في الذكرى الثانية والستين على وفاته.. ناظم حكمت شعلة لا تنطفئ لليسار العالمي

-+=

تمر في الثالث من يونيو هذا العام الذكرى الثانية والستين لوفاة الشاعر والمناضل الشيوعي الكبير ناظم حكمت (١٩٠٢- ١٩٦٣) الذي توفي إثر نوبة قلبية  في  موسكو حيث كان يعيش منفياً عن وطنه تركيا. لا شك أن مهمة الإحاطة الوافية بسيرة وإرث هذا الإنسان العظيم في سطور قليلة ستكون مهمة صعبة وشائكة، خاصة إذا أخذنا باعتبارنا أن تلاحم وانصهار السياسي بالأديب في شخصيته قد ساهما في إعطاء زخم وثراء وتنوع في نشاطه الإبداعي والسياسي قل أن نجده نظيرهما لدى أي إنسان آخر. ربما تضاف صعوبة أخرى إلى الموضوع تتلخص في حقيقة أن ما نُشر وتُرجم لناظم حكمت إلى اللغة العربية شحيح للغاية بالمقارنة مع ما كتبه باللغة التركية.  يبدو أن مقدار محبتنا له يفوق حجم ما نعرفه عنه، وعزاؤنا أن قيمة ما نعرفه كافية لتلهمنا بقية عمرنا. هناك طبعة يتيمة لأعماله الشعرية نشرتها دار الفارابي في مطلع الثمانينات بترجمة فاضل لقمان، وعشرات الترجمات والدراسات عنه نشرت هنا وهناك في سنوات متفرقة، ومؤخراً أصدرت دار الفارابي كتاباً هاماً للشاعر والمؤرخ اللبناني محمد نور الدين تحت عنوان “ناظم حكمت، من قمة الرأس حتى أخمص القدمين” (الطبعة الأولى عام ٢٠٢٢). إلا أن كل ذلك – على الرغم من أهميته –  غير كافٍ. نعم لا نزال نجهل الكثير عن إبداع ناظم حكمت بالمقارنة مع ضخامة حجم أعماله المنشورة باللغة التركية، إذ يكفي أن نعلم بأن طبعة الأعمال الكاملة التي أصدرتها دار النشر التركية ( يابي كريدي – Yapı Kredi Publications (YKY)  ) تبلغ ثلاثة وثلاثين مجلداً مقسمين على النحو التالي: ثمانية مجلدات للشعر – خمسة مجلدات للمسرحيات – ستة مجلدات تحتوي على كافة كتاباته الصحفية – أربعة مجلدات للقصص القصيرة – ثلاثة مجلدات للروايات – وسبعة مجلدات من دفاتر ملاحظاته للسنوات من ١٩٣٧ حتى ١٩٤٢.  لا يختلف الأمر من ناحية ترجماته المتوفرة باللغة الانجليزية عن حالها في اللغة العربية، بضعة ترجمات وعشرات الكتب والدراسات، وربما تجدر الإشارة هنا إلى أحدث كتاب صادر عن أكسفورد عام ٢٠٢٣  للمؤرخ “جيمس ماير” بعنوان “نجم أحمر فوق البحر الأسود – ناظم حكمت وجيله” الذي تضمن معلومات مثيرة ومهمة  تم الكشف عنها لأول مرة من الأرشيف السوفيتي عن حياة ناظم في موسكو. 

