الثورة الجزائرية الخالدة ” نبراساً لمقاومة الاستعمار والظلم”

في 30 يناير سنة 1830، قررت الحكومة الفرنسية الاستعمارية، التي كانت تحت رئاسة دي بولينياك، أن تبعث حملة ضد الجزائر، وقد بررت هذه الحركة بعدة أسباب، منها الانتقام من الجزائر التي أهان الداي حاكمها، الشرف الفرنسي حين ضرب القنصل بمروحة أمام جمهور دبلوماسي، ومنها أيضاً القرصنة وتخليص أوروبا من مصدر القلق والاضطراب، ولكي تقدم فرنسا حجتها بصفة نافذة ومؤثرة، عمدت إلى التركيز على السبب الأول بالنسبة إلى الرأي العام الفرنسي، بينما ركزت على السبب الثاني بالنسبة للرأي العام الأوروبي. (1)

ولكن هذه الأسباب كانت ظاهرياً، ومن الناحية الواقعية كانت فرنسا تخطط لاحتلال الجزائر والاستيلاء عليها منذ 1792، أي سنة إبعاد إسبانيا وتصفية قاعدتها العسكرية في المرسى الكبير بوهران، فقد كانت هناك رغبة قوية للتجار الفرنسيين والقيادة السياسية بتلك البلاد، أن تحل فرنسا محل إسبانيا في شمال إفريقيا، وتسيطر على هذه المنطقة الغنية بالثروات الطبيعية، وبصفتها موقعاً استراتيجياً هاماً من الناحية العسكرية، فإن الجيش الفرنسي كان يسعى باستمرار لتقوية أسطوله، وإنهاء السيطرة الإنكليزية على حوض البحر الأبيض المتوسط، والذي عطل هذا الاحتلال، هو قيام الثورة الفرنسية، وانهزام نابليون وعودة جيشه المهزوم إلى فرنسا سنة 1815. (2)

ومنذ أن وطأت أساطيل فرنسا الحربية أرض الجزائر قادمة إلى مدينة سيدي فرج في عام 1830، واجهت مقاومة عنيفة وشرسة من قبل الشعب الجزائري بأدوات عسكرية بسيطة رغم فارق القوة، ولم يستسلم هذا الشعب البطل لأساليب وخبث المستعمر الغازي، ولم يرفع الرايات البيضاء يوماً بل ظل يقاومه بكل ما أوتي من قوة وعزيمة وإرادة لا تلين، وكان قتالاً عنيفاً بين أصحاب الأرض والمستعمر المستبد، حيث عاش الشعب الجزائري قرناً وربع القرن من الزمان تحت ردح الاستعمار الفرنسي المقيت، الذي ارتكب أفظع وأبشع الجرائم والمجازر في التاريخ الحديث والمعاصر، وقد أغلق على الأهالي الجبال ودفنهم أحياء فيها، وحرق قرى كاملة بقنابل النابالم الحارقة المحرمة دولياً، وكان ذلك الوقت يختلف تماماً عما هو اليوم من تطور تكنولوجي وإعلامي لا مثيل له، ولا نعرف حقيقة وحجم المجازر والجرائم التي ارتكبت بحق الأهالي والفلاحين إلى غاية هذا التاريخ فالأرشيف الفرنسي لم ينشر بعد.

فعدم تطور الإعلام في تلك الفترة، كوسيلة مهمة لنقل الحقيقة للرأي العام حال دون كشف كل تلك الجرائم المرتكبة من قبل الاستعمار الفرنسي، وخير مثال على تطور وسائل الإعلام الحديثة ما هو حاصل اليوم من إبادة جماعية تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني بغزة، ويشاهدها العالم عبر شاشات التلفزيون في بث حي ومباشر، استطاعت أن تحرك الضمير العالمي إلى حدٍ ما، ورسمت صورة ذهنية سيئة لدى جماهير العالم عن مدى فظاعة الاحتلال الصهيوني وبشاعة إجرامه، بعدما كانت الصورة غير واضحة، وأحياناً أخرى مزيفة ممَّا سوف يحول في نهاية المطاف إلى عزلة هذا الكيان النازي ومقاطعته من قبل شعوب العالم الحر.

