بين مطرقة نتنياهو وسندّان ترامب: “اتفاقية وقف الأعمال العدوانية” خارج التطبيق

حتى نستطيع فهم ما يجري، اليوم، من اعتداءات صهيونية مستمرة على لبنان، وجنوبه بشكل خاص، ومن مقاومة لهذه الاعتداءات، لا بد لنا من العودة قليلاً إلى الوراء، إلى ما بعد “النكبة” وبالتحديد إلى اتفاقية الهدنة الموقعة بين لبنان والكيان الصهيوني، في 23 آذار / مارس 1949، في رأس الناقورة، هذه الاتفاقية التي تلت الحرب العربية (الفاشلة) التي خيضت، مبدئياً، من أجل منع تقسيم فلسطين وفي سبيل عودة الذين هجّروا من أهلها إلى كل ديارهم.

تنص الاتفاقية على مسألتين أساسيتين متعلقتين بما سمّي “خط الهدنة”، الأولى وهي أن الغاية الأساسية من هذا الخط “هي تحديد الخط الذي لا يجوز أن تتخطاه القوات المسلحة التابعة لكل من الفريقين” (المادة 4)، والثانية وهي أن هذا الخط “يتبع الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين”(1). إلَّا أن العدو الصهيوني لم يحترم توقيعه على الاتفاقية، بل على العكس من ذلك، قامت قواته باحتلال قرى وتشريد أهلها، وتنفيذ مجازر بحق المدنيين أهمها مجزرة بلدة حولا؛ وتتابعت الاعتداءات في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وصولاً إلى ضرب مطار بيروت (1968) وعدد من القرى والجسور الجنوبية (1971)، وإلى قصف المخيمات الفلسطينية في الشمال، وتنظيم الاغتيالات ضد قادة المقاومة الفلسطينية في بيروت (1972)(2) … وصولاً إلى احتلال الشريط الحدودي (1978)، بمساعدة قائد القوة العسكرية اللبنانية في الجنوب آنذاك، الرائد العميل سعد حداد. وهذا الغيض من الفيض لم يتوقف عند حد، بل عمد الكيان الصهيوني، في العام 1982، إلى الاستفادة من الحرب الأهلية لاجتياح لبنان واحتلال كل الجنوب والبقاع الغربي وقسم من الجبل وصولاً إلى تدنيس عاصمته بيروت وإلى محاولة فرض اتفاق 17 أيار/ مايو؛ كما أعاد الكرّة في العام 2006، وكذلك في الحرب الأخيرة المستمرة حتى يومنا هذا، على الرغم من قرار “وقف الأعمال العدائية” الذي أقر في 27 تشرين الثاني / نوفمبر من العام الماضي… تجاه هذه الاعتداءات المتلاحقة، كانت المقاومة الوطنية، في كل مرحلة من المراحل، الرد المنطقي من أجل تحرير الأرض من رجس العدوان.

هذه الصفحة التاريخية السريعة والمقتضبة ضرورية لفهم مندرجات قرار وقف إطلاق النار، ولماذا لم يحترم العدو هذا القرار حتى الآن ولا، كذلك، قرار الانسحاب من جنوب لبنان بانتهاء مدة الستين يوماً، بل لماذا قرر رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب إلزام الحكومة اللبنانية بتمديد مهلة الانسحاب حتى الثامن عشر من شهر شباط / فبراير القادم. بمعنى آخر، كان لا بد من التأكيد على أن المسألة تتعلّق، قبل كل شيء بأطماع الصهاينة في توسيع رقعة احتلالهم للأرض اللبنانية الممتدة من الحدود المؤقتة التي أقرّت في العام 2006 حتى جنوب نهر الليطاني، وهذا ما يفسر استفادة العدو من وقف النار للاستمرار في التدمير المنظم للقرى والبلدات، وفي منع أهالي الجنوب من العودة إلى قراهم (3) وبدء عملية إعادة الإعمار بالتالي.