مسيرة حياة ناظم حكمت وحقبها الزمنية

هناك مقاربات متعددة لتصنيف مسيرة حياة ناظم حكمت النضالية والإبداعية، تعتمد على منظور المؤرخ أو الناقد أو كاتب السيرة، إلا أنني أميل إلى تقسيمها إلى ثلاث حقب زمنية تبدأ من مطلع عقد العشرينات حين بلغ التاسعة عشرة من عمره وتنتهي مع وفاته مطلع الستينات من القرن الماضي. من الضروري قبل استعراض تلك الحقب المقترحة، أن نؤكد على فهمها ضمن السياق السياسي والفكري الذي شكل مسار الأحداث التي شهدها ناظم حكمت  في تركيا والعالم في النصف الأول من القرن العشرين، فقد كان زمن نهاية الحرب العالمية الأولى، وتكالب القوى الإمبريالية على تركيا لتقسيمها، ولكنه أيضاً كان زمن حرب التحرير والاستقلال بقيادة أتاتورك، كما كان زمن انتصار الثورة البلشفية في روسيا  القيصرية، وتأسيس الإتحاد السوفيتي بقيادة الحزب الشيوعي وقائده لينين، كما عاصر حكمت زمن الحرب العالمية الثانية ولاحقاً الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. نشدد هنا على ضرورة وأهمية فهم هذا السياق لأنه بدونه سيكون أي فهم لدور ناظم حكمت ومكانته وإبداعه فهماً ناقصاً وسطحياً، وخاصة إذا أخذنا بعين اعتبارنا بأن أعداء ناظم حكمت في الماضي (القوى الرجعية والفاشية والإمبريالية)، هم نفس أعدائه الآن، وإن تنكروا هذه المرة بأقنعة الحداثة الزائفة في مختلف تجلياتها المادية والفكرية والسياسية. الجديد هو أن أساليبهم أصبحت أكثر مكراً وخبثاً، فهم الآن، وبعد أكثر من ستين عاماً على وفاته، وفي ظل الإجماع العالمي على أهميته، يسعون إلى تحويل ناظم حكمت إلى سلعة لترويج السياحة، وإلى “تحييد” الصفة النضالية الشيوعية في شخصيته، والتركيز فقط على تلك القصائد والإبداعات الأدبية ذات الصفة “الجمالية” البحتة حسب رأيهم من أجل صرف الأنظار ونسيان الجوانب النضالية المشرقة والمتأصلة في إبداعه وحياته. يحضرنا في هذا السياق مقطع شعري بالغ الدلالة قاله ناظم حكمت: “أن تزور متحفاً فهذا شيء جيد، أما أن تتحول إلى متحف فهذا شيء مريع!” (من قصيدة مذكرات الجيوكاندا / مارس ١٩٢٤). نعم إن تحويل ناظم حكمت إلى “متحف” من الماضي هو ما يسعى إليه أعداء الحرية والتقدم الاجتماعي بالضبط، وذلك عبر احتواء عملية الاحتفاء بذكراه وجعلها مقتصرة فقط على الجانب الإبداعي، وفصل وعزل هذا الجانب عن دوره النضالي وأفكاره ومواقفه الثورية المبدئية المنحازة إلى مصلحة الطبقة العاملة والكادحين بمختلف فئاتهم.   

 يمكن اعتبار الحقبة الأولى (استغرقت عشرين سنة من مطلع العشرينات حتى ١٩٣٨) بمثابة أهم مرحلة في حياة ناظم حكمت، إذ تم فيها وضع حجر الأساس لرؤيته في الحياة، وشهدت ذهابه إلى الاتحاد السوفيتي ودراسته في جامعة كادحي الشرق، وانضمامه للحزب الشيوعي التركي. بدأها بمغامرة رحلته الشهيرة إلى الأناضول مع صديقه “والا نور الدين” للالتحاق بجيش التحرير قيادة مصطفى كمال أتاتورك، وتعرفه بالصدفة خلال تلك الرحلة على طلبة أتراك كانوا عائدين من ألمانيا في أعقاب قمع انتفاضة ١٩١٩ العمالية بقيادة “كارل ليبكنخت”، و”روزا لوكسمبورغ”. تأثر هؤلاء الطلبة بشدة بما شاهدوه في برلين إبان الانتفاضة، وتحولوا إلى شيوعيين متحمسين على إثر تلك التجربة.  قضى ناظم حكمت وصديقه والا نور الدين لياليَ طويلة في حوارات ونقاشات مع هؤلاء الشبان الأربعة، وخاصة قائدهم “صادق آهي” ذو الشال الأحمر، وجذبتهم بشكل خاص الأفكار الماركسية وما سمعوه لأول مرة عن ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا، وكيف أنه في أعقاب الامبراطورية القيصرية المستبدة تأسست دولة يحكمها العمال والفلاحين. لاحقاً سيتذكر ناظم حكمت تلك المغامرة التي عاشها في مطلع شبابه وأدت إلى اعتناقه الأفكار الشيوعية وسيلخصها في قصيدته الشهيرة “عامي التاسع عشر”: “أنت يا أول أطفالي، أنت أيها المعلم الأول لي، يا أول الرفاق، أنت يا عامي التاسع عشر، أحترمك كأمي، وسأبقى أحترمك. أسير على أول الطرق التي ذرعتها، وسأبقى أسير”. يمكن ملاحظة أن ثيمة عامه التاسع عشر، ستتكرر في مسيرة حياته، وتبدو كأنها حوارية داخلية مع مثيله/شبيهه. لماذا تكتسب هذه الحوارية أهمية؟ لأنها تفصح عن الثابت والمتحول في كل من شعره وشخصيته. الثابت هو قناعاته الشيوعية التي لم يتزحزح عنها قيد أنملة، والمتحول هو الأسلوب الأدبي الذي يبدع فيه. طيف عامه التاسع عشر سيصبح المعيار الذي يقيس به نفسه كلما تقدم بالعمر. عندما بلغ الثامنة والأربعين، وفي التاسع من يناير ١٩٥٠، كتب رسالة إلى ابنه محمد:” خط الشيب شعر رأسي، وجهي كله تجاعيد، كبدي تؤلمني، وألم قلبي مستمر، ولكن في قصائدي فأنا لا زلت ناظم حكمت في عامه التاسع عشر. حتى في اليوم الذي سيدفنوني في الأرض، سيتمكن عامي التاسع عشر من الوقوف شامخاً فوق جثتي والقول: أحسنت أيها العجوز، بقيت شاباً، ولم تكبر أبداً”. 