حاولت فرنسا الاستعمارية بعد فترة من استعمارها للجزائر، أن تنفتح على الأهالي وتضع قوانين للمشاركة السياسية، وتكوين الأحزاب والجمعيات والنوادي الثقافية، ضمن سياسة احتواء الشعب ومواطنيه بمستوى الدرجة الثالثة من حيث الأهمية، ولكن كل محاولتها باءت بالفشل ولم تنجح، وكانت دائماً تردد في خطاباتها أن أرض الجزائر قطعة فرنسية، والذي يزور الجزائر ويشاهد تلك البنايات الفرنسية الضخمة والبنية التحتية التي رسمها وهندسها المستعمر آنذاك يُقن تماماً أنه أراد أن يقتلع الجزائريين من أرضهم، ويطمس هويتهم الاجتماعية والثقافية، إلَّا أن المقاومة الجزائرية طوال فترة الاستعمار، لم تنقطع للحظة واحدة إلى أن اندلعت الثورة التحريرية المجيدة. 

وقد لعبت الحرب العالمية الأولى دوراً ايجابياً في نضج وتطور الفكر السياسي الجزائري، نظراً لاحتكاك الجزائريين الذين شاركوا فيها بالمجتمع الأوروبي، الذي كان يتمتع بالحرية والديمقراطية، وساهمت هجرتهم إلى فرنسا بتلك الفترة، ببلورة الوعي السياسي لديهم، من جراء المشاركة الفاعلة في النقابات العمالية والأحزاب اليسارية الفرنسية، للمطالبة بالحقوق المشروعة في العمل، الشيء الذي خلق تفاعلات إيجابية انعكست على الحالة الوطنية الجزائرية، بتكوين الأحزاب السياسية، والتي لها الفضل في توجيه وتعبئة الشعب الجزائري نحو الحس الوطني، وفرضت المشاركة السياسية الجماعية لمواجهة الاستعمار وسياساته المتمثلة في التمييز العنصري، والتي تم رفضها من قبل النخبة الوطنية.  

ويمكن تصنيف أحزاب الحركة الوطنية، على أساس مواقف وتصريحات، وخطب النخب السياسية الجزائرية من الوجود الاستعماري، فالتصورات والمفاهيم الثقافية السياسية، تكونت نتيجة وجود خطابين: الأول يستمد مرجعيته الفكرية من الحركة الإصلاحية الدينية، الداعية إلى العودة بالمجتمع إلى قيمه وأصالته، وإصلاحه من الداخل، أما الثاني فيستمد أسسه من المنظومة الفكرية المرتبطة بالظاهرة الاستعمارية، الأمر الذي سمح ببروز شرائح وقوى اجتماعية، وسياسية تنتقل من مرحلة الدفاع والمقاومة، إلى مرحلة المطالبة بالاستقلال والتحرر وبناء الدولة الوطنية. (3)

إن مرحلة ما قبل الاستقلال هي مرحلة بداية تشكل الحركة الوطنية الجزائرية بالمفهوم التنظيمي والحزبي، وبداية التعددية السياسية في الجزائر، رغم تباين واختلاف التيارات المتشكلة، إلَّا أنه أثبتت هذه التفاعلات جدية في العمل نحو هدف واحد وهو التخلص من الاستعمار الظالم، ونيل الحرية والاستقلال، نتيجة للأزمة التي مر بها المجتمع الجزائري، مما تطلب العمل الجماعي المنظم في مطلع القرن العشرين لمواجه سياسات الظلم والتنكيل والعنصرية التي مارستها الحكومة الاستعمارية، فبدأ العمل الحقيقي بإنشاء الجمعيات والنوادي والصحف، وتشكيل الأحزاب السياسية لتعبئة جماهير الشعب الجزائري نحو مقاومة الظلم الواقع عليه، بالوعي الجماعي من أجل تحقيق مطالبه المشروعة، وربما الشيء اللافت للانتباه هنا أن المناخ السائد في تلك الفترة هو مناخ فكري وثقافي بامتياز، حيث برزت الحركات الإصلاحية في العالم العربي، وظهور حركة الترجمة، ونشر الكتب والروايات، وعملية الاحتكاك والتبادل الثقافي بين المشرق والمغرب العربي، وهجرة الجزائريين إلى فرنسا واحتكاكهم بالمجتمع الأوروبي والفرنسي مثلما أسلفنا الذكر، حيث وجدوا اختلاف كبير بين ممارسة الحكومة في الجزائر، وممارستها مع الشعب الفرنسي، وانخراطهم بالحركة العمالية وبالحركات اليسارية، للمطالبة بحقوقهم، ولا ننسى ثورة عبد الكريم الخطابي في المغرب ضد إسبانيا وفرنسا، وثورة الشعب الليبي ضد ايطاليا، هذا كله ساهم بشكل كبير في بلورة الوعي السياسي والثقافي لدى الشعب الجزائري، حيث أخذت الأمور تتجه نحو التكتل والمشاركة الجماعية المنظمة، وتكوين الأحزاب السياسية في مواجهة الاستعمار، وما يهم هذه الدراسة بالتحديد هو “حزب الشعب الجزائري” الذي حلته فرنسا الاستعمارية وشكل فيما بعد الحركة الديمقراطية للانتصار والحريات في أربعينيات القرن الماضي.

