المفكر الشهيد حسين مروة في ذكرى اغتياله الثامنة والثلاثين

عندما طُلب مني أن أكتب عن المفكر الشهيد حسين مروة، تردّدتُ كثيراً: فما عساني أن أكتب عنه: أأكتبُ عن سيرته بدءاً من طفولته…؟ أم عن سيرته الخاصة التي دفعته للسفر إلى العراق، في ثلاثينيات القرن الماضي، تلبيةً لوصية والده لدراسة العلوم الدينية في النجف الأشرف، وهو بعدُ فتىً…؟ أم سيرة حياته، وظروف العيش التي مرَّ بها أثناء هذه الدراسة، في السنوات التي قضاها في الحوزة الدينية قبل تخرّجه…؟ أم عن كيفية الدراسة المعمّقة في اللغة العربية والصرف والنحو والفقه والفلسفة والدين، إلى علاقاته مع أساتذته وزملائه…؟ أم أن أذهب إلى حياته العملية والثقافية والوطنية والفكرية والعائلية… بعد التخرج شيخاً معمّماً…؟ 

هنا، وجواباً على هذه التساؤلات، لا بد أن أشيرَ إلى انغماسه في الحياة العملية، في تلك الحقبة العراقية، وإلى بدئه بالكتابة في صحف عراقية أهمها “الهاتف” و”الحضارة … إلى حين إبعاده من العراق العام 1949 تنفيذاً لحكم نوري السعيد (رئيس وزراء العراق في عهد الملك فيصل الثاني)…

بعد عودته إلى وطنه الأول لبنان، بدأ يكتب المقالات في صحف ومجلات أدبية لبنانية وعربية مختلفة، أبرزها صحف “الحياة” و”الأخبار” و”السياسة” و”النداء” ومجلّتي الثقافة الوطنية” و”الطريق”، عن تلك الفترة المهمة التي عاشها في العراق، تحدّث حسين مروة عن حياته الثقافية والفكرية في مقابلات إذاعية وصحافية كثيرة في لبنان، أذكر أبرزها، مثلاً، مقابلة طويلة أجراها معه الصحافي اللبناني محمد أبي سمرا، نُشرت في مجلة “المسيرة” في بداية العام 1981، كانت بعنوان “حسين مروة يتذكّر” … كما صدر (عن “دار الفارابي”) العام 1981، كتابٌ عن حسين مروة، عنوانه “حسين مروة، شهادات في فكره ونضاله“… ثم حديثه مع الكاتب والشاعر عباس بيضون، الذي نُشر في جريدة “السفير” اللبنانية العام 1984، على مدى ستة أعداد، صدرت في كتيّبٍ بعنوان “ولدتُ شيخاً وأموت طفلاً“… إلى مقابلة طويلة أجراها معه صديقه الباحث الدكتور أحمد علبي، سُجّلت على أشرطة، يفوق عددها على العشرة، ثم نُقلتْ على”CD “… هذه المقابلة تُعتبرُ من أهم المصادر التي يروي حسين مروة فيها تفاصيلَ عن مسيرة طويلة شاملة عن حياته على جميع الصُعد، من شخصية إلى ثقافية، أدبية، فكرية، نقدية وكفاحية.

… وكي أضيء أكثر على مسيرة حسين مروة، أذكر مقالةً مهمة له نُشرت في مجلة “الطريق”، عام 1984، عنوانها “من النجف دخل حياتي ماركس“، هذه المقالة، يمكن اعتبارها أيضاً جزءاً من فصول سيرةٍ ذاتية من حياته في المرحلة العراقية واللبنانية، تُضافُ إلى مقالاتٍ لا تُحصى في صحف ومجلات لبنانية…

… لم يُتَح له (في حياته) أن يجمعَ كامل مقالاته المنشورة في الصحف العراقية وينسّقها كما كان يرغب، ليضمّها إلى مجموع ما نشر من مقالاتٍ وكُتب في لبنان، فكان لا بد لنا، نحن الأبناء، أن نعودَ إليها، (بعد اغتياله، ومع الأسف الشديد…) لكن كيف الوصول إلى تأمينها…؟ 

