية

المواجهات المسلحة الفلسطينية الأولى في محيط عربي محتل

بحلول شهر نوفمبر 2024، وفي خضم الحرب الدائرة منذ أكتوبر 2023 في غزة والضفة والجنوب اللبناني بين قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية من جهة وقوات الاحتلال الصهيوني بمشاركة أميركا من جهة أخرى، يكون قد مضى 89 عاماً على المواجهات المسلحة الأولى للشعب الفلسطيني ضد التشكيلات الصهيونية المسلحة القادمة من مختلف بلدان العالم لاحتلال فلسطين وإقامة دولة دينية لليهود طبقاً للمشروع الاستعماري بقيادة بريطانيا، أقوى دولة استعمارية في تلك الفترة.

إضراب عمال أرامكو عام 1953

إن دراسة التاريخ بتناقضاته وتطوراته تساهم في تجنب الأخطاء وتطوير ما كان صحيحاً. فالأحداث التاريخية تبقى في ذاكرة المجتمعات. هذه الأحداث قد لا يُرى تأثيرها وقت حدوثها، لكن تضاف إلى جينات هذه المجتمعات ومفعولها يورَّث جيلاً بعد جيل. إذاً، من المهم أن يتم تدوين واستذكار التجارب، الإيجابية منها والسلبية، بين فترة وأخرى حتى تدُرس كيلا تنسى وتندثر وتفقد الأجيال القادمة الإحساس بمدى أهميتها وتأثيرها على حياتهم.

[zeno_font_resizer]