حزب الشعب الجزائري

تأسس بعد حل نجم شمال إفريقيا وذلك سنة 1937، بقيادة مصالي الحاج، فمن الناحية الشكلية حافظ الحزب على نفس التنظيم الهيكلي الذي كان متبعاً في عهد النجم، أما من الناحية القانونية فقد مر بمرحلتين أساسيتين: (4)

المرحلة الشرعية: الحزب الشرعي المصرح به قانونياً، حيث انتهج سياسة انتخابية معتدلة ذات طابع إصلاحي.

المرحلة السرية: واصل نشاطه وتنظيمه بعد حله، وتعاظم في أوساط الشعب، بإدارة تعمل في السر وتقوم على الدعاية الواسعة وسط المواطنين، والمجندين الجزائريين في الجيش الفرنسي. 

فمراعاة للمرحلة الأولى، اختفت الصيغ الأيديولوجية، لتحل محلها صيغ تكتيكية، فصيغة “جمعية تأسيسية ” منتخبة عن طريق الاقتراع العام من دون تمييز في الجنس أو الدين، مثلاً تؤدي نفس المعنى الذي تؤديه كلمة “استقلال“، وهذا المعنى تؤديه أيضاً كلمة “التحرير الكامل“، وبعدها في أوت/ أغسطس سنة 1938، تحولت مطالبه إلى أهداف إستراتيجية اقتضتها ظروف الجزائر، والتعريف بمهمة الحزب العاجلة بأنها “النضال من أجل التحسين المادي والمعنوي للجزائريين، فالتجارة الصغيرة والحرفية، والعمال، وصغار الفلاحين، والطلبة، والمهن الحرة، كلهم يلقون في الحزب المدافع والناطق باسمهم في جميع الظروف”، وبدء سياسة التحالف مع الأحزاب الأخرى، والهيئات الموجودة في الجزائر، ومتابعة السياسة معها حتى ولو كانت لا تقاسمهم آراءهم ومذاهبهم ونظرتهم للأمور، ما دام ذلك لا يلزمهم التخلي عن العقيدة الخاصة بالحزب، بهدف الحصول على شرعية تمثيل الشعب الجزائري، وتبوأ مكان الطليعة بين التشكيلات المختلفة.(5)

ومن أهم وسائل نضال النجم وسليله حزب الشعب الجزائري منذ 1937، في اتصاله السياسي مع الجماهير نذكرها فيما يلي: (6)

  • توزيع المناشير السياسية والكتيبات على الجماهير. 
  • التظاهر والتجمعات وحشد الجماهير، وإلقاء الخطب السياسية لبث الوعي والحماس الوطني في عقول العمال والجماهير.
  • إصدار صحيفة الإقدام الباريسي سنة 1926 الشهرية باللغتين العربية والفرنسية، والإقدام الشمال إفريقي سنة 1927 الشهرية، والتي تعرضت للمضايقات من قبل الحكومة الاستعمارية.
  • إصدار جريدة الأمة 1930-1939 والتي عرفت نجاحاً سريعاً في التوزيع حيث قفزت من 12000 نسخة عام 1932، إلى 44000 نسخة عام 1934، وأصدرا جريدة الشعب الأسبوعية عام 1937 بالجزائر العاصمة، وتلتها البرلمان الجزائري عام 1939، وهي نصف شهرية. 