 صودف أن تعرّف علينا أحد قارئي كتابات حسين مروة (وهو عراقي)، بواسطة صديق لبناني مشترك، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويبدو أنه قرأ الوصية التي سبق أن كتبها حسين مروة للمرحوم الكاتب محمد دكروب، الذي نشرها بدوره، يرجوه فيها الوصول إلى هذا الإرث الثمين…  تواصل معنا هذا الصديق الجديد الوفي، وتكرّم، مشكوراً جداً، بتأمين الكثير، الكثير من هذه المقالات وإرسالها إلينا لنتمكن من جمعها في كتاب، (أو كتب مستقلة) بعد تنسيقها، تضاف إلى مجموعة كبيرة من الدراسات والأبحاث والمقالات، الأدبية والفكرية والتراثية والنقدية والسياسية….، المنشورة في عدد من المجلات والصحف اللبنانية والعربية.. لم يتح له جمعُها كاملة، بل بقيت على صفحاتٍ مطوية، تخسرها الثقافة العربية، كأنقى وأغنى من بقائها نائمة (والتي احتفظنا بها وقرّرنا تحقيق حلمه القديم هذا…)

بدأنا – نحن أبناؤه – جمعها بهدف نشرها وإصدارها في كتب، بمساعدةٍ مشكورة جداً من أصدقاءَ أعزّاء لنا، لكنْ توقّفنا بعض الوقت بانتظار استكمال ما تبقى من مجموعة مقالات، لم تصلْنا بعد، علماً أنني (أنا ابنته) بدأت منذ عدة سنوات بنسخِ أعدادَ كبيرةٍ من مقالاته ونشرها على صفحات الفايسبوك، في مناسبات ملائمة…

***

 38 سنة مضت على الجريمة البشعة النكراء، التي اقترفتْها أيدي القوى الظلامية بتنفيذ اغتيال هذا الإنسان الهادئ الوديع، الإنسان المثقف الكبير…. 

 أستذكر ذلك اليوم (بحسرة..): ماذا حدث وكيف، ولماذا…؟؟؟

هكذا حدثت حادثة الاغتيال بالتفصيل:  

 كنا قبل ساعتيْن معاً، في بيته، ظهراً، تناولنا طعام الغداء معاً (كعادتنا، أحياناً)، وانصرفنا، أنا وعائلتي، تاركين له حرية النوم (القيلولة) كعادته بعد وجبة الغداء اليومية، كوننا نسكن في البناية نفسها، واتفقنا (هو وأنا) على متابعة العمل بعد أن يستيقظ من قيلولته، الساعة الرابعة، (ليشربَ شاي العصرية كعادته، ثم نتابع العمل الاعتيادي الذي بدأناه منذ أيام: هو يملي عليّ توسيع رؤوس الأقلام المسجلة عنده على قصاصاتٍ من الورق كتبها، تحضيراً للبدء بكتابة الجزء الثالث من موسوعته المعلومة “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية“، وكان موضوعها إلقاء الضوء على المرحلة العربية الإسلامية في المغرب العربي … بقي ابني البكر كريم، يدرس في غرفة مكتب جدّه، تلبيةً لرغبتنا، نحن والديْه، كي يلبّي احتياجاته عند الضرورة،  في ذلك اليوم العصيب، حين كانت أكثر الأحياء والطرقات، في بيروت، تتعرّض للقصف بين بعض التنظيمات المحلية.

وكان الشهيد حسين مروّة قد كتب عن مشروع الجزء الثالث من النزعات المادية وتحضيره له “… المشروع لا يزال يحتاج إلى حلقتِه الثالثة.. وهي تتناول الفلسفة العربية الإسلامية ‏في المغرب، أي في شمال إفريقية وفي الأندلس، في العصر الوسيط، أي تتناول الفلسفة ‏العربية الإسلامية بصورتها التي ظهرتْ على أيدي ابن رشد وابن طفيل وابن باجة وغيرهم.. ‏وقد كنتُ بدأتُ هذه الحلقة قبل حرب بيروت العام 1982، لكن هذه الحرب صرفت الجهد كلّه ‏إلى خندقٍ آخر… والآن أحاول استعادة التعامل الجدّي مع هذه الحلقة لإنجاز الجزء الثالث من “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية “.. ولا ندري الآن: هل ستجيئنا حربٌ جديدة ‏تصرفنا إلى خندقٍ جديد..”  (ح . م)… ‏

