السيف.. والمحراث.. والمستقبل السوري

في المنعطفات الكبرى، مَن يضع الأهداف، ومَن يحدّد الأولويات، ومَن يقطف الثمار، ومَن يدفع الثمن؟

لن نجد الجواب إلا بالبحث عن العامل الاجتماعي الرئيسي في هذه الانتفاضة أو تلك، والقوى السياسية التي تعبّر عنه، والأهداف المعلنة والمضمرة، والحلفاء في الداخل والخارج، والأساليب المستخدمة لإحداث التغيير. إنها بديهيات أكّدتها الثورات الكبرى وما تخلّلها من انتصارات وهزائم. مشروعية المطالب هنا رغم أهميتها لا تضمن النجاح، فالمسألة تتعلق بالقوى المحركة وقيادتها، وبرنامجها السياسي والاجتماعي والإنساني، كذلك باختيارها للّحظة التاريخية المناسبة، كما يتعلق بطبيعة التغيير القادم وجوهره، مَن هي الفئات الاجتماعية المستفيدة من هذا التغيير، مَن سيرفع وبمَن سيهوي؟ فالهروب من (تحت الدلف إلى تحت المزراب) ليس انتصاراً، بل هو نكسة لمن خرج مطالباً بغدٍ أفضل.

المنتصرون في سِفر الثورات العالمية على مدى التاريخ، اكتشفوا في أحيان كثيرة أنهم كانوا أضاحي، والمنهزمون خرجوا من الباب وعادوا من الشبّاك بعد أن بدّلوا زيّهم، وتبدّدت الأحلام الوردية كسحابة صيف، أما شعارات الحرية والعدل والمساواة، فاختنقت في الحناجر، وتحولت إلى (بوسْتَرات) ملوّنة تزين جدران مخافر الشرطة وغرف الاعتقال والتعذيب.”على ألواح الشمع لا تستطيع كتابة أيّ شيء جديد ما لم تَمْحُ القديم وتُزيله، أمّا مع صفحات العقل فالأمر ليس كذلك، هنا لا تستطيع محو القديم ما لم تُنجز كتابة الجديد” (فرانسيس بيكون).

لقد أنجز النظام المنهار في سورية بذاته عوامل انهياره، فخلال ستة عقود من الحكم المستند إلى سلطة الحزب الواحد والقائد الواحد وتهميش الآخر، والاستئثار بكل كبيرة وصغيرة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ورغم محاولات القوى السياسية في البلاد، وحزبنا الشيوعي السوري الموحد من ضمنها، لفْتَ انتباه أركان النظام إلى ضرورة تنفيذ إصلاحات ديمقراطية، سياسية واقتصادية تجتذب أوسع فئات الشعب السوري، وتوحيد كلمة السوريين عبر حوار وطني شامل يضم الأحزاب السياسية وأطياف المجتمع السوري السياسية والدينية والاجتماعية والإثنية، رغم كل ذلك، كانت آذان أركان النظام دائماً من طين.

 ورغم الغموض الذي اتسمت به الصفقات الإقليمية والدولية التي أطاحت بنظام (الأسد) وأدّت إلى سيطرة (هيئة تحرير الشام) على السلطة في سورية، فقد تساوى التفاؤل والخوف والقلق في صبغ ردود أفعال المواطنين السوريين تجاه التغيير الحاصل في البلاد، فقد تفاءل الكثيرون بسبب انهيار سلطة الحزب الواحد الذي هيمن على سورية منذ نحو ستّة عقود، وكان كثيرون يعتقدون أن ذلك أمرٌ مستحيل، بسبب القبضة العسكرية والأمنية للنظام المنهار، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فقد تخوف الكثيرون أيضاً من الآتي الجديد بسبب خلفيته الجهادية ذات اللون الواحد، وانتابهم القلق حول مستقبل بلادهم بعد أن عانوا طويلاً من التفرد. 

لقد أطلق السيد (الشرع) قائد (هيئة تحرير الشام) حزمةً من الوعود والتطمينات تركزت على حماية الحريات العامة والملكية الخاصة، واحترام العقائد، وتحسين الأوضاع المعيشية، ومحاسبة المتورطين بسفك دم السوريين، وتنظيم حوار وطني يضم أطياف الشعب السوري المختلفة، وتشكيل حكومة مؤقتة، لكن ما حصل في الواقع هو تسريح الجيش السوري وقوى الأمن الداخلي، والاستغناء عن 400 ألف عامل، وتجميد العديد من الإدارات الحكومية، وحبس السيولة النقدية، والتأخر في دفع رواتب الموظفين، في وقت كانت فيه القوات العسكرية للكيان الصهيوني تستبيح الأرض السورية في (القنيطرة) وتهجّر سكانها، رغم تصريحات (الشرع) بأن سورية الجديدة لن تشكّل عامل قلق لجيرانها.

لقد أظهرت مؤشرات عدة خلال فترة قصيرة، بعد أن عُيّن السيد (الشرع) رئيساً للبلاد، بموجب قرار الإدارة العسكرية (لهيئة تحرير الشام )، ومن خلال أوّل الاستحقاقات، وهو مؤتمر الحوار الوطني، أن اللون الواحد سيطغى على جميع الاستحقاقات اللاحقة، وأن شعار (من يحرّر يقرّر) الذي رفعه بعض قيادات (الهيئة) تحوّل إلى سلوك عمليّ، رغم تناقضه مع طموحات السوريين إلى سورية الجديدة الموحدة، فكان حواراً مع الذات لا مع الآخر المتنوّع والمختلف، وخرج بتوصيات مسبقة الصنع بصيغ عامة لا تضمن توحيد الأطياف السورية، ولا تضع الإطار الديمقراطي التعددي الذي يمنع إعادة إنتاج التفرّد والاستئثار والاستبداد.