يمكن القول بأن الحقبة الأولى قد انتهت مع سلسلة المحاكمات المهينة والظالمة التي تعرض لها حكمت في أواخر الثلاثينات، وانتهت بمحاكمته العسكرية على متن بارجة حربية عام ١٩٣٨، والحكم عليه بعقوبة ثمانية وعشرين سنة قضى عشر سنوات منها معتقلاً في سجن بورصة، لتبدأ ما يمكننا أن نطلق عليه الحقبة الثانية من حياته، وهي من أكثر فترات حياته صعوبة ولكنها أيضاً من أكثرها عطاء وصموداً ضد المحن. ما كابده حكمت من ظلم لم يقضِ على عزيمته وقناعته بعدالة قضيته، وحكايات صموده الأسطوري في سجن بورصة لا زالت مصدر إلهام للعديد من الأجيال. في معتقله أبدع واحدة من أجمل الملاحم الأدبية في القرن العشرين: “مشاهد إنسانية من وطني” وهو نص لا يزال إلى يومنا هذا يدهش قرائه بمحتواه وأسلوبه الفريد. ناظم حكمت يفرش الكلمات على الصفحة بصورة تجبر القارئ على الإبطاء، أو الإسراع في قراءة النص، مثل عدسة الكاميرا. أسلوبه قصيدة نثر بصرية، كأننا نقرأ سيناريو مشاهد سينمائية. من هنا ننبهر بجمالية النص وغرائبية تركيبه. استغرق ناظم حوالي خمس سنوات في كتابة هذه الملحمة، وكان يبعث بفصولها إلى صديقه “كمال طاهر” وزوجته “بيرايه” التي كانت تتغزل فيه بقولها: “أنت عذب كسهل بورصة حيث ينبت كل شيء بسهولة، فأنت تستطيع أن تكتب كثيراً بعناء قليل”. ربما يكمن السر في حس التفاؤل الدائم الذي يتميز به:” عليَّ أن أعيش أيامي على الأمل، لا على سماع الأخبار!”.  كما كتب في أحد مقاطع ملحمته.  هذا التفاؤل كان يغذي صموده. في قصيدة له عن جبل “أولوداغ” يقول فيها: “حدقت في أولوداغ وجهاً لوجه لمدة سبع سنوات، كلانا لم يتحرك من مكانه!”.

في مطلع الخمسينات نجحت حملة التضامن الدولي في إجبار السلطات على إطلاق سراحه، خاصة بعد منحه جائزة مجلس السلم العالمي وهو في السجن. إلا أن حقد وكراهية الدوائر الفاشية له وخاصة في الجيش لم ينتهِ، ودبروا مؤامرة جديدة لنفيه إلى بقعة معزولة في الأناضول، مما دفعه للهروب في قارب صغير مبحراً في عباب البحر الأسود متجهاً إلى رومانيا ولاحقاً إلى الاتحاد السوفيتي ليقضي بقية حياته منفياً خارج بلاده. لم تغفر له سلطات بلاده ذلك وقامت بسحب جنسيته عقاباً له (تم إرجاع جنسيته له عام ٢٠٠٨ بعد أكثر من سبعة وخمسين عاماً على سحبها منه). بعد خروجه من تركيا بدأت الحقبة الثالثة والأخيرة من حياته التي استمرت لمدة ثلاث عشرة سنة، كان فيها مناضلاً أممياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى وخاصة في أنشطة مجلس السلم العالمي. ربما تجدر الإشارة هنا إلى حادثة زيارته إلى بيروت عام ١٩٦٠، بتكليف من مجلس السلم العالمي لتسليم جائزة المجلس للأديب جورج حنا. حين رست السفينة التي تقل ناظم حكمت في بيروت تم رفض منحه تأشيرة دخول، فهرع الأدباء الذين جاؤوا لاستقباله إلى الشاعر اللبناني سعيد عقل الذي وافق على لعب دور الوساطة وذهب بنفسه إلى مدير المرفأ لإقناعه بالموافقة على دخول حكمت، وتم ذلك عبر إصدار تأشيرة ثلاثة أيام. يذكر الشاعر اللبناني هنري زغيب أن سعيد عقل رافق بعدها “الشاعر حكمت مع عدد من أدباء لبنان وتوجهوا جميعاً إلى القصر الجمهوري حيث استقبله الرئيس الجنرال فؤاد شهاب”، كما يذكر أن الأخوين رحباني استضافا ناظم في سهرة في منزلهما حيث غنت له فيروز مجموعة من أغانيها. 