ماذا يتضمن القرار الجديد – القديم “لوقف الأعمال العدائية”؟

من يقرأ نص القرار دون إلمام بتاريخية الصراع مع العدو لا بد وأن يظن أن لبنان هو المعتدي، فباستثناء بعض الإشارات السريعة للكيان المغتصب، يركّز النص على واجبات الدولة اللبنانية وعلى كيفية تطبيق قرار نزع سلاح “حزب الله” وغيره ممن أطلق عليهم اسم “الجماعات المسلحة”، عملاً بالقرار 1701، وبيع وتوريد الأسلحة التابعة لها، “بدءاً بجنوب الليطاني” ووصولاً إلى كل المناطق والحدود اللبنانية… بينما لا توجد إشارة واحدة إلى الجبهة الجنوبية والشرقية من الحدود اللبنانية وإلى نوع التواجد العسكري الصهيوني في تلك المناطق أو إلى السلاح الموزّع بكثافة على المستوطنين الآتين من كل أصقاع العالم، ناهيك باتفاقية الهدنة السابقة وما كانت تنص عليه في هذا المجال. كل ذلك، في وقت قررت فيه الإدارة الأميركية الجديدة رفع الحظر عن القنابل الضخمة المرسلة إلى فلسطين المحتلة وإعادة تدفّق السلاح والذخيرة إلى نتنياهو كي يتمكّن من تأمين مصالح الامبريالية الأميركية وغيرها من الدول الرأسمالية في استخراج الغاز من مياهنا الإقليمية وفي السيطرة على الحوض الشرقي للبحر المتوسط.

ولا ننسى أن الولايات المتحدة قد ألغت عملياً دور الأمم المتحدة في ترؤس الآلية التنفيذية الثلاثية للبحث في الوضع في جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة، وأصبح المندوب العسكري الأميركي، بالتعاون مع المندوب الفرنسي، الرئيس الفعلي للجنة التي تبت بكل الأمور اللوجستية، وحتى بمسألة الحدود وخاصة النقاط الثلاثة عشر التي تحفّظ عليها لبنان إبان ترسيم “الخط الأزرق” في العام 2000، ناهيك بمسألة مزارع شبعا وتلال كفر شوبا التي لا يزال يحتلها العدو منذ العام 1968… 

أما الأشد خطراً من هذا وذاك، فيكمن في الاتفاق الثنائي الذي تم بين الرئيس الأميركي السابق جو بايدن ونتنياهو، بمعرفة وموافقة الرئيس الأميركي الحالي. هذا الاتفاق الذي ينص على دعم الولايات المتحدة الأميركية “لحق” العدو الصهيوني في أن يبقي سماء لبنان مفتوحة أمام طائراته ومسيراته بهدف مراقبة مباشرة لكل ما يجري على الحدود اللبنانية البرية والبحرية والتدخل العسكري المباشر في حال ارتأى أن هناك خطراً داهماً على كيانه. هذا، عدا عن الخرائط التي وزعتها بعض “المصادر الإعلامية” الصهيونية مؤخراً، والتي تتحدث عن قضم مناطق لبنانية جديدة وعن كيفية استغلال مياه الليطاني ومتفرعاته…

ونظراً لتمديد فترة بقاء القوات العسكرية الصهيونية المحتلة حتى أواسط شباط / فبراير، وربما أكثر، في بعض هذه المناطق التي شملتها الخرائط المشار إليها، ونظراً إلى أعمال العنف والقتل المتعمد الذي يواجه به يومياً أهالي الجنوب، عدا عن استمرار تفجير المنازل والمؤسسات وإحراق الأراضي الزراعية والحرجية، بينما قوات الجيش تنتظر رحيل المحتل وقوات اليونيفيل عاجزة عن التحرّك (عبر خضوعها للقرار الأميركي)، وكون لا وضوح في أفق تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة التي ستشرف على تنفيذ الاتفاق ومعه إعادة الإعمار، نرى من الواجب رفع الصوت في هذه المرحلة المصيرية والدعوة إلى تكاتف القوى السياسية والشعبية التي لا تزال تعتبر الكيان الصهيوني عدواً لنا. فالمصلحة الوطنية العليا تقتضي، اليوم وأكثر من أي وقت مضى، العمل على استعادة السيادة الحقيقية على أرض الوطن ومياهه وثرواته، ومنع تكرار ما جرى من سرقة 1420 كيلومتراً مربعاً من مياهنا الإقليمية من قبل العدو الصهيوني، بإشراف الولايات المتحدة الأميركية، بل واستعادتها ومعها استعادة مزارع شبعا وتلال كفر شوبا. وفي هذا المجال الأخير، نعيد التأكيد على ما تضمنته المادة الثانية من الدستور التي تقول بعدم جواز التخلي عن أحد أقسام الأراضي اللبنانية أو التنازل عنه. 