أعود إلى الجاني، الذي دخل إلى بيت حسين مروة، مستعيناً بـ “ناطور البناية”، مهدّداً بالسلاح (وربما كان البيت مراقَباً كون ابني اضطر فجأة للصعود إلى بيتنا، في الطابق الخامس، لقضاء حاجة، كي لا يُزعجَ جدّيْه)..، بعد خروج إبني بلحظات عرفنا من الجيران بأنه دُقّ جرس البيت، فتحت والدتي الباب: كانا شخصيْن، أحدهما يحمل كلاِشنكوف والثاني ” يبدو” أعزلاً.. دخلا البيت واتّجها مع الوالدة إلى غرفة النوم، بعد أن طلبت الوالدة من المسلّح أن يتركَ سلاحه عند الباب.. وافق الثاني ودخل معها إلى الغرفة.. أيقظه من نومه، أمسك يده بـ”حنان” وأنزله من سريره وسار به إلى ما بين الخزانة والسرير، ثم طلب من الوالدة الخروج من الغرفة، لكنها رفضت ووقفت بقرب زوجها، مقابل القاتل، قائلة: إحكي بوجودي، ما فيش أسرار بيني وبين زوجي… لم تتلقَّ الجواب لكنها لمحته يضعُ يده في جيبه…! وبلحظة يسحب مسدساً (كاتماً للصوت) يصوّبه على الأذن من الجهة اليسرى لتخرج الرصاصة من الجبين في الجهة اليمنى، وتستقرّ على الحائط المقابل، ثم يدفع به على جسد الزوجة، قائلاً بصفاقة: “استلقّي”، وانصرف بهدوء وبكل برودة أعصاب … لأصل أنا وزوجي وولديَّ من بيتنا (حين فاجأنا الجيران بأن والدي وقع على الأرض غارقاً بدمائه…!!)… دون أن يعلموا بما جرى، وفوجئنا به ممدّداً على الأرض، رأسه على حضن الوالدة مضرّجاً بالدم في غرفة النوم… والباقي….. أتركه للزمن….

فما عساني أقول حين فوجئتُ بالخبر…؟ بقيت مذهولة لأسمع من والدتي، بكلام متقطّع، كيفية حدوث الجريمة، في حين لم يتمكّن أحد من الأخوة والأقارب والأصدقاء من الحضور إلى المنطقة بسبب انتشار الاشتباكات في كامل أحياء العاصمة والضاحية الجنوبية من بيروت…، لكنّ الخبر انتشر بواسطة إذاعة “مونتي كارلو” بخبر “عاجل”، بعد دقائق من حادثة الاغتيال…!!! 

لقد كان بإمكان حسين مروة أن يخرج من بيروت أثناء الاشتباكات بين المتحاربين أو أثناء الاجتياح الصهيوني ودخوله العاصمة اللبنانية، لكنه أصرّ على البقاء والمشاركة في الصمود والنضال مع مواطنيه بالعمل الثقافي في كتابة المقالات اليومية في الصحف الوطنية، وهو جزء من النضال العنيد والمقاومة ضد المشروع الصهيوني الغاشم… 

نستذكرك اليوم حسين مروة، وفلسطين ولبنان يعاني شعباهما ما يعانيان مما كنتَ تحذّر منه دوماً في مجالسك وكتاباتك ومقابلاتك، ونتذكّر أن اغتيالك واغتيال الوطنيين في لبنان في تلك الأيام العصيبة هو جزء من المخطط التآمري ضد الفكر النيّر المنفتح على الثقافة الحرّة، المنفتحة على العالم المسالم المحب للعيش الرغيد والكريم…

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

هذه تحيتي الثانية إليكِ..

رسالة لأهالي غزة من أرشيف المفكر الشهيد حسين مروة في عام 1957 بعنوان:” تحية إلى أهل غزة”

لينين وجانب من نتاجه الفلسفي

خاضَ لينين معركة فلسفية ضد المثالية ومحاولات استخدامها للاكتشافات العلميَّة، وفق تأويلها المثالي لها، لدحض الفلسفة الماركسية. في معركته الفلسفية أظهرَ لينين الارتباط المادي الديالكتيكي بين الفلسفة والسياسة، والخلفية السياسية للهجوم على الفلسفة الماركسية – اللينينية، والأبرز في ذلك يكمن في عمق اطلاعه على النتاج الفلسفي في تلك الحقبة التاريخية وردِّه الفلسفي العميق عليها.

انتخابات ٢٥ يناير ١٩٦٧ المزوّرة

عندما اتضح أنّ قائمة “نواب الشعب” ستحرز نجاحاً مرجحاً في المعركة الانتخابية، استعدت السلطة لتزوير الانتخابات، بهدف ضمان غالبية المجلس إلى جانبها…