إن كلا من النجم وحزب الشعب لم يقتصر على استعمال الأسلوب الحماسي لبث دعايته بين العمال، وإنما حرص على استعمال جميع الأساليب، بما في ذلك أسلوب الفكاهة والموسيقى والأغاني الثورية والشعر، لإيصال الفكرة الوطنية إلى مكامن وعقول الجماهير.  

بعد الحرب العالمية الثانية أسس مصالي الحاج في نوفمبر 1946 الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية، كغطاء لحزب الشعب المحظور، وكان الهدف من ذلك، المشاركة في الانتخابات التشريعية 1947، حيث حقق فيها الحزب نجاحاً نسبياً. (7)

شرارة الثورة الجزائرية 

بعد الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء على النازية وتحرير فرنسا من قبضة اتباع هتلر، احتفل الفرنسيون بهذا النصر، واستغلت الحركة الوطنية الجزائرية ذلك الاحتفال بِطلب قُدم من طرفها للسلطات الاستعمارية للخروج في مظاهرات سلمية للاحتفال أيضاً بالنصر في مدينة سطيف الواقعة بالشرق الجزائري، ولكن النية كانت رفع شعارات وطنية وحماسية تطالب بالاستقلال، وعند وصول المسيرة إلى المكان المقابل لـ “مقهى فرنسا” وبينما كان المتظاهرون بصدد الانعطاف يساراً باتجاه النصب المخلد لذكرى ضحايا الحرب العالمية الثانية لوضع إكليل من الزهور “كما هو مذكور في طلب الترخيص للمسيرة” وتحت مراقبة ضابطي الشرطة “اوليفيري” و”فالار” في سيارة يقودها محافظ الشرطة “تور” ومفتش شرطة يدعى “هاس”، لم يستطع هؤلاء تحمل رؤية العلم الجزائري، فخرج اثنان من ركاب سيارة الشرطة وتوجها نحو سعال بوزيد وأعطياه أمراً بإنزال العلم، ولم يستجيب لذلك، فثارت حفيظتهم وتم إطلاق النار عليه مباشرة وقد استشهد بعد لحظات، حيث عم المكان صمتاً قاتلاً وسط المتظاهرين، وخرجت زغرودة من امرأة جزائرية كانت بمثابة الصاعقة وكسر حاجز الصمت على المستعمر الفرنسي فعمت الفوضى والقتل من الطرفين، واستمرت الأحداث يوماً بعد يوم ارتكبت فيها فرنسا الاستعمارية أبشع المجازر ضد الشعب الجزائري راح ضحيتها 45 ألف جزائرياً، وكانت هذه الأحداث بمثابة الشرارة الأولى التي أشعلت لهيب الثورة الجزائرية العظيمة.

التحضير لاندلاع الثورة

بعد الأحداث الدامية والمجازر البشعة المرتكبة بحق الأهالي والفلاحين، واستعمال القوة المفرطة في أحداث 8 مايو 1945 من قبل المستعمر الفرنسي بدأت جهود المنظمة الخاصة للاجتماع والتحضير للثورة على كافة المستويات، حيث قرروا العمل بالإسراع لقيام الثورة الجزائرية العظيمة، ولم يكن يعرف أو يدرك هذا المستعمر الغاصب أن تلك “الرصاصة والزغرودة” التي أطلقت على ذلك الشاب الشهيد سعال بوزيد، هي المفجر الحقيقي للثورة التحريرية بعد 9 سنوات وعجلت بها، وبدأت اجتماعات اللجنة الخاصة بالتحضير السريع للثورة نوضح خطواتها كما يلي:     

تأسيس اللجنة الثورية للوحدة والعمل

تأسست اللجنة في 23 مارس 1954 من طرف أعضاء من المنظمة الخاصة التابعة لحزب الشعب مثلما ذكرنا سابقاً وبعض المركزيين وحصروا أهداف اللجنة في:

* العمل على وحدة الحزب والمحافظة على مبادئه الثورية.

* العمل على تجميع إطارات المنظمة الخاصة.

* الاتصال بقواعد الحركة وإقناعها بضرورة التزام الحياد، وبقي أعضاء المنظمة الخاصة مصممين على العمل المسلح واجتمل رأيهم على دعوة أعضاء المنظمة الخاصة الذي عرف بمجموعة 22.