***

(1) تم تحديد هذه الحدود في العام في العام 1923، نتيجة عمل لجنة فرنسية – بريطانية ترأسها من الجانب الفرنسي المقدم بوليه ومن الجانب البريطاني المقدم نيوكومب؛ غير أن خط الهدنة لعام 1949 لم يأخذ بعين الاعتبار ما جاء في المادة الخامسة، إذ اقتطع 16 كيلومتراً مربعاً من عدد من أراضي البلدات اللبنانية الواقعة على الحدود لصالح الكيان الصهيوني. وفي العام 2000، وضعت الأمم المتحدة خطاً حدودياً جديداً، “الخط الأزرق”، وقد تحفظ لبنان على هذا الخط وفقاً لمعيار خط الهدنة…  

(2) لمواجهة هذه الاعتداءات المتكررة والتي نادراً ما واجهها الجيش اللبناني في حينه، بحجة أن “قوة لبنان في ضعفه” وأن الجيش غير قادر على صد العدوان، عمد أهل القرى إلى حفر الملاجئ والتدريب على حمل السلاح، وشكلوا ما سمي بـ “الحرس الشعبي” في العام 1969.

(3) مسحت القوات الصهيونية، حتى كتابة هذه السطور، 29 قرية وبلدة من الخريطة، كما عمدت إلى تدمير القسم الأكبر من 60 بلدة وقرية أخرى، في وقت عمدت فيه الولايات المتحدة إلى إدراج بند تغيير الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة… ولا ننسى أن الكيان الصهيوني لا يزال يحتل مزارع شبعا وتلال كفر شوبا، كما لا ننسى أنه يقبع اليوم في الجزء السوري من جبل الشيخ الذي يمتلك لبنان جزءه الآخر…

Author

  • د. ماري الدبس

    نائب الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني والمنسقة السابقة للقاء اليساري العربي.

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

حرب السودان … مهددات التقسيم

يبدو أن هناك مهددات باتت واضحة لتقسيم السودان أسفرت عنها حرب الجنرالات في السودان التي انطلقت في الخامس عشر من إبريل/ نيسان من العام 2023، والتي تكاد تكمل عامها الثاني.

‏الكونغو الديمقراطية على حافة الانهيار: تصعيد الحروب بالوكالة وتحولات الخريطة السياسية

سيطرة المتمردين على غونا قد تؤدي إلى انهيار الحكومة المركزية في بعض المناطق، ما قد يخلق فراغاً سياسياً يسمح بتوسع الجماعات المسلحة الأخرى في مناطق أخرى من البلاد.

مستقبل الصراع اليمني – الإسرائيلي

باتت “إسرائيل” ترى في اليمن تهديداً استراتيجياً طويل الأمد، وتقدر أنها في حرب مفتوحة مع اليمن لا تنتهي بمجرد التوصل لاتفاق إطلاق نار مع المقاومة في غزة الذي تحقق مؤخراً.

الأمين العام للحزب الشيوعي السوري الموحد نجم الدين الخريط لـ «تقدُّم»: المرحلة التي تمر بها سورية تستوجب بلورة حالة وطنية لمواجهة العدوان الصهيوني وتحرير الأراضي المحتلة ورفض التقسيم

ليس من حق ولا صلاحيات أحد – مهما كان ومن كان- أن يتكلم بالنيابة عن أبناء شعبنا السوري في قضية حقوقه المشروعة بتحرير جميع أراضيه المحتلة.