“الترامبية” إنذار لنظام يحتضر

-+=

نعيش حاليًا ما يمكن تسميته بـ “الحقبة الترامبية، نسبة إلى دونالد ترامب، الرئيس الأميركي الذي عاد منتصرًا إلى البيت الأبيض، ليعيد ممارسة هوايته الأثيرة: التهديد والوعيد، لا للخصوم فحسب، بل حتى للحلفاء. محاطاً بفريقٍ من المتعصبين، يتكون من أصحاب المليارات ورجال الجيش والاستخبارات، الذين يرفعون شعار “أميركا أولاً”، في استدعاء صارخ ومريب لشعار الفاشيين الإيطاليين “إيطاليا أولًا”. وقد جسّد هذا المشهد بصورة رمزية الملياردير “إيلون ماسك” خلال حفل تنصيب ترامب، حين أدّى ما يشبه التحية النازية، لا كتقليد بل كإعلانٍ ضمني لطريقة التفكير وأساليب الحسم.

إنها عودة أساليب تعاطي عنيفة مع القضايا المصيرية. إبادة جماعية، سحق للمعارضين، كراهية منظمة. والأسوأ من كل ذلك، أنها تحظى بدعمٍ دوليٍ وقح، حيث تُرتكب المجازر في غزة على يد الكيان الصهيوني تحت مظلة أميركية من السلاح والإعلام، وبقرارات تنضح بالاستهزاء من مؤسسات دولية تجرأت على إدانة الجرائم الصهيونية. أما ترامب، فلم يكتفِ بالدعم، بل دعا صراحة إلى تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر والأردن، في تكرار بشع للجرائم التي ارتكبها المستوطنون البيض المؤسسون لأميركا ضد السكان الأصليين من الإبادة والتهجير القسري.

لكن يبقى السؤال الصادم: هل ترامب مجرد ديكتاتور؟ أم أنه يمثل تيارًا أعمق في بنية النخبة الأميركية؟ تيارٌ يستخدم الخطاب الشعبوي لاستمالة ملايين الأميركيين الذين طحنهم الاقتصاد منذ أزمة 2008، مرورًا بكورونا 2020، وحتى اليوم؟ في هذا السياق، جاءت إجابة السيناتور الجمهوري البارز “ليندسي غراهام” “ترامب ليس مجرد جرح؛ إنه جزء من هويتنا، جزءٌ حقيقي من العائلة الأميركية.”

قبل أن نخوض في تفاصيل الرؤية والسياسات “الترامبية”، كإحدى تجليات الأزمة البنيوية للرأسمالية المعولمة، دعونا نضع تصورًا واضحًا لماهية تلك الأزمة.

الرأسمالية ليست نظامًا اقتصاديًا وحسب؛ إنها آلة جشعة، لا تبتغي سوى أقصى ربح، وتدور في حلقة مفرغة من الأزمات الدورية: ركود، تضخم، ثم ركود تضخمي، في دوّامة لا تنتهي، وإن اختلفت درجتها ومدتها. هذه الأزمات، كما رأى ماركس، ليست استثناءات بل تجليات طبيعية للنظام نفسه، حيث تؤول الأمور إلى “ميل معدل الربح للانخفاض على المدى الطويل”، أي أن الأرباح الناتجة عن النشاط الاقتصادي تتقلص تدريجيًا، ممَّا يدفع الرأسمالية إلى التمدد في كل مجالات الحياة، من الدين إلى الفن، من العواطف إلى العملات المشفرة.

هل تذكر أزمة 2008؟ أزمة الرهون العقارية؟ فقاعات العملات الرقمية في العقد الأخير؟ هذه ليست مجرد ابتكارات مالية، بل مخارج يائسة للرأسمالية من أجل مواصلة تراكم الرساميل، حتى لو عنى ذلك خلق أسواق من الهواء.

وهنا نشير إلى الوصفة السحرية لإنقاذ الرأسمالية، المتمثلة في “العسكرة – العولمة – الأمولة”.
هذا الثالوث مكّنها من البقاء لعدة عقود، خصوصًا من خلال فرض العولمة بقوة السلاح على دول الجنوب، فتم تقسيم العمل عالميًا، بحيث لا يُسمح لهذه الدول سوى بتصدير المواد الخام أو السلع الوسيطة، في حين تُحتكر القيمة المضافة والتكنولوجيا والاستهلاك في دول المركز (أميركا، أوروبا الغربية، اليابان).

أما “الأمولة”، فهي الغرق في الديون والرهونات والأسواق الوهمية، لإبقاء الجنوب تحت هيمنة الشمال، وتحديدًا تحت قبضة واشنطن.

لكن، ما الجديد إذن؟

الجديد هو الصين، التهديد الآتي من الشرق، الذي لم يقتصر على التحدي الاقتصادي، بل استخدم أدوات الرأسمالية ذاتها، وتحديدًا “العولمة”، لتُحقق قفزات تاريخية في اقتصادها، وتراكم قوتها المادية والرمزية. الصين اليوم تمثل تهديدًا وجوديًا للنظام العالمي الذي تأسس بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في 1991.