اجتماع لجنة 22 

عقد هذا الاجتماع في 25/07/1954 بالجزائر العاصمة بمنزل السيد إلياس دريش وأهم النقاط المطروحة فيه:

 * استعراض تاريخ المنظمة الخاصة من إنشائها إلى تاريخ حلها.

* العمل المنجز من طرف المنظمة الخاصة بين 1947- 1950.

* شرح وضعية المجتمعين ضمن اللجنة الثورية للوحدة والعمل وموقفهم من أعضاء اللجنة المركزية.

* الحرب في كل من تونس والمغرب الأقصى.

– وقد تم انتخاب محمد بوضياف منسقاً وطنياً للثورة، وانتخاب أعضاء المكتب الوطني وهم : ” مصطفى بن بولعيد – محمد العربي بن مهيدي – ديدوش مراد – رابح بيطاط“.

 – الاجتماعات السرية

   أ- اجتماع 23/06/1954 ببيت المناضل عيسى كشيدة بشارع بربروس بالعاصمة احتوى على:

    **جمع قدماء المنظمة الخاصة ودمجهم في التنظيم الجديد.

    **التحضير العسكري للثورة وإجراء تجارب التكوين والتدريب على صنع المتفجرات.

    **إجراء اتصالات بالمناضلين المتواجدين بالقاهرة : “أحمد بن بلة-  محمد خيضر-  حسين آيت أحمد “.

ب- اجتماع أواخر شهر أغسطس: 

بمنزل السيد بوكشورة مراد بالعاصمة تم فيه استعراض نشاط اللجنة.

ج- اجتماع سبتمبر 1954: تم فيه تكليف مصطفى بن بولعيد بإجراء آخر محاولة مع مصالي الحاج.

د- لقاءات 10 إلى 25 أكتوبر 1954: تم فيها:

وضع اللمسات الأخيرة للتحضير لاندلاع الثورة التحريرية في اجتماعي 10 و24 أكتوبر 1954 بالجزائر من طرف لجنة الستة، ناقش المجتمعون قضايا هامة هي:


–  إعطاء تسمية للتنظيم الذي كانوا بصدد الإعلان عنه ليحل محل اللجنة الثورية للوحدة والعمل، وقد اتفقوا على إنشاء جبهة التحرير الوطني وجناحها العسكري المتمثل في جيش التحرير الوطني، وتهدف المهمة الأولى للجبهة في الاتصال بجميع التيارات السياسية المكونة للحركة الوطنية قصد حثها على الالتحاق بمسيرة الثورة، وتجنيد الجماهير للمعركة الحاسمة ضد المستعمر الفرنسي.

–  تحديد تاريخ اندلاع الثورة التحريرية: كان اختيار ليلة الأحد إلى الاثنين أول نوفمبر 1954، كتاريخ انطلاق العمل المسلح ويخضع لمعطيات تكتيكية – عسكرية، منها وجود عدد كبير من جنود وضباط جيش الاحتلال في عطلة نهاية الأسبوع يليها انشغالهم بالاحتفال بعيد ديني، وضرورة إدخال عامل المباغتة.

– تحديد خريطة المناطق وتعيين قادتها بشكل نهائي، ووضع اللمسات الأخيرة لخريطة المخطط الهجومي في ليلة أول نوفمبر وأهم عمليات أول نوفمبر 1954.

– تم تقسيم الجزائر إلى خمس مناطق وكل منطقة لها مسؤول مع التركيز على منطقة الأوراس نظراً لطبيعة المنطقة الجغرافية الوعرة بالجبال.  

– تحديد كلمة السر لليلة أول نوفمبر 1954: خالد وعقبة.


الاتصالات الداخلية والخارجية:

  أ- الاتصال بأعضاء الحزب خاصة المنظمة السرية لإعادة دمجهم في العمل الثوري..

 ب- الاتصال بمنطقة القبائل وعلى وجه الخصوص المناضلين ” كريم بلقاسم وأعمر أو عمران”.

ج- الاتصال بزعيم الحزب مصالي الحاج عن طريق عبد الله فيلالي ومصطفى بن بولعيد وكان الهدف أن تنطلق الثورة بقيادة زعيم الحركة مصالي الحاج.

د- الاتصال بشخصيات اللجنة المركزية من أمثال ” بن يوسف بن خدة –  محمد بوزيد –  حولي الحسين ” ولكن دون تحقيق أي نتيجة.

