
تأسيس النقابات العمالية الكويتية في منتصف الستينات
كان تأسيس النقابات العمالية واحداً من بين أهم ما شهدته فترة أواسط ستينات القرن العشرين في الكويت من أحداث وتطورات. وقد أدركت الطبقة العاملة في
قبل ستة أعوام وفي يومٍ مماثل لليوم 20 مارس، دخلتُ خيمة عزاء غريبة، في منطقة العيون بالجهراء. لم أكن أعرف أحداً فيها سوى الغائب الوحيد عنها، فتصرّفت كما يليق بالغرباء؛ الدخول المرتبك والمشي المتردّد والمصافحة الحائرة والجلوس المنزوي الصامت واجتناب النظر إلى الوجوه الحزينة.
أيقنت أن ناصر كان صادقاً عندما وصفني، قبل عامٍ واحد، بالصديق المباغت. كان ذلك خلال احتفالية أقيمت يوم 17 أبريل 2018 في رابطة الأدباء الكويتية للاحتفاء بأعماله الأدبية. لم تنطل خدعة أصدقاء ناصر النبيلة عليه، فقد كان يعلم بانتصار المرض عليه واقتراب فم الموت منه، وعندما ألقى كلمته على منصّة المسرح، أزاح جانباً الألوان المبهجة التي حرص أصدقاؤه الأوفياء على تزيين وجه المناسبة بها، وأظهرها على حقيقتها المجرّدة: “لقاء الوداع الأخير”، فمحت الدموع ابتسامات الأصدقاء المصطنعة عن وجوههم، وبكى معهم. ترجّل عن المنصّة بصعوبة بسبب آلام جسده، وجلس إلى طاولة وُضِعت بجانب باب المسرح لتوقيع كتاب” ناصر الظفيري- رواية الوطن والغربة” الذي يتضمن شهادات مجموعة متميزة من الأدباء والمثقّفين والأصدقاء. مددتُ له نسخة الكتاب كي يوقّعها وعندما عرفني استبقتهُ بمد يدي لمصافحته جالساً، محاولاً منعه من النهوض المؤلم، لكنه أصر على الوقوف، ولم يكتف بالمصافحة، قبّلني مُظهِراً فرحته وامتنانه برؤيتي ثم كتب بخطه الجميل:
“عبدالهادي الجميل- صديقٌ مباغت… شكراً لحضورك”.
جادلته، ضاحكاً حينها، بأنني قد قرأت ثلاثيّته بعمق وتبصّر، وهذا يكفي كي أصبح صديقاً غير مباغت، وذكّرته بمقولة رولان بارت “على المرء أن يخفي عن الآخرين صيدلية بيته ومكتبته، لأن الصيدلية ستخبرهم عن أمراضنا، والمكتبة قد تخبرهم بأكثر مما نريدهم أن يعرفوا عنّا”. ضحك وقال: تركت صيدليتي ورائي في كندا لأن دوائي الحقيقي هنا، أمّا مكتبتي فلن تخبركم عنّي بأكثر مما أخبرتكم به على المنصّة قبل قليل.
أعاد لي الكتاب وتصافحنا، ثم غادرت مبنى الرابطة تاركاً إياه بين أصدقائه غير المباغتين، ولم أره بعد ذلك.
من الجهراء إلى كندا: رحلة البحث عن وطن
وُلد ناصر الظفيري عام 1960 في الجهراء، ونشأ في مجتمع البدون، حيث الوطن فكرةٌ بعيدة، والانتماء مشروطٌ بورقة رسمية غير متاحة لجميع مستحقيها. درس الهندسة المدنية، لكنه وجد في الأدب مساحةً أوسع ليعبّر عن نفسه. بدأ مسيرته الصحفية في جريدة “الوطن”، وهناك، وسط المقالات والتقارير، صقل قلمه قبل أن يتفرغ تماماً للرواية.
في عام 2001، غادر الكويت إلى كندا، بحثاً عن مستقبلٍ آمن لأسرته. لم يكن هروباً، بل كان انتقالاً قسرياً فرضته الظروف. رغم ذلك، واصل الكتابة في منفاه البعيد، ولم يقطع صِلته بوطنه الأم.
ثلاثية الجهراء: عندما يصبح الأدب وثيقة تاريخية
لم يكن ناصر محايداً في رواياته، كما لم يكن مجرّد راوي قصص. كان صوتاً احتجاجياً، يسجّل التاريخ من وجهة نظر الذين عايشوه ولم يجدوا من يتحدث عنهم أو يوثق تجربتهم. لم تكن ثلاثية الجهراء المكونة من “الصهد”، “كاليسكا”، و”المسطر” مجرد حكايات عن شخصيات متخيلة، بل كانت تأريخاً أدبياً لمعاناة البدون، الذين وجدوا أنفسهم عالقين في فراغ قانوني وإنساني. ويعيشون على هامش المجتمع الكويتي وخارج حسابات الدولة ويقبعون في ظلام قبو الوطن، بلا هوية أو حقوق، وبلا مستقبل واضح. أسوأ ما قد يحدث للإنسان هو أن يولد ويحيا ويموت كمهاجر غريب في وطنه.