أظهرت مؤشرات عدة خلال فترة قصيرة، بعد أن عُيّن السيد (الشرع) رئيساً للبلاد، بموجب قرار الإدارة العسكرية (لهيئة تحرير الشام)، ومن خلال أوّل الاستحقاقات، وهو مؤتمر الحوار الوطني، أن اللون الواحد سيطغى على جميع الاستحقاقات اللاحقة، وأن شعار (من يحرّر يقرّر) الذي رفعه بعض قيادات (الهيئة) تحوّل إلى سلوك عمليّ، رغم تناقضه مع طموحات السوريين إلى سورية الجديدة الموحدة.

أما المؤشر الثاني، فكانت أحداث الساحل السوري، التي تحولت إلى (مقتَلة) أعادت إلى الأذهان التحريض والتجييش الديني والطائفي، واستخدام المراكز الدينية ومشاعر المتدينين لاضطهاد الطائفة العلوية، بزعم أنها حاضنة رموز النظام المنهار، هذه (المقتلة) التي أدّت إلى استشهاد آلاف المدنيين الأبرياء من جهة، والتخوف من استمرارها في مناطق أخرى، وبأشكال أخرى من جهة ثانية، علماً أن هذه الطائفة كانت خلال عقود تسلط النظام المنهار من أكثر الأطياف تضرراً باستثناء قلّة منها استغلت نفوذها لتلبية مصالحها الضيقة المعادية لمصالح الوطن والشعب، وجاء المؤشر الثالث، وهو إصدار الإعلان الدستوري الذي صاغته لجنة اللون الواحد، والذي لم ينص صراحة على تبنّي الديمقراطية التي ناضل السوريون من أجلها، والذي افتقد إلى الضمانات الواضحة لبناء سورية الجديدة الديمقراطية.. المدنية.. التشاركية، ليكتمل المشهد المتسم باللون الواحد، الذي سيراه السوريون في الأيام القادمة.

إصدار الإعلان الدستوري الذي صاغته لجنة اللون الواحد، لم ينص صراحة على تبنّي الديمقراطية التي ناضل السوريون من أجلها، وافتقد إلى الضمانات الواضحة لبناء سورية الجديدة الديمقراطية.. المدنية.. التشاركية.

لقد أعلن حزبنا الشيوعي السوري الموحد تنديده بقتل المدنيين في الساحل السوري، كما عارض الإعلان الدستوري، وأكد أن المطلوب اليوم إجراء مصالحة وطنية شاملة وفي جميع المناطق، تضع القاعدة الراسخة لإعادة توحيد أطياف الشعب السوري التي تشكل حسب اعتقادنا حجر الزاوية لبناء سورية الجديدة. 

لقد عانى السوريون خلال الحرب فقدان الآباء والأبناء والتهجير القسري، ودُمّرت قطاعات الإنتاج في بلادهم، وخسروا ممتلكاتهم ووظائفهم وموارد أرزاقهم، وذلك بسبب الاحتكام إلى السلاح بدلاً من اعتماد الحكمة والحوار.

 الشعب السوري اليوم لا يحتاج إلى بندقية أو سيف، بل إلى محراث ليعود إلى زراعة أرضه، ويحتاج إلى معول ليعيد بناء بلاده، وإلى تعاون وصداقة ومحبة تزيّن علاقات السوريين بعضهم ببعض، كما كانت دائماً. 

سورية الجديدة لا تُبنى باستمرار إنتاج الأحقاد، ولا بالشحن الديني والطائفي، ولا بسلوك الانتقام والثأر بدلاً عن العدالة، بل بتجاوز الماضي، والتطلع إلى المستقبل الذي يريده السوريون معبّراً عن وحدتهم لبناء بلادهم السيدة، الديمقراطية، المحرّرة لأرضها المحتلة، والخالية من الاحتلال الصهيوني والأميركي والتركي، والداعمة لنضال الشعب الفلسطيني، وحقوقه المشروعة بالعودة وتقرير المصير.. 

إنها سورية المستقبل!

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

مأزق ترامب وأزمة نتنياهو أمام صمود غزة

انقلبت الإدارة الأميركية على اتفاق وقف إطلاق النار بمراحله الثلاث والذي كان بوساطتها مع مصر وقطر وقد دخل حيز التنفيذ بين المقاومة الفلسطينية وحكومة الاحتلال

قراءة سياسية للمشهد اللبناني: تحدّيات مواجهة العدوان الصهيوني في ظل التركيبة السلطوية المستجدة

يمرّ الوضع اللبناني بمرحلة شديدة الخطورة على جميع الصعد، فمن ناحية ما زال العدو الصهيوني يحتلّ عدداً من المواقع الحدودية، بما يشكّل انتهاكاً سافراً  لاتفاق

كيف يسرق العدو الصهيوني المياه اللبنانية

إنَّ الأطماع الصهيونية في المياه اللبنانية لها تاريخها الطويل، ذُكر بعضها في اللمحة التاريخية عن الأطماع “الإسرائيلية” في المياه العربية وسرقتها (في العدد الرابع عشر