ه- الاتصال بوفد حركة الانتصار بالقاهرة كانت تهدف إلى عمل كسب الدعم المادي والمعنوي.

و- تكررت اللقاءات بين كل أحمد بن بلة ومصطفى بن بولعيد بهدف تأمين طرق التسليح وإنشاء ورشات وتركيب السلاح ومستودعات التخزين.

الاندلاع

كانت بداية الثورة بمشاركة 1200 مجاهد على المستوى الوطني بحوزتهم 400 قطعة سلاح وبضعة قنابل تقليدية فقط، وكانت الهجومات تستهدف مراكز الدرك والثكنات العسكرية ومخازن الأسلحة ومصالح استراتيجية أخرى، بالإضافة إلى الممتلكات التي استحوذ عليها الكولون.


شملت هجومات المجاهدين عدة مناطق من الوطن، وقد استهدفت عدة مدن وقرى عبر المناطق الخمس: “باتنة، أريس، خنشلة وبسكرة في المنطقة الأولى، قسنطينة وسمندو بالمنطقة الثانية، العزازقة وتيغزيرت وبرج منايل وذراع الميزان بالمنطقة الثالثة، أما في المنطقة الرابعة فقد مست كلا من الجزائر وبوفاريك والبليدة، بينما كانت سيدي علي وزهانة ووهران على موعد مع اندلاع الثورة في المنطقة الخامسة.

وباعتراف السلطات الإستعمارية، فإن حصيلة العمليات المسلحة ضد المصالح الفرنسية عبر كل مناطق الجزائر ليلة أول نوفمبر 1954، قد بلغت ثلاثين عملية خلفت مقتل 10 أوروبيين وعملاء وجرح 23 منهم وخسائر مادية تقدر بالمئات من الملايين من الفرنكات الفرنسية، أما الثورة فقد فقدت في مرحلتها الأولى خيرة أبنائها الذين سقطوا في ميدان الشرف، من أمثال بن عبد المالك رمضان وقرين بلقاسم وباجي مختار وديدوش مراد وغيرهم من الشهداء الأبرار.

بيان أول نوفمبر 1954

وقد سبق العمل المسلح الإعلان عن ميلاد “جبهة التحرير الوطني “التي أصدرت أول تصريح رسمي لها يعرف بـ “بيان أول نوفمبر “، وقد وجهت هذا النداء إلى الشعب الجزائري مساء 31 أكتوبر 1954 ووزعته صباح أول نوفمبر، حددت فيه الثورة مبادئها ووسائلها، ورسمت أهدافها المتمثلة في الحرية والاستقلال، ووضع أسس إعادة بناء الدولة الجزائرية والقضاء على النظام الاستعماري، وضحت الجبهة في البيان الشروط السياسية التي تكفل تحقيق ذلك دون إراقة الدماء أو اللجوء إلى العنف، كما شرحت الظروف المأساوية للشعب الجزائري والتي دفعت به إلى حمل السلاح لتحقيق أهدافه القومية الوطنية، مبرزة الأبعاد السياسية والتاريخية والحضارية لهذا القرار التاريخي، ولهذا يعتبر بيان أول نوفمبر 1954 بمثابة دستور الثورة ومرجعها الأوّل الذي اهتدى به قادة ثورة التحرير وسارت على دربه الأجيال.

مكانة الثورة الجزائرية في العالم الحر 

كان صدى الثورة الجزائرية في الفاتح من نوفمبر عام 1954 يدوي في كل مكان من هذا العالم ضد الظلم والاستبداد الاستعماري، لاسيما أن هناك العديد من الشعوب ما زالت تحت نير الاستعمار الغربي، الذي كان يعم مناطق كثيرة في العالم، خاصة المستعمرات الفرنسية على وجه التحديد في إفريقيا، حيث أن الثورة الجزائرية أشعلت لهيب العنف الثوري ضد المستعمر كخيار مبدئي واستراتيجي للحصول على الاستقلال الكامل والحرية، بعدما نفذت كل جهود الكفاح السياسي السلمي، ولم يحقق الشعب الجزائري أبسط حقوقه المشروعة، فبيان أول نوفمبر أوضح تلك المبادئ الأخلاقية وخاصة حق تقرير المصير للشعوب في إطار الأمم المتحدة.