الصهد 2013: جذور الأزمة
تبدأ الثلاثية برواية “الصهد”، التي ترسم ملامح الحياة اليومية لشاب اسمه علي شومان يواجه معضلة كبرى كونه من البدون، فيعيش في ظل التهميش والحرمان من الهوية الرسمية، مما حوّل حياته الغضّة إلى سلسلة من الصراعات المؤلمة التي تنتهي دائماً بالخيبات المرّة. يُحرم علي من إكمال دراسته الجامعية لعدم حصوله على أوراق ثبوتية، فيموت حلمه على عتبة الجامعة ويفقد الأمل بمغادرة دائرة الفقر المحيطة بأسرته. وعندما يسعى للحصول على وظيفة لائقة يصطدم مرةً أخرى بعقبة غياب الأوراق الثبوتية، فيضطر لقبول أي وظيفة أو مهنة متاحة براتب تافه وساعات عمل طويلة. ينعكس هذا الأمر على علاقته بأسرته فيتشاجر مع والده الذي يعجز عن توفير الحياة الكريمة له، وكأنه يلومه على إنجابه وهو يعلم بصعوبة الحياة في مجتمع لا يعترف به.
علي شومان في الرواية هو رمز شباب البدون الذين يذوبون تحت “صهد” الظلم السياسي والاجتماعي.
كاليسكا 2016: الهجرة كخيار أخير
في الجزء الثاني من الثلاثية، يبدّد ناصر الظفيري وهم الهجرة الذي يغري شباب البدون، فيتتبع رحلة أحد الذين قرروا الهجرة بحثاً عن حياةٍ جديدة. بطل الرواية، محمد العواد، يغادر الكويت إلى كندا، لكنه يكتشف أن الغربة ليست حلاً سهلاً، بل هي منفىً من نوعٍ آخر. هناك، بين ثلوج أوتاوا، وبين صراع الهوية والانتماء، يدرك أن الوطن ليس مجرد مكان، بل هو إحساسٌ يطارده أينما ذهب.
اختار ناصر أن يجعل من “كاليسكا” سرداً يفضح الوهم الذي يعيشه الكثير من البدون، وهو أحدهم، عندما يظنون أن الرحيل قد يكون حلاً. لكنه في الحقيقة، لا ينهي المعاناة، بل يعيد صياغتها بطريقةٍ أخرى.
سألت الكندية ستيفاني بطل الرواية محمد العوّاد: ” لماذا تركت وطنك؟
-لم أتركه، هو تركني”.
ترد ستيفاني ابنة السكان الأصليين لكندا:” أنا أعيش في وطني الذي لا أملكه وأشعر بغربة حقيقية”.
محمد العوّاد هاجر إلى كندا ليصبح كندياً، فوجد ستيفاني الكندية تشعر بالغربة في وطنها وهو ذات الشعور الذي دفعه للهجرة من الكويت التي نفرته!
المسطر 2018: الصرخة الأخيرة
وصف ناصر الظفيري الوطن في رواية “المسطر” على لسان رومي راضي: “أنا يا صديقي كنت أنتمي إلى هنا، حتى اكتشفت مبكراً أن الوطن كذبة صغيرة لا تستحق حتى إثمها. الوطن هو ما في داخلك كالإله الذي تعبده، إذا لم يسكنك لن تعرفه، الوطن ليس قدراً”.
وعندما شعر ضيدان خال رومي، في الرواية، بدنو أجله بعيداً عن الكويت، قال لرومي مؤكداً عدم ندمه على حياته وشبابه الذي أفناه في الكويت:
” لست نادماً على شيء، لكني حزين فقط لأنهم يكذبون علينا. ففي حرب 1967 قالوا لنا: أنتم أبناء الوطن وحين ترجعون إلى الكويت سننهي أمور تجنيسكم.
عدنا شهداء وأحياء ولم يلتق بنا أحد ولم يهتم بنا أحد”.
فقال رومي: “لن تعود إليهم وستبقى معي هنا.
– لا تتركني أموت غريباً هنا. أعدني إليهم هؤلاء الذين يكذبون، إنهم أهلي وأريد أن أُبعث في قيامتي معهم”.
وعندما نشبت حرب 1973 ذهب ضيدان مع القوة الكويتية إلى الجبهة، ووعدوهم مجدداً بالتجنيس فور انتهاء الحرب وعودتهم إلى الكويت، لكن ضيدان كان متشككاً هذه المرّة.