وهنا، نعود إلى ترامب: الترامبية لم تأتِ من فراغ، بل كاستجابة هستيرية لهذا التهديد المتصاعد. تراجع العولمة، ارتفاع النزعات الحمائية، الخطابات العنصرية الشعبوية، فرض الرسوم الجمركية، كلها ليست مجرد أدوات سياسية، بل تمثل عودة للرأسمالية إلى “قوقعتها الوطنية”، بعد أن جابت العالم تلتهم موارده وتفرض عليه أنماط استهلاك ومعيشة.

العولمة والترامبية 

نقصد بالعولمة إزالة العوائق أمام حرية انتقال رؤوس الأموال على النطاق العالمي. ونقصد بالعوائق: الحواجز الثقافية والاقتصادية والسياسية التي تعيق انتقال رؤوس الأموال. وعليه، تم الترويج لثقافة عالمية موحدة، تبتلع الثقافات المحلية، وتطمس الهويات الوطنية، وتغتال الخصوصيات القومية.

في عالم الاقتصاد، تجسدت هذه الهيمنة في النيوليبرالية، التي بشّرت بحرية الأسواق، وتراجع دور الدولة، وإلغاء التخطيط المركزي، ورفع يدها عن التنظيم، وفتحت الأبواب أمام تقديس الملكية الفردية، وجعلت القطاع الخاص – سواء أكان محليًا أو أجنبيًا – القائد الأوحد للاقتصاد والمجتمع ومسيرة التنمية. كل ذلك تحت مظلة “توافق واشنطن”، والذي وقفت خلفها بشراسة قلاع الرأسمالية الكبرى: صندوق النقد، البنك الدولي، وعلى المستوى السياسي، الأمم المتحدة.

لقد كانت العولمة أداةً مثالية للحفاظ على علاقات التبعية والاستغلال بين دول المركز الرأسمالي ودول الأطراف. لكن ما كان في الأمس فرصةً للنظام، أصبح اليوم تهديدًا وجوديًا له. لتقريب الصورة، تخيل العولمة طريقًا وعِرًا، أُجبر الجميع على السير فيه رغم الصعوبات، وكان مرصوفًا وفقًا لأطماع الإمبريالية الساعية لنهب ثروات وأسواق الجنوب العالمي، لكن حين جاءت الصين، وسارت في هذا الطريق ببراغماتية نادرة، لا لتسقط فيه، بل لتعيد هندسته بما يخدم مصالحها، وتستغل ما صنعه الآخرون، أصبحت هي التهديد. بنت الصين إمبراطورية جديدة، بهدوء وتخطيط، وأصبح الطريق الذي عبدته العولمة سلاحًا ضد من صنعه.

هنا، شعرت أميركا بالخطر. وها هي اليوم، تريد أن تدير ظهرها لهذا الطريق الوعر، طريق العولمة، وتحاول أن تنسحب، أن تسير وحدها من جديد، كما بدأت ذات يوم.

لهذا، لا يمكننا أن نُسقِط ترامب من المشهد باعتباره مجرد مؤد يتقافز على خشبة المسرح السياسي؛ إنه أبعد من ذلك بكثير، إنه التجسيد الصارخ لاتجاه سياسي وفلسفي متجذر في قلب الرأسمالية نفسها. فخلف عباراته النارية، تكمن رؤية متماسكة لنظام مأزوم يبحث عن خلاص.

ثمة نقطتان لا يمكن تجاوزهما:

أولاً، الغرب لم يفتح أبواب العولمة مصادفة، بل بعد أن أسس قوته الإنتاجية، ثم شرع في تصديرها إلى العالم. والصين، هذا العملاق الصاعد، سارت على الدرب ذاته: بنت قوتها أولًا، ثم انطلقت كالسهم تهزم الجميع على طريق ممهد بأقدام الآخرين.

ثانيًا، العولمة لم تكن يومًا ظاهرة جديدة، كما زعمت أميركا في تسعينيات القرن الماضي. فما شهدناه من “تراجع” عنها ليس سوى عودة إلى الأصل. التاريخ حافل بأمثلة عن عولمة اقتصادية متأرجحة، منذ القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين، حيث سادت حرية التجارة وتنقل رؤوس الأموال، لكن حينما اصطدمت مصالح الإمبراطوريات، اندلعت الحروب التجارية التي كانت الشرارة الأولى للحربين العالميتين. كانت تلك الحروب، في جوهرها، صراعًا صفريًا شرسًا بين قوى عظمى قديمة وأخرى ناشئة، تتصارع على الأسواق والمواد الخام وتصدير الفائض.

ومع تعمق أزمة النظام الرأسمالي، تصاعدت التناقضات الداخلية والخارجية. فالمستعمرات القديمة ثارت، والعمال في المركز صرخوا، فما كان من الأنظمة الاستعمارية إلا أن مارست القمع الوحشي، أو قدمت الرشى، فقط لتأجيل الانفجار.

لكن التأجيل لم يُجدِ. سقطت الدعاية الليبرالية عن الحقوق والحريات، ليخرج من رحم الأزمة مسوخ الفاشية: موسوليني في إيطاليا، وهتلر في ألمانيا.

واليوم، نعيش لحظة مشابهة. فالعالم يشهد تجدد الأزمة، وصعود “ترامبية” متوحشة، بلا أقنعة ولا وعود عظيمة، بل مباشرة وصارخة. هذا الصعود هو مرآة لاحتدام الصراع الطبقي داخل الغرب، وتصاعده خارجه.

ترامب لم يسقط حقًا. بل ها هو يهرب من المساءلة، بعد سقوطه في انتخابات 2020، كأنما النظام نفسه عاجز عن محاسبته. وهذا الإفلات، في حد ذاته، إدانة للنخبة الليبرالية التي فشلت في تقديم تفسير عميق للأزمة، ولقرارات ترامب التي تصوغ الواقع الجديد عبر صناعة “أعداء وهميين” في الداخل والخارج.

في الداخل، يُحمِّل المهاجرين وزر الانهيار. وفي الخارج، يُحرض على الصين، يهدد أقرب الحلفاء، يهين كندا، يهاجم الاتحاد الأوروبي، ويصف الناتو بثقوب تنزف منها الثروة الأميركية. وكأن العالم بأسره يتآمر على أميركا، ولا خلاص إلا بالعودة إلى الوراء، إلى الانغلاق، إلى “أميركا أولًا”، العودة إلى درب مظلم تسير فيه القوة وحدها، بلا رادع، بلا شركاء، بلا قانون.

أميركا والعالم… إلى أين؟

في إجابته عن سؤال “أميركا إلى أين؟”، يجيبنا محمد نعيم بأننا أمام “أميركا جديدة”، أقل من إمبراطورية، وأكبر من إمبريالية، وأميل أنا إلى تسميتها بـ “الإمبريالية المفرطة”؛ تلك الإمبريالية التي لا تملك اليد العليا في النظام العالمي الجديد، الذي يتحول إلى نظام متعدد الأقطاب، وفي الوقت نفسه تملك من الإمكانيات والأدوات ما لم تملكه أي دولة إمبريالية في التاريخ من قبل.

إمكانيات قد تأخذ العالم إلى مزيد من الحروب والإبادات، وإلى مزيد من تفاوت الثروة والسلطة والدخل. وبالطبع، تقع منطقتنا العربية المنكوبة في قلب هذا الجحيم.

ما العمل؟

دعوني أستعير كلمات عمنا نجم في رسائله إلى غيفارا:


“ما فيش بديل، ما فيش مناص… يتجهزوا جيش الخلاص، ويتقولوا على العالم خلاص.”

لا يمكن مواجهة الترامبية وابنتها “الصهيونية”، بما تحملانه من مخاطر وجودية على مستقبلنا كعرب ومصريين بوجه خاص، وبوجه عام  كبشر، إلا بالتنظيم الثوري. فلا يُستبعد أن تقودنا الترامبية إلى حرب كونية بالأسلحة النووية تحمل نهاية العالم كما نعرفه.

المواجهة الحقيقية للترامبية لن تكون إلا عبر تشكيل “الكتلة التاريخية” القادرة على التصدي للخطر الترامبي. ولا يصح الحديث عن كتلة تاريخية دون تنظيم الطبقات الشعبية، ذات المصالح المتعارضة مع المشروع الترامبي خارجيًا، والمتعارضة مع الطبقات الحليفة والعميلة للأميركان داخليًا.

نحن هنا لا نتحدث عن حلم أو وهم، بل عن مشروع طبقي وطني قومي تحرري، قائم على تمكين الطبقات الشعبية ذات الوضع البروليتاري، بدونه سيُباد هذا الشرق، ولن يكون له شاهد إلا رماد الذاكرة، وأختتم بكلمات أستاذي سمير أمين:

“أما الاشتراكية، وإما البربرية.”

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

لا مجد في الحرب

تُستقى حكمة المعركة الحقيقية من فنادق الخمس نجوم حيث تُعقَد صفقات السلاح، ومن الغرف المغلقة حيث تتفاوض النخب عبر الحدود لتسوية الأمور لمصلحتها.

عربدة العدو الصهيوني في المياه العربية

في هذا الوضع الخطير الذي يهدد الأمن المائي والقومي العربي لا بد من طرح استراتيجية مائية عربية واضحة تضع كافة الشعوب العربية والقوى الوطنية والتقدمية والقوى الحيَّة في العالم أمام مسؤولياتها للدفاع عن الموارد المائية العربية وتقف صفاً واحداً بوجه هذه العربدة الصهيونية.