وبدأت الثورة التحريرية تسير في خطين متوازيين” الأول: العمل السياسي خارج الجزائر، والثاني العمل العسكري داخل الجزائر”، وذلك في إطار جبهة التحرير الجزائرية، وهما ساعدا الثورة الجزائرية المتفجرة أن تستمر وتصمد أمام عنجهية واستبداد المستعمر الفرنسي العنصري، لمدة 8 سنوات من عمرها، بالرغم من وجود أعداء الثورة من الداخل بدعم من المستعمر والأخطر عليها من الخارجين عنها، ولكن بفضل حنكة القيادة الجماعية لها استطاعت أن تسير في الاتجاه الصحيح وتحقيق النصر والاستقلال الكامل للشعب الجزائري.

تميزت ثورة نوفمبر بأبعادها الحضارية والإنسانية، والأخلاقية، والتزامها بمبادئ الأمم المتحدة تحت حق تقرير المصير للشعوب، ورفضها للظلم والاستعباد، وكان هذا واضحاً في بيان أول نوفمبر عام 1954، ووثيقة مؤتمر الصومام عام 1956، وانتشرت هذه الأفكار في كل المعمورة وبدأت الشعوب تنظر إلى هذه الثورة بعين التعاطف والتضامن، خاصة في الإقليم مما دفع المستعمر الفرنسي ليمنح الاستقلال للعديد من الدول الإفريقية قبل الجزائر في العام 1960، والتفرغ الكامل للقضاء على هذه الثورة، ولكن الأمور لم تكن مثلما أراد هذا المستعمر الجبان، فاستقلال بعض الدول الإفريقية دعم وساند الثورة الجزائرية في مبادئها وأفكارها.

فقد أدرك قادة الثورة أن الشعب الجزائري في القرى والأرياف جاهز لاحتضان الثورة والمحافظة عليها من أجل تحقيق جميع أهدافها، وبالتالي: “ألقوا الثورة في الشارع واحتضنها الشعب“، وهذا ما حصل بالفعل، فجند الشعب الجزائري كل قواه من أجل ذلك، أما على المستوى الخارجي كانت الحاضنة العربية أكبر سند وداعم للثورة، فكان قادة الثورة لديهم مكتب دائم للتمثيل في مصر، وساعدت مصر وزعيمها جمال عبد الناصر الثورة الجزائرية إلى أبعد الحدود بالتعاون مع جميع الدول العربية والإسلامية آنذاك، ولعب قادة الثورة في الخارج في توفير هذا الدعم وتدويل القضية الجزائرية العادلة في المؤتمرات الدولية والأممية، وأخذت الدول الواقعة تحت نير الاستعمار تحذو حذو الجزائر في ثورتها، واستخدام العنف الثوري لتحقيق الاستقلال في بلدانهم، وهذا ما حدث في أغلب الدول الإفريقية ودول العالم، التي تنعم الآن بالاستقلال، والتحرير من أشكال الاستعمار، والظلم والاستبداد، وتعيش شعوبها بحرية وأمان، فكانت الثورة الجزائرية ملهمة لجميع حركات التحرير في العالم، وحققت نموذجاً كاملاً في التجربة للخلاص من الظلم والاستبداد الاستعماري.   

دعم الثورة الجزائرية للقضية الفلسطينية والقضايا العادلة في العالم

غداة الاستقلال مباشرة، قال الغيني أميلكار كابرال، زعيم الحزب الأفريقي لتحرير غينيا وجزر الرأس الأخضر، أحد أبرز الثوار الأفارقة وملهم حركات تحريرية في مختلف أنحاء العالم، إن “الجزائر مكة الثوّار“، وعندما طلب منه أحد الصحفيين، وهو في أحد مؤتمراته التي كان يترأّسها بالجزائر العاصمة، تفسير هذه العبارة، أجابه قائلاً: “المسلمون يحجّون إلى مكة والمسيحيون إلى الفاتيكان والحركات التحررية إلى الجزائر”.