وعندما كان ضيدان مع كتيبته في السعودية استعداداً لشن حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي عام 1990 خطب فيهم أحد المسؤولين قائلاً:” أنتم أبناء الوطن وسنجنسكم فور تحرير الكويت” أشاح ضيدان بوجهه جانباً وضحك، وكان ضحك كالبكاء.
في ختام الرواية يسأل ضيدان ابن أخته وهو على فراش الموت: “من الذي ظلمني يارومي”؟
في هذه الرواية يبلغ ناصر أقصى درجات المواجهة. فالحكاية هنا لم تعد فردية، بل أصبحت أكثر اتساعاً، لهذا لم يترك مجالاً للتأويل أو التخفيف. إنه يكتب بحبرٍ مشبع بالغضب، لأنه يعرف أن هذه الرواية قد تكون شهادته الأخيرة.
يحصل بطل الرواية رومي على الجنسية الأمريكية ويصبح اسمه رومي جيمسون، وعندما يعود إلى الكويت بجوازه الأمريكي يرفض التحدث باللغة العربية ويتصرف بعجرفة الأمريكان وتعاليهم، وكأنه ينتقم لكرامته عندما كان بدون هوية في الكويت.
يصف ناصر حال البدون على لسان ضيدان الغاضب واليائس من عدم الاعتراف به كمواطن أثبت ولاءه للكويت في أيامها الكبرى: “نحن عالقون في المكان والزمان”.
البدون في الكويت: جرحٌ لا يندمل
كانت قضية البدون دائماً ملفاً شائكاً في الكويت. عشرات الآلاف يعيشون دون هوية قانونية، بلا حقوق واضحة، محرومين من التعليم، الصحة، والعمل. إنهم مواطنون منسيون، رغم أنهم ساهموا في بناء الدولة منذ نشأتها.
بعد ست سنوات من الرحيل: هل تغيّر شيء؟
لا تزال روايات ناصر الظفيري تُقرأ، لا تزال كلماته تتردد، لكن الواقع لم يتغير. ترجمت بعض أعماله إلى الإنجليزية بفضل الباحثة والمترجمة الكويتية أنوار السعد، ما سمح بوصول صوته إلى العالم، لكن السؤال الأهم يبقى: هل استمع العالم؟
علي شومان في “الصهد” هاجر إلى كندا وحصل على جنسيتها بعد ثلاثة أعوام، لم يتحدث خلالها هاتفياً إلى أبيه المريض، ثم عاد إلى الكويت بجواز كندي وهو التغيير الوحيد الذي طرأ عليه. ذهب وعاد بذات الهموم التي غادر بها وكأنه لم يغادر الكويت.
أقتبس من الرواية هذه المحادثة الموجعة بين علي وأبيه:
“علي..علي
-نعم يا أبي
أين كنت؟
-في متاهتي يا أبي.
هل حققت كل ما تريد؟
-لا يا أبي
هل أنت نادم يا بني؟
-لا يا أبي
هل أنت سعيد الآن يا بني؟
-لا يا أبي
ماذا تريد؟
-لا شيء
خذني يا علي إلى التلال”.
شومان في نهاية الرواية أطلّ على الجهراء، للمرة الأخيرة، من تلال المطلاع حيث قضى طفولته وصباه وشبابه، ودُفن في المقبرة القريبة، وكان أسعد حظاً من ناصر الظفيري الذي مات في كندا كمهاجر ودُفن، تحت ثلوجها الموحشة، كغريب.
لا أدري من قال: “كي تنجو، عليك برواية القصص”.
ناصر الظفيري روى القصة، ولم ينجُ، لكنه أبقى ذاكرة البدون حية. ظل يقول: “سأقاتل حتى آخر يوم في حياتي حتى يبقى هذا الأدب كويتياً” وهذا، في النهاية، أكثر ما كان يمكن أن يفعله أي كاتب.
ناصر الظفيري لم يمت.
من يكتب، لا يموت..
كاتب تقدمي من الكويت. مؤلف رواية مخيال معيوف والمجموعة القصصية المقطر الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية.
كان تأسيس النقابات العمالية واحداً من بين أهم ما شهدته فترة أواسط ستينات القرن العشرين في الكويت من أحداث وتطورات. وقد أدركت الطبقة العاملة في
المرحوم راشد حمد المحارب الهين المطيري، مناضل كويتي تقدمي بدأ الخطوات الأولى لمسيرته الكفاحية في إطار حركة القوميين العرب، وعندما شهدت انقسامها التاريخي في أعقاب
في ذكرى رحيل المفكر والفيلسوف كارل ماركس
في ذكرى رحيل الشهيد الصحافي اللبناني سهيل طويلة