من أجمل إبداعات الحقبة الثالثة لناظم حكمت يمكننا الإشارة إلى روايته الرائعة “الحياة جميلة يا صاحبي”. تشير مصادر سيرته إلى أنه كان يفكر في موضوع الرواية لسنين، ولكنه احتاج فقط لشهر واحد ليكتبها في فندق في وسط مدينة “فيينا” في عام ١٩٦٢. تدور أحداثها في إزمير بتركيا عام ١٩٢٥، ونقرأ فيها مشاهد تعكس سنوات ناظم السابقة في تركيا وروسيا وتجاربه في السجون التركية. في الفصل الأخير يطلب أحد الرفاق من بطل الرواية” أحمد ” أن يقول شعراً، فيجيبه بهذه الأبيات:” أنا شيوعي… عاشق أنا من قمة الرأس إلى أخمص القدمين. العشق رؤية وتفكير وفهم. العشق أن تحب الطفل الوليد وانبلاج الفجر، وتصبو الي النجوم، وتسقى الفولاذ بتعبك.” تعقيباً على هذه القصيدة تقول إحدى الشخصيات واسمها “ناريمان” الجملة التي تحولت إلى عنوان للرواية: “الحياة شيء جميل يا رفيقي”. 

في النص الأصلي لمخطوطة الرواية يستخدم ناظم حكمت كلمة “أنا شيوعي” في القصيدة التي ترد في الختام. لاحقاً تم استبدالها بتعبير “كادح” في معظم الترجمات الأجنبية، الأمر الذي دفع بصندوق ناظم حكمت الثقافي في أنقرة في نوفمبر ٢٠١٧، إلى الاحتجاج وإصدار بيان يوضح فيه موقفه الرافض للرقابة على النص الأصلي، والتي تمت في ظل قانون تجريم الشيوعية في تركيا، وبما أن القانون قد تم إلغاؤه، فإن شطب كلمة الشيوعية في ٢٥ موضعاً في الرواية، بما فيها نص القصيدة النهائية أصبح غير مبرر. وأوضح البيان “أن هوية ناظم حكمت الشيوعية، هي هوية إنسانية من قمة الرأس إلى أخمص القدمين”.  

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

شهداء الثلاثاء الحمراء: فؤاد حجازي.. محمد جمجوم.. عطا الزير “الاستقلال التام أو الموت الزؤام”

حكاية أبطال ساروا في درب الجلجلة، المقاومة، ضد المشروع الصهيوني، هو درب ستبقى جذوره راسخة جيلاً بعد جيل إلى تحرير فلسطين، كاملة، من الاحتلال الصهيوني، وليد الاحتلال البريطاني ورأس حربة الإمبريالية الأميركية ومشاريعها التوسعية في منطقتنا العربية.

الشيخ إمام تحية ووردة حمراء

ثلاثون عاماً على رحيل صوت أغنية الناس وآلامهم وآمالهم، صوت الأغنية السياسية الوطنية الملتزمة قضية الوطن، والعمال والفلاحين والمثقفين الثوريين، الملتزمة قضية فلسطين

في ذكرى شهداء نابلس

في الرابع من حزيران / يونيو العام ١٩٨٩ نفذ ثلاثة أبطال عملية داخل فلسطين المحتلة، هي “عملية نابلس”، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، فقد تسلل المقاومون

حديث للشهيد حسين مروة في ذكـرى النـكـبـة

إنه لأمر عظيم أن يكون شعبُ فلسطينَ العربيُّ نفسُه هو الذي حدّد لنا جميعاً إحدى هذه المهمات، بل أهمها وأعمقها أثراً، وأقربَها إلى المنطق العملي الثوري، أعني مهمة المقاومة المسلّحة.