وفي السنوات الأخيرة للاستعمار وبداية الاستقلال، مثّلت الجزائر حاضنة مهمة ومحفزًا كبيرًا للثوار والمقاومين، ليس في إفريقيا والوطن العربي فقط، إنما في أنحاء كثيرة من العالم، وتعتبر زيارة الرئيس الجزائري أحمد بن بلة إلى كوبا عام 1962 لحظة مفصلية في تنصيب الجزائر كقاعدة مهمة لحركات التحرر حول العالم، إذ تحدّى بن بلة الولايات المتحدة الأميركية وزار كوبا انطلاقًا من نيويورك، وهناك التقى مع فيديل كاسترو وتشي جيفارا، وتباحثوا حول ممكنات التعاون فيما بينهم في دعم حركات التحرر ضد الاستعمار حول العالم، ليزور بعد ذلك تشي جيفارا الجزائر.

واستقبلت الجزائر عام 1964 النواة الأولى لحركة فتح الفلسطينية، المشكّلة من ياسر عرفات (أبو عمار) وخليل الوزير (أبو جهاد) وأحمد وافي (أبو خليل)، حينها كان المؤسّسون الأوائل لفتح يسعون لتفجير ثورة فلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني الغازي، وتحقيق الحرية والاستقلال للشعب الفلسطيني، وكانت الجزائر داعماً قوياً وحقيقياً، واعتبرت أن الاستقلال التي حازت عليه منقوص دون تحرير فلسطين والقدس من دنس الاحتلال، وبقيت الجزائر وفيةً لمبادئ أول نوفمبر في دعم القضية الفلسطينية العادلة في كل الأماكن، والاتجاهات، وهي أول من أدخل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، إلى الأمم المتحدة في السبعينات، حيث خطب على منبر الأمم المتحدة لأول مرة خطابه المعرف “لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي“، وهدفت الجزائر من وراء ذلك إلى تدويل القضية الفلسطينية وتعريف العالم بها لدعمها، ومنحها حق تقرير المصير لينعم شعبها بالحرية والاستقلال، وأيضاً قال الزعيم الجزائري الراحل هواري بومدين مقولته الشهيرة:” نحن مع فلسطين ظالمةً أو مظلومة” وما زالت هذه المقولة مستمرة إلى غاية اليوم، عبر الأجيال وعبر كل مكونات الشعب الجزائري. 

المراجع: 

1- أبو القاسم سعد الله: الحركة الوطنية الجزائرية 1900-1930، ج2، ط4، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1992، ص17.

2- عمار بوحوش: التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية 1962، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1997، ص82.

3- ناجي عبد النور: البعد السياسي في تراث الحركة الوطنية الجزائرية، مجلة التراث العربي، ع:107، دمشق، 2007، ص33.

4- عبد الحميد زوزو: الهجرة ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية بين الحربين 1919-1939 ط2، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985، ص. ص 75-76.

5- عبد الحميد زوزو: المرجع السابق.

6- بشير بلاح وآخرون: تاريخ الجزائر المعاصر 1830- 1989، ج1، دار المعرفة، الجزائر، 2010، ص. 367.

7- عبد الرحمن العقون: الكفاح القومي والسياسي، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1984، ص. 212.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

المواجهات المسلحة الفلسطينية الأولى في محيط عربي محتل

بحلول شهر نوفمبر 2024، وفي خضم الحرب الدائرة منذ أكتوبر 2023 في غزة والضفة والجنوب اللبناني بين قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية من جهة وقوات الاحتلال الصهيوني بمشاركة أميركا من جهة أخرى، يكون قد مضى 89 عاماً على المواجهات المسلحة الأولى للشعب الفلسطيني ضد التشكيلات الصهيونية المسلحة القادمة من مختلف بلدان العالم لاحتلال فلسطين وإقامة دولة دينية لليهود طبقاً للمشروع الاستعماري بقيادة بريطانيا، أقوى دولة استعمارية في تلك الفترة.

إضراب عمال أرامكو عام 1953

إن دراسة التاريخ بتناقضاته وتطوراته تساهم في تجنب الأخطاء وتطوير ما كان صحيحاً. فالأحداث التاريخية تبقى في ذاكرة المجتمعات. هذه الأحداث قد لا يُرى تأثيرها وقت حدوثها، لكن تضاف إلى جينات هذه المجتمعات ومفعولها يورَّث جيلاً بعد جيل. إذاً، من المهم أن يتم تدوين واستذكار التجارب، الإيجابية منها والسلبية، بين فترة وأخرى حتى تدُرس كيلا تنسى وتندثر وتفقد الأجيال القادمة الإحساس بمدى أهميتها وتأثيرها على حياتهم.

[zeno_